الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 892/رسالة الشعر

مجلة الرسالة/العدد 892/رسالة الشعر

بتاريخ: 07 - 08 - 1950


(هواء وعلم)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(ألقيت في مهرجان العلم والمعلمين بالجزيرة احتفالا بالدكتور

طه حسين بك وزير المعارف)

غناء. . . وأشجى منه ما أنت قائله ... وسحر. . . وأعتى منه ما أنت فاعله

حشدت لك الإلهام من كل مهجة ... ومن كل نور أنت للفن باذله

ومن قمة للفكر أنت بفجرها ... شعاع من الرحمن هلت مشاعله

ومن صيحة للحق، تمضي زئيرها ... كأن بداً للغيب خفت تزامله

ومن أدب حر الأعنة سقته ... إلى الناس ركباً لا تجاري قوافله

مدتت لها الأرسان في كل وجهة ... لمحت بها ليلا، فطارت تقاتله

يمر على جدب العقول حداؤها ... ربيعاً جديد الخطو، غنت أصائله

له مذهب في السير، فالأرض كلها ... زمان وأفق يممته قبائله

ومن فرحة للعلم. . . هذا هديرها ... حواليك ضجت بالوفاء سواحله

تنادى لها طير الجزيرة بالهوى ... وأنطق ضجت الرياحين زاجله

وأصغي إليها النيل حتى حسبته ... أخا لوعة تهفو إليك خمائله

وسبح صمت النخل فيها، ولم تكن ... لتعرف في التسبيح شيئا أنامله

أكاد - ولو لم أصغ - أسمع بظله ... ترانيم طير بالحنين تساجله

فهل هو ممن يعشق الفكر قلبه ... وممن لأهل العلم تنمي سلائله!

ومن كل إيمان، وكل عقيدة ... وكل خيال طاوعته حبائله

حشدت رباباتي، وفني، وصاحباً ... هو الشعر لم تهدأ بأرض رواحله

وجئتك أبغي طيف سحر، فإنما ... بيانك يدري أين تخفيه بابله

بربك هبني بعض وحي لعلني ... لسمعك أشدو وبعض ما أنا حامله

فلا كانت الأوتار إن هز عودها ... هواك، ولم تشج الليالي بلابله. . .

أتاك بناة العقل، من عهد آدم ... وهم حوله نبع نثر مناهله

يجيء لهم طفلا، غريراً مدثرا ... بثوب غرير الوعي، هبل غلائله

يمد يداً ظمآى، وأخرى لعلها ... تشير إلى رى بعيد تحاوله

تلفوه سفحاً جاهلا في مفازة ... بها عبهب الإظلام طنت مجاهله

عنيد الدحي، إن خالس النور ليله ... يضئ، وإن يفجأ حماه يصاوله

سقوا مهده خطو الرسالات رحمة ... وكدحاً صبوراً لا تئن معاوله

وشقوا ثراه، فاستحال يبابه ... حقولا، عليها العلم صافت سنابله

وخلوا جناها للحياة، فإنهم ... هداها، وهم في كل شعب دلائله

فإن شئت بعثاً للبلاد، فهذه ... يد الله فوق الجهل، هذى جحافله

بنان، وإيمان، ولوح، ووقفة ... وما بعد هذا، كله أنت خاذله.

أتوك. . . فجاء والذي سارق الحجا ... فخرت له أبراجه ومنازله

له منطق النور المبين، إذا هوى ... على الشك راحت تستجير مقاتله

يمزق بالتبيان كل مطلسم ... من الرأي حتى تستبين دخائله

وينفض أسرار النفوس بيانه ... كما لو رواها كل طيف تزاوله

إذا رق فالأسحار لحن بكفه ... وطير الربى ناي رخيم يغازله

وإن مس ظلماً، خلت ناراً وعاصيفاً ... وذكرى هشيم في الفيافي تقابله

يسير وحب النيل لحن مقدس ... يهز به سمع الضحى ويطاوله

تطوف على الدنيا خطاه، كأنها ... لمصر نشيد لا تكل فواصله

فكم رحلة للغرب طارت بذكرها ... وغنت بواديها العزيز رسائله

يحب ضنى الأسفار حباً لمجدها ... وتشجيه أشجان السرى وشواغله

رآي العلم مأسور الضياء، كأنه ... شقي على الأصفاد شدت سلاسله

أقاموه في سوق تعاوت دروبه ... وصدت أياديه وسدت مداخله

ونادى مناد فوق أعتاب بابه ... بصوت جهير الظلم بحث غوائله

هنا لألف العصماء، عود ممنع ... من العزة القعساء شيدت حوائجه

هنا الباء طير عبقري مجنح ... على طيفه يبكي من اليأس حابله هنا (ألف) (كالباء)، كل بدرهم ... ومن سام الأسعار لست أعامله

هذا كل حرف في وعاء مختم ... شحيح الرؤى، إياك يوماً تسائله

إذا كنت ذا مال فأقدم، وإن تكن ... فقيراً، فحلم الشمس ما أنت أمله

هنا كل سطر تحت قبر، فإن ترد ... نشوراً، فهات المال تخشع جنادله

هنا سد يأجوج، هنا العلم سلعة ... تباع وتشرى كالمتاع مراحله

وكم من يد جاءت تبكي لقطرة ... فقالت لها بيعي الدموع جداوله

وكم من أب في الكوخ أقعى شقاؤه ... وناحت عليه فأسه ومناجله

أتى ببنيه ضارعاً متوسلا ... لعل حظوظ العاجزين تغافله

فهب المنادي صائحا في عذابهم ... بصوت على الآفاق جوت زلازله

إلى الكوخ عودوا يا بني الفقر، واقنعوا ... فأولى بكم قطعانه وسوابله

أساطير عن (دنلوب) تروى وإنها ... لفتك بروح الشعب دقت وسائله

وقيد لمجد النيل طال هوانه ... وطالت عليه ناره ومشاكله

خطا نحوه (طه) العظيم مؤزراً ... بشعب من الأغلال ملت كواهله

وكر عليه فارساً، في يمينه ... شبل قلم للحق سنت مناصله

هواء وعلم. . . تلك أصداء صيحة ... تغنت بها راياته وحمائله

رماه بها، فإنها دليل مطنب ... من الجهل، ناءت بالضياء كلاكله

وذابت قيود العلم، واندك سجنه ... وراحت لكل الشعب تسقي هياكله

أبا الفكر، لم تلحق شعاعك مرة ... أواخره طول المدى وأوائله،

تنزلته فجراً، ولقنته ضحى ... أضاءت لأحرار العقول مشاغله

فمن شاء صحوا للشعوب ونهضة ... فهذا طريق المجد، هذى دلائله

رعى الله ما أسديت للنيل من هدى ... وبارك عهداً خلدته شمائله

وأبقى يد الفاروق نوراً وقوة ... بها الشعب يجني كل ما هو آمله

محمود حسن إسماعيل