مجلة الرسالة/العدد 87/قصة المكروب
→ قصيدة تاريخية خطيرة | مجلة الرسالة - العدد 87 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
3 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
لوفن هوك
أول غزاة المكروب
(بائع القماش الهولاندي الساذج الذي ضحك منه أهل بلده فكاتب الجمعية الملكية البريطانية وبها روبرت بويل واسحاق نيوتن فاستمعت له وصفقت خمسين عاماً)
- 4 -
وكانت تلك الحيوانات الصغيرة في كل مكان، حتى في فم (لوفن هوك). كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية يقول: (لقد بلغت العام الخمسين من عمري ومع هذا لي أسنان سليمة سلامة لا تتفق مع هذه السن، وسبب هذا أني أدلك أسناني بالملح كل صباح دلكاً شديداً، وثم أنظف أضراسي بريشة وأدلكها بثوب دلكاً عنيفاً). ومع ذلك كانت تتبقى بقية من جسم أبيض فيما بين تلك الأسنان. فتراءى للوفن أن يتعرف كنهها فقشط منها بعضها ودافه في ماء مطر تقي وأخذ منه في شعرية من الزجاج ونصبها تحت عدسته، ثم أغلق الباب. وأخذ ينظر فرأى عند بؤرة العدسة مخلوقات جديدة، فنوع يثب قدماً في الماء (ككراكي الأسماك)، ونوع ثان لا يلبث أن يستقيم في عومه قليلاً حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث كالعصي الملتوية يتحرك في بطء شديد تكاد تخطئه العين، إلا عين لوفن، فأخذ يحملق فيها حتى احمرت عيناه، وحتى رآها تتحرك يقيناً، وتنبض بالحياة يقيناً. كان فم (لوفن) مليئاً بالمتحركات من شتى الأجناس. وكان به جنس آخر كقضبان الخيزران سهلة التثني، تجيء وتروح في تؤدة الأسقف ووقاره، وهو على رأس موكبه بين قسيسيه وأخباره، وجنس خامس حلزوناتٌ كالبريمات نوازع الفلين، نفخ الله فيها من روحه فجاءت أشد ما تكون سعياً ونشاطاً
لم يقع هذا الرجل الغريب على شيء إلا اتخذه موضوعاً لتجربته، ولم يعتق نفسه، فاتخذ ذاته موضوعاً للتجربة أيضاً. وأتعبه العمل وأجهده طول التحديق إلى تلك الحيوانات التي بأسنانه فطلب الراحة في التريض تحت الأشجار العالية، وقد أخذت بقدوم الخريف تتناثر عنها ورقاتها المريضة الصفراء فتقع من تحتها على سطوح الترع وهي في سكونها وملاستها كالمرايا الغيراء، ولكنه ما لبث أن لًقي في طريقه شيخاً هرماً، فحدثه فكان هذا إيذاناً بذهاب راحته وانتهاء رياضته. كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية عن هذا يقول: (وتحدثت إلى هذا الشيخ فألفيته عاش ما خلا من أيامه عيشة قصدٍ واستقامة، فالوسكي لم يذقه قط، والتبغ لم يمس فمه، والنبيذ ندر شربه إياه. ووقعت عيني على أسنانه مغطاة بالرواسب، فسألته متى نظفها آخر مرة، فأجاب إنه لم ينظفها مرة واحدة في حياته
فما قرع هذا الجواب سمع (وفن) حتى طار التعب عن عينيه. فقد وقع في نفسه أن فم هذا الرجل لابد أن يكون جنينة مليئة بالحيوانات من كل صنف بهيج وغير بهيج، وما لبث أن جر الشيخ القذر التقي إلى مكتبه. وبالطبع وجد الألوف من تلك الحيوانات الصغيرة في فمه، ولن كان همه أن يخبر الجمعية الملكية أنه وجد في فمه مخلوقاً جديداً ينساب في التواءاته كالأفعى بين شتى الحيوانات الأخرى، وأن الماء بأنبوبة الزجاج الشعرية كان يعج به تحت عدسته
ومن الغريب في (لوفن هوك) أنك مهما تصفحت كتبه، وهي مئات، فلن تجده يذكر مرة واحدة أن هذه الأحياء الصغيرة تضر بالإنسان. إنه رآها في ماء الشرب، ووقع عليها في فم الإنسان، ومضت الأعوام فتكشفت له نفس تلك الأحياء في أمعاء الضفدع وأمعاء الخيل وفي أمعائه هو، كان يجدها أسراباً أسراباً على حد قوله (كلما اعتراه إسهال). ومع هذا لم يقل إنها كانت سبباً في هذا الذي اعتراه. لقد كان محاذراً في أحكامه، ولم يكن له ذلك الخيال الذي اعتاد الناس أن يطيروا به إلى استنتاجات فطيرة غير ناضجة كالتي يثب إليها أهل هذا العصر الحاضر من دُراس المكروب. ولكم وَدِدْنا لو درس هؤلاء ما كتب (لوفن)، إذن لتعلموا من حذره الشيء الكثير. ففي الحق لقد وصف الواضعون في نصف القرن السالف آلافاً من المكروبات، ونسبوا إليها مئات من الأمراض، فكشف النقد في الكثرة الكبرى من تلك الحالات أن اجتماع المرض والمكروب في الجسم إنما كان ارتفاعاً عارضاً. كان (لوفن هوك) يخشى دائماً أن يشير إلى الشيء فالشيء ويقول هذا سبب هذا.
كان به إيمان فطري بتعقد الأمور واختلاط الأسباب التي تنتج الحياة وظواهرها، فكان دائماً محجاما لا يقدم على ربط سبب بظاهره
ومرت السنون وهو يشتغل بالبزازة في دكانه الصغير، أو يقوم بكنس دار البلدية (بدلفت). وزاد حذراً وزاد شراسة، وازدادت كذلك الساعات الطويلة التي كان يقضيها في التحديق في المئات من مكرسكوباته، وزاد اكتشافه لكل عجيب غريب. وذات يوم نظر إلى سمكة صغيرة في أنبوبة من الزجاج وقد علا ذيلها فلمح فيه لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي تصل ما بين الأوردة والشرايين فاستكمل بذلك الدورة الدموية التي اكتشفها (هارفي) من قبله
وكان (لوفن) لا يمتنع عن امتحان الشيء لقداسة أو عاطفة، أو خشية أن يُسيء إلى الأدب والحرمات، فاكتشف الخلية المنوية للذكر من الإنسان - اكتشاف فيه تورط وفيه احراج، وفيه جمود وبرود في سبيل العلم تقشعر منه النفوس، ولكن (لوفن) كان رجلاً بسيطاً ساذجاً
ودارت الأيام فشاع ذكره في أوربا، وجاءه بطرس الأكبر قيصر الروس يقدم له احترامه، وسعت إليه ملكة الانجليز في بلدته لترى الأعاجيب من خلال عدساته. وأبطل للجمعية الملكية كثيراً من الخزعبلات السائدة، وكان أشيع أعضائها ذكراً ما خلا (اسحق نيوتن) و (روبرت بويل). ولم يغير كل ذلك شيئاً من نفسه؛ ذلك أنه كان من أول الأمر كبير التقدير لها كثير الإعجاب بها. وكانت كبرياؤه لا حد لها، ولا يضارعها إلا اتضاعه كلما فكر في هذا الكون وخفاياه، في السر الهائل المجهول الذي يَلفه ويلف سائر الناس معه. كان يعبد الله، وكان عباداً للحقيقة. قال: (في اعتزامي إلا أحتفظ بآرائي عناداً وتعصباً، فأنا أنبذها إلى ما يعرضه على غيري من الآراء، مادام هذا الغير لا يطلب من عرضها إلا إظهار الحقيقة لعيني، وأنا أعتنق هذا المعروض الجديد بمقدار ما أستطيع تحقيقه فيه من صواب. كذلك في اعتزامي أن استخدم ما حباني به الله من مواهب قليلة للحيلولة بين الناس وبين خرافات وثنية جاءتهم من الزمن القديم. وفي اعتزامي أن أنهض إلى الحق وأن أثبت عليه)
وكان صحيح الجسم صحة خارقة، ففي الثمانين كان يرفع بيده المكرسكوب، وهي ترتعد، إلى زواره لينظروا بها إلى الحيوانات الصغيرة، أو إلى صنوف الأجنة من المحار. وكان مُغرماً بالشراب في الأمساء، وأي هولاندي ليس به هذا؟ وكأنما كان المرض لا يمسه إلا في الإصباح التي تلي تلك الإمساء، وما كان مرضاُ بل ضيقاً في النفس واعتلالاً في المزاح. وكان يبغض الأطباء فلا يستنصح منهم أحداً. وأنى لهم معرفة بأدواء الجسد وعلمهم بتركيبه عشر معشار علمه؟ ومن أجل هذا كانت له نظريته الخاصة في تعليل سوء مزاجه - وأية نظرية تلك! كان يعلم أن بالدم كرات صغيرة مستديرة هو الذي اكتشفها وارتآها أول راء. وهو الذي اكتشف في ذيل السمكة تلك الشعريات الصغيرة التي تصل ما بين الأوردة والشران. فالليالي التي كان بعمرها بالكأس والطاس كانت على زعمه تؤثر في دمه فتجعله ثخيناً، فإذا هو جاء يمر بالشعريات تعذر عليه ذلك. فمن هذا كان اختلال مزاجه في الصباح. وإذن فدواء هذه الثخانة تخفيفها. وإليك ما كتب إلى الجمعية الملكية:
(فأنا إذا أكلت ذات مساء فأثقلت شربت في الصباح عدداً كبيراً من فناجيل القهوة، وهي على أسخن ما أحتمل حتى أتصبب عرقاً، فإذا لم يشفني ذلك فكل ما بدكان الصيدلاني لا يشفي. وهذا دوائي من أعوام كلما حُممْت)
وهداه شرب القهوة إلى حقيقة جديدة عن حيواناته الصغيرة. يا له من رجل! ما كان يفعل شيئاً حتى يهديه هذا الشيء إلى جديد في الطبيعة. فقد كان يعيش بسمعه وبصره وحسه وفكره في دُنى تلك الحيوانات التي كان يسترق منها النظرات من خلال تلك العدسات. لقد كان كالطفل إذا يستمع لحكاية البط والغراب وهو مستغرق عما هو حوله، لا ترى منه إلا شفتين منفرجتين وعينين واسعتين من شدة الدهشة والإعجاب. وكان كالطفل كذلك في إعادة ما قرأ من أقاصيص الطبيعة المرة بعد المرة، حتى لتجد على صفحاتها من إبهامه بصمات، وفي أركانها من فعله ثنيات تهديه إذا هو استراح فعاد ليبدأ من حيث انتهى. من ذلك أنه بعد سنوات من اكتشافه المكروب في فمه جلس ذات صباح إلى شراب القهوة يستشفي به، فبينا هو في عرقه الصبيب خطر له أن يعود فينظر إلى مكروب أسنانه من جديد. . ما هذا! أين ذهبت حيوانات أسناني فإني لا أرى واحدة تتحرك بالحياة! أو كأني أرى الألوف منها ولكنها أجساد هامةد، وإلا واحدة أو اثنتين تدبان على ضعف كأنما مسهما المرض! ثم صاح يستنجد بالأحبار والقديسين ألا يجيئه في تلك الساعة لورد من لوردات الجمعية الملكية يطلب إليه رؤية تلك المركوبات في فمه فلا يجدها فيكذبه فيما كتب عنها ولكن صبراً إنه كان يشرب القهوة. كانت ساخنة جداً حتى كادت تتنفسط منها شفتاه. وهو إنما نظر إلى المكروبات في الرواسب التي بين أسنانه الأمامية بعد شربه هذه القهوة الساخنة مباشرة
وما لبث أن استعان بمرآة مكبرة واخذ يقشط ما بين أسنانه الخلفية، ثم ينظر. . . . ما كَذَب المنظارُ وما أخطأ لوفن. قال: وما لبثت أن دهشتُ للكثرة التي وجدتها من تلك الحيوانات الحية في القليل التافه من تلك القِشاطة، كثرةٍ لا يؤمن بها إلا من رأى). وبعد هذا أخذ يجري تجارب صغيرة في أنابيب الزجاج، فسخن فيها الماء بما يًأهُله من تلك الأحياء إلى درجةُ فويق التي يحتملها المرء في حمامه، وفي لحظة فقدت الحيوانات روحاتها وجيئتها. وبرد الماء ومع هذا لم تعد إليها الحياة. إذن فالقهوة الساخنة هي التي قتلت تلك الحيوانات في أسنانه الأمامية
وأعاد النظر إلى هذه الحيوانات في غبطة وسرور، ولكن أساءه وأهمه أنه لم يتبين لهذا الحيوانات رأساً ولا ذيلاً، فإنها كانت تسير في تلويها مسرعة في اتجاه، ثم لا تلبث أن تكر راجعةً بنفس السرعة في عكس الاتجاه دون أن تنعطف أو يدور لها رأس على عقب، ولكن لابد أن يكون لها ذيل: لا بد أن يكون لها رأس! ولابد أن تكون لها أكباد وأمخاخ وأوعية دموية كذلك! وعاد بذاكرته إلى الوراء أربعين عاماً، إلى البراغيث وديدان الجبن كيف كانت تراها عينه مخلوقات بسيطة الصنع مجملة التركيب، فإذا بها تتراءى تحت عدسته معقدة التركيب مفصلة الصنع تامة كخلق الأنسان نفيه. فطمع أن ينشف له من هذه المكروبات ما تكشف من هذه الديدان. ولكن عبثاً حدق في أقوى عدساته، فقد ظلت هذه المكروبات تظهر في بصره عصياً أو كرات أو حلزونات بسيطة لا تفصيل فيها ولا تعقيد. وأخيراً اكتفى بأن حسب للجمعية الملكية قطر الوعاء الدموي بتلك المكروبات لو أنه كان، ولم يقل قط إنه رأى تلك الأوعية، وإنما أراد أن يتسلى بتخيله أولياءه من أعضاء الجمعية يتراجعون دهشةً من صغر الأرقام التي أسفرت عنها حسبته
وإذا كان (لوفن هوك) قد فاته أن يرى الجراثيم التي عنها تنشأ أمراض الإنسان، وإذا كان خياله قد قصر عن إدراك ما تأتيه حيواناته اللعينة من قتل وأجرام، فلم يفته أن يدرك أن هذه الحيوانات التي تُفلت العينَ قد تَقتل وقد تأكل حيوانات تجل عنها أضعافاً كثيرة. فذات يوم كان يتلهى ببعض حيوانات الماء الصدفية كبلح البحر وأم الخلولَ جرفها من قيعان الترع، فوجد بداخل الأم الواحدة آلافاً من الأجنة، فهالته كثرتها وتساءل كيف لا تشرق مجاري الماء بهذا العدد العديد من الأحياء. وخال أن يُربى تلك الأجنة في زجاجة بها ماء أخذه من تلك الترع، وأخذ كل يوم يعبث بالماء وقد تلزج كالمخاط بما فيه من أجنة، وكان أن نظر إليها بعدسته يحسب أنها كبرتْ، فأفزعه أن وجد اللحم الطري يتلاشى بين أصدافه، ذلك لأن آلافاً من المكروبات الدقيقة استطعمته فالتهمته بشراهة أي شراهة
(تعالى الله! حي يعيش على حي، وحياة تستمد البقاء من فناء حياة! تلك لا محالة قسوة كبيرة، ولكنها مشيئة الله. ولا شك أن الخير كل الخير فيها، فلولا أن أكل المكروب صغار هذا المحار، وكل أم تلد ألفاً في المرة الواحدة، لانسدت به القنوات). هكذا فكر لوفن، وبهذا القنوات أسلم لقضاء ربه. كان يتقبل كل شيء ويرضى عن كل ما يجد، فلم يكن يعد قد جاء العصر الذي تهجم فيه البحاث على المقام الاسمي ورفعوا أيديهم إلى السماء يتسخطون ويتهددون على ما بالطيعة من قسوة لا معنى لها على ابنها الإنسان
وبلغت سنه الثمانين وفاتتها، وتخلخلت أسنانه بالرغم من قوة جسمه، وكل سن للتخلخل ولو أمهلتها السنون حيناً. وجاء شتاء أيامه وخيم بظله وقره فلم يشك شيئاً، بل انتزع سناً عتيقة من فمه وصوب إليها العدسة يمتحن تلك المخلوقات الضئيلة في الجذر الخاوي من السن مرة أخرى. ولم لا يفعل؟ فلعله يجد تفصيلاً جديداً فاته في سائر تلك المرات العديدة. وجاءته رفقة من صحابه وقد بلغ الخامسة والثمانين تسأله أن يترفق بنفسه ويدع البحث والدرس، فقارب ما بين حاجبيه وأوسع ما بين جفنيه، ولم يكن فارق البريق عينيه، وقال لهم: (إن الثمرة التي تنضج في الخريف تطول سائر الثمر عمراً). سمي الخامسة والثمانين خريفاً!
