الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 87/بين القاهرة وطوس

13 - بين القاهرة وطوس «مجلة الرسالة/العدد 87/بين القاهرة وطوس» من سلطان آباد إلى بغداد للدكتور عبد الوهاب عزام سلطان آباد حاضرة ولاية في إيران تسمى العراق، وهي في الجنوب الغربي من سهل فراهان، بناها منذ مائة وثلاثين سنة يوسف خان الكرجي وجعلها مربعة الشكل، وسورها وحصنها. وولاية العراق هذه خصبة كثيرة الزرع، فيها زهاء 680 قرية، وسجاجيدها مشهورة وعلى مقربة من هذه المدينة كانت مدينة الكرج، في الإقليم الذي كان يعرف باسم كرج أبي دلف، وقد ذكره الشعراء في مدائحهم دخلنا المدينة ليلاً فسرنا قليلاً فانتهينا إلى ميدان فسيح فيه حديقة تمتد منه أربعة شوارع واسعة. وهذا نظام جديد أتخذ لإصلاح المدن الإيرانية في السنوات الأخيرة وقف بنا السائق على فندق (مهما نخانه) في هذا الميدان فدخلنا إلى فناء واسع للسيارات وصعدنا في سلم إلى حجرات على مقربة منها منتدى (قهوة) فلم نرض هذه المجاورة، فنزلنا إلى فندق آخر بجانبه، ليس في المدينة سواهما. فاتخذنا حجرة لا بأس بها في مثل هذه المدينة، واسترحنا وطعمنا قليلاً ثم خرجنا نجول في البلد فلم نر شيئاً أكثر مما أحاطت به النظرة الأولى، ورأينا المدينة على صغرها وسذاجتها نظيفة جميلة وبرحنا البلدة والساعة ثمان وأربعون دقيقة من صباح الثلاثاء رابع عشر رجب (23 أكتوبر) مسرعين صوب همذان نود أن نبلغ بأية وسيلة بغداد يوم الأربعاء لندرك قافلة السيارات التي تبرحها إلى دمشق صباح الخميس. بلغنا فخر آباد والساعة تسع. وقد استلفتتنا كثرة العمران والزروع على الطريق كما قلت من قبل، ووقفنا والساعة عشر على ضيعة اسمها زنكنة معروفة بجودة عسلها فأكلنا ونحن نقول إن لله دواء من العسل (مستعيذين من المثل القديم: إن لله جنوداً منها العسل). ثم وقفنا على ملايير (دولت آباد) والساعة إحدى عشرة فطلبت جوازات السفر للإطلاع عليها. والمسافة بين سلطان آباد ودولت آباد 100 كيلو وواصلنا السير تلقاء الغرب والشمال حتى بلغنا همذان والساعة واحدة بعد الظهر، فسرنا في شارعها الكبير وجددنا العهد بمرقد الفيلسوف ابن سينا، ثم أوبنا إلى فندق يقوم عليه جماعة من الأرمن، والأرمن في إيران قومة الفنادق، تلقاهم في كل مدينة وقرية، وما نزلنا فندقاً أو مطعماً على طريقنا من طهران إلى حدود العراق إلا عرفنا صاحبه أرمنياً وأعجلنا السفر عن الإقامة في همذان يوماً، فبرحناها بعد ساعتين سائرين شطر الجنوب للمبيت في كرمانشاهان، ونحن الآن على طريقنا التي سلكناها من قبل إلى طهران فلا أعيد وصفها هنا. لما شرعنا نفرع الجبال جنوبي همذان أصاب مصدم السيارة خلل، فسقطت لوحة صغيرة كتب عليها جشن فردوسي (عيد الفردوسي) وقد علق مثلها على كل سيارة أعدت للسفر في حفلات الفردوسي، فوقفنا وبحث السائق فوجدها وفك المصدم فربطه خلف السيارة. وقد أدت هذه الحادثة الصغيرة إلى أن تأخرنا عن بلوغ بغداد يوم الأربعاء ففاتتنا قافلة الخميس كما يأتي. واجتزنا جبال أسد آباد وبلغنا كنكادر والساعة خمس وربع من المساء، وقد ذكرت هذه البلدة في طريقي إلى طهران. أزيد هنا أنا نزلنا فاسترحنا وشربنا الشاي وأكلنا البطيخ، وهو في إيران كثير لا يعدمه السائر حيثما سار، وخرجنا نمشي على الطريق ننتظر أن يعد السائق سيارته فإذا جماعة جالسون في عريش على جانب الجادة، فتقدم كبرهم فحيانا وقال إن في البلد آثاراً قديمة. أتريدون أن تروها؟. وعرفنا حينئذ انه حاكم البلد فسرنا لنرى الآثار وصحبنا الحاكم وجماعة من الموظفين فرأينا بلداً صغيراً فقيراً في وسطه أحجار ضخام وقطع من أعمدة كبيرة اختلطت بالدور، فقيل هذا أثر معبد قديم. واخترقنا بعض الدور وسرنا بضع دقائق فرأينا أحجاراً أخرى قيل لنا إنها من آثار المعبد نفسه. وكان