مجلة الرسالة/العدد 87/محاورات أفلاطون
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 87 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
بين القاهرة وطوس ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
15 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- مهما يكن، فأنت تستطيع أن تحكم فيما إذا كان ينبغي أو لا ينبغي لمن لديه المعرفة أن يكون قادراً على تعليل معرفته
- لا شك أن ذلك حتم عليه
ولكن هل تظن أن كل إنسان قادر على تعليل هذه الموضوعات نفسها التي تتحدث عنها الآن؟
ليتهم يستطيعون يا سقراط! ولكم أخشى ألا يكون ثمت من يستطيع في مثل هذه الساعة من الغد أن يقدم تعليلاً جديراً بأن يؤخذ عنه
إذن فليس من رأيك يا سيمياس أن كل الناس يعملون هذه الأشياء؟
- يقيناً أنهم لا يعلمون
- إذن فهم آخذون في تذكر ما قد كانوا يعلمونه من قبل
- يقيناً
ولكن متى كسبت أرواحنا هذه المعرفة؟ - لم يكن ذلك بعد أن ولدنا بشراً؟
- لا، ولا ريب
- وإذن فقبل ذلك؟
- نعم
- إذن يا سيمياس، لا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تُصور في هيئة البشر، ولا بد أن قد كان لديها ذكاء لما كانت بغير أبدان؟
- حقاً يا سقراط، ما لم تفرض أن هذه الآراء قد أوتيتنا في ساعة الميلاد، لأنه لم يبق إلا تلك اللحظة وحدها
- نعم يا صديقي، ولكن متى افتقدناها؟ فهي لا تكون لدينا عندما نولد - وقد سلمنا بهذا.
هل افتقدناها في اللحظة التي فيها أخذناها، أم في وقت آخر غير هذا؟
- لا يا سقراط، لقد أدركت أني إنما كنت أنطق هراء لا أعيه
- إذن، أفلا يجوز لنا يا سمياس أن نقول ما نردده دائماً، وهو إذا كان ثمت جمال مطلق، وخير مطلق، وسائر الجواهر التي اكتشفنا الآن أنها سبقتنا في الوجود، وكنا نقيس إليها كل أحاسيسنا ونقارنها بها - زاعمين أن قد أن لها وجود سابق، فان لم يكن، ذهبت كل قوة في قولنا. فليس من سبيل إلى الشك بأنه إذا كان لهذه المُثُل المطلقة وجود قبل أن نولد، فلا بد أن أرواحنا كانت كذلك موجودة قبل ميلادنا، فان لم تكن المُثُل موجودة، لم تكن الأرواح موجودة كذلك
- نعم يا سقراط، إني مقتنع بأن مقتنع بأن لوجود الروح قبل الميلاد هذه الضرورة نفسها، وأنت إنما تتحدث من الروح عن كنهها: فقد انتهى بنا التدليل إلى نتيجة يسرني أنها تتفق مع ما أرتئيه. فلست أرى شيئاً يبلغ في بداهته مبلغ قولنا إن الجمال، والخير، وسائر الأفكار التي كنت تتحدث عنها الآن تواً، لها وجود غاية في الحق والتجريد، وإني لمقتنع بالدليل
- حسناً، ولكن هل اقتنع سيبيس اقتناعك هذا؟ لأنني لا بد أن أقنعه كذلك
قال سمياس - أظن سيبيس مقتنعاً؟ فإني أحسبه قد آمن بوجود الروح قبل الميلاد، على الرغم من أنه أبعد الكائنات عن التصديق. ولكن دليلاً لم يقم بعد على استمرار وجود الروح بعد الموت، بحيث يقنعني أنا، فلا أستطيع أن أتخلص من شعور الدهماء الذي كان يشير إليه سيبيس - ذلك أن الشعور بأنه إذا مات الانسان، فقد تتبعثر الروح، وقد يكون ذلك نهايتها، فلو سلمنا بأنها قد تتولد وتنشأ في مكان غير هذا، وقد تكون موجودة قبل حلولها في الجسم البشري، فماذا يمنع أن تبلي وتفنى بعد أن حلت فيه ثم خرجت منه ثانياً؟
فقال سيبيس - هذا جد صحيح يا سمياس، أما أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد، فهو الشطر الأول من الحديث، ويظهر أن قد قام الدليل عليه، وأما أن الروح ستبقى بعد الموت، كما كانت قبل الميلاد، فهو الشر الآخر، الذي لا يزال يعوزه الدليل، ولابد له من التأييد
قال سقراط - أي سمياس وسيبيس! لو أنكما أضفتما التدليلين أحدهما إلى الآخر - أعني هذا وما سبقه، الذي سلمنا فيه بأن كل شيء حي قد ولد من الميت، لرأيتما أنا قد فرغنا من إقامة هذا الدليل، لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجيء إلى الحياة وإذ تولد، لا تكون ولادتها إلا من الموت ومن يعالج الموت، أفلا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لابد لها أن تولد مرة أخرى؟ لا ريب في أنا قد فرغنا من إقامة البرهان الذي ترجوان، ولكني مع ذلك، أحسبك أنت وسمياس، لا ترغبان في أن تُخبرا هذا الدليل أكثر من ذلك، فقد استولى عليكما ما يستولي على الأطفال من فزع، خشية أن يذرو الهواء الروح حقيقة، ويبعثرها عند فراقها الجسد، وبخاصة إذا كتب لإنسان أن يموت في جو عاصف، ولم يقدر له الموت حيث السماء ساكنة
فأجاب سيبيس باسماً - إذن يا سقراط، فواجبك أن تنفض عنا خوفنا بالدليل - ومع ذلك فليست هي مخاوفنا، إن توخيت الدقة في القول، ولكن هنالك في طويتنا، طفل ينظر إلى الموت، كأنه ضرب من الغول، فلا بد أن نحمله كذلك على ألا يفزع إذا ما انفرد وإياه في الظلام
قال سقراط - ردد في ل يوم صوت الساحر، إلى أن تطرد بالسحر ذلك الغول
- وأين عسانا أن نجد ساحراً حاذقاً يقينا مخاوفنا بعد ذهابك يا سقراط
فأجاب - إن هِلاس، لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعاً، ولا تدخر في البحث جهداً ولا مالاً، فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم فوجوده هاهنا أرجح منه ف أي مكان آخر
فأجاب سيبيس - لن نتردد في القيام في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن، إذا شئت، في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها
فأجاب سقراط - طبعاً، وماذا أريد غير هذا؟ فقال: حسناً جداً
قال سقراط - أفلا ينبغي أن نسائل أنفسنا سؤالاً كهذا: - ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من بيعة الروح أم لا - فعلى ذلك سنقيم ما نكن لأرواحنا من آمال ومخاوف فقال - هذا صحيح
- قد نفرض أن الشيء المركب، أو الذي يتكون من أجزاء، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أما ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا
فقال سيبيس - نعم فهذا ما قد أتصوره
- وقد يزعم أحد أن غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، فلا يظل أبداً كما هو؟ فقال - إني أظن ذلك أيضاً
(يتبع)
زكي نجيب محمود