وكان كأرباب المعارض يحب أن يسمع إعجاب الناس بما يعرض إن حضروا، أو يقرأ لغيابهم إذا هو كتب لهم تلك الكتب الثرثارة المتفككة الطويلة. ولا تنس انه لم يكن يعرض بضاعته إلا على الفلاسفة والمتفلسفين وأحباب العلم. وكان لا يحسن التدريس إذا هو حاوله. كتب إلى الفيلسوف الشهير ليبنتز يقول: (أنا لم أعلم أحداً، لأني لو علمت واحداً وجب على تعليم آخرين، وإذن أعبد نفسي عبودية لا تنقضي، وأنا أحب أن أكون سيداً حراً)
فأجابه ليبنتز يقول: (. . . ولكنك يا رجل إذا لم تعلم الشباب صناعة العدس وطرق البحث والنظر زال كل هذا عن وجه الأرض بزوالك). فكتب صاحبنا الهولاندي باستقلاله المعهود يقول: (لقد أعجب أساتذة (ليدن) وطلبتها باكتشافاتي مرة في أيام سالفة بعيدة فاستأجروا من نحاتي العدسات وصاقليها ثلاثة جاءوا يعلمونهم صناعتها، فعلى أي نتيجة خرجوا؟ لا شيء بقدر ما أرى، لأن جل الدروس أو كلها كانت تعطى لاكتساب المال ببيع العلم أو إظهاراً للعلم بغية احترام الناس وإعجاب الدنيا، وتلك نوازع لا تمت بسبب إلى اكتشاف خبايا الطبيعة المحجوبة عن أبصارنا، فهذه دراسات قد لا يصلح لها من الألف واحد، لأن الزمن الكثير يضيع فيها، ولأن المال الكثير يضيع فيها، ولأنها تستغرق من صاحبها فكره كله وحسه أجمع لكي يخرج منها على شيء. . .)
هذا أول رجال المكروب وكاشفيه. وفي عام 1723، وقد بلغ الحادية والتسعين استدعى صديقه (هوجفليت) وهو على سرير الفناء. فلم يستطع رفع يده. وملأ الدمع جفنيه وتقاربا ليلتحما بلحام الموت. فغمغم إليه: (صديقي هوجفليت، رجائي إليك أن تترجم الكتابين اللذين على المنضدة إلى اللاتينية. . . . . ابعث بهما إلى لندن. . . إلى الجمعية الملكية. . . . . . . . . . . . . .)
وبذلك بر بوعده للجمعية الذي أبرمه من خمسين سنة خلت أنْ يكتب لها إلى آخر رمق. وبعث (هوجفليت) الكتابين وكتب معهما يقول: (أسيادي العلماء، أبعث لكم آخر هدية من صديقي المحتضر، راجياً أن تحظى آخر كلمة له بالرضاء منكم)
وهكذا ذهب أول البحاث في عالم الجرثوم. وستقرأون عن اسبالتراني وهو أنبه منه، وعن بستور وله أضعاف ما لصاحبنا من خيال، وهم روبرت كوخ وقد قام بأعمال أسرع ثمرة من أعماله في تخفيف ويلات المكروب عن الإنسان، وعن آخرين لهم اليوم كما لهؤلاء صيت أبعد وذكر أشيع ولكن صدقوني لم يكن بين هؤلاء وهؤلاء من كان يطاول في الأمانة، ولا في الدقة، ولا في الحكم على الأمور، هذا القماش الهولاندي البسيط.
أحمد زكي