معبداً للإلهة (أناهيتا) من آلهة الفرس القدماء بناه لها الاشكانيون، وكان أيام الفتح العربي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فمن أجل هذا سموه قصر اللصوص قال ياقوت في المعجم: (قال صاحب الفتوح لما فتحت نهاوند سار جيش من جيوش المسلمين إلى همذان فنزلوا كنكور فسرقت دواب من دواب المسلمين فسمي يومئذ قصر اللصوص وبقي اسمه إلى الآن. . .) وقال مسعر بن مهلهل: (قصر اللصوص بناؤه عجيب جداً. وذلك أنه دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تتحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار. وكان هذا القصر معقل إيرويز ومسكنه ومنتزهه لكثرة صيده وعذوبة مائة، وحسن مروجه وصحاريه) تركنا كناكور والساعة ست. فما فارقنا ضوء النهار حتى نشر على الأرجاء بدر التمام أشعته، فسرنا في جبال وسهول حتى أشرف على الجادة جبل بيستون الشاهق وقد ذكرته من قبل وذكرت قصة فرهاد وشيرين التي لا يزال صداها طائراً في أرجائه ولما لاحت ذروة الجبل في ضوء القمر قلت: بيستون! ثم أنشدت: لعل شيرين نصيب خسر وشد ... سنك بيهوده مي كند فرهاد (صار لعل شيرين نصيب خسرو، وعبثاً يقطع فرهاد الحجر) فأنشد السائق: به بيستون كه رسيدم كرفت بارانم ... أكر غلط نكنم آب جشم فرهادست (لما بلغتُ بيستون تساقط علي المطر، فان صدق ظني فتلك دموع فرهاد.) ثم قال السائق أتعرف قصة شيرين وفرهاد؟ فأحببت أن أسمعها منه، فقلت ما القصة؟ قال: (كان فرهاد راعياً لبرويز فرأى يوماً شيرين امرأة برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى إماء الملك. ومرضت شيرين يوماً فقال الملك لفرهاد إن شئت أن أمنحك شيرين فانحت في الجبل قناة يسيل فيها اللبن من المرعى إلى القصر، فشق في الحجر قناة طولها فراسخ. فلما أبلت شيرين قال الملك لفرهاد بقي أن تبنى لها قصراً عظيماً. فنحت الأحجار وبني القصر. فلما خشي الملك أن يستنجره فرهاد وعده قال لمشيريه كيف الخلاص من فرهاد؟ فتطوعت امرأة عجوز بالحيلة وذهبت إلى فرهاد نائحة لاطمة. قال: ما خطبك؟ قالت: ماتت شيرين. فغشي عليه ومات لساعته، وخلصت شيرين لبرويز) والقصة ذائعة في الأدب الفارسي، وقد نظمت مراراً وبلغ بها الشعراء آلاف الأبيات. فلما فرغ السائق من قصصه قلت: أنستطيع أن نرى أثر فرهاد في هذا الجبل؟ قال إنه عال، ولا يرى بالليل بلغنا كرمانشاهان والساعة ثمان بعد أن قطعنا إليها من همذان 190 كيلاً. وأوينا إلى فندق اسمه (مهما نخانه بزرك) أي الفندق الكبير وهو فندق نظيف حسن النظام. واستأذن منا سائق السيارة أن يتأخر قليلاً غداً ريثما يصلح سيارته. ثم انصرف وأصبحنا ننتظر السائق فطال بنا الانتظار فذهبنا نمشي في المدينة، ثم ذهبنا إلى دار البريد فأبرقنا إلى وزير المعارف لنشكر له ما لقينا من حفاوة قبل أن نجتاز حدود إيران. ورجعنا إلى الفندق فلم نجد السائق، وذهبنا نفتش عنه في الخانات حتى عثنا علياً مًكباً هو وبعض الصناع على إصلاح السيارة. ولم نستطع مغادرة كرمانشاهان إلا وقت الظهر. فأيقنا أن سفرنا غداً إلى دمشق عسير أو محال. وجد بنا السير زهاء ساعتين فبلغنا شاه آباد، وقد ذكرتها من قبل، فنزلنا في فندق صغير فاسترحنا وطعمنا، ونشط أصحاب الفندق من الأرمن في خدمتنا فاستأنفنا السير بعد ساعة ومررنا بكرند وكده باطاق، وسربل ذهاب حتى بلغنا قصر شيرين والساعة خمس فتوقفنا هناك عشر دقائق. ثم تركناها نؤم حدود العراق دخلنا حدود العراق والساعة ست، وقد غربت الشمس فلقينا الموظفون مرحبين ويسروا لنا السفر العاجل فسرنا إلى خانقين فعرجنا على دار السيد عبد القادر صالح معاون الجمارك لنسلم ونشكر له ضيافته حين مررنا بخانقين المرة الأولى توجهنا إلى بغداد والساعة سبع من المساء، وأمامنا صحراء مشتبهة الأعلام، طامسة المناهج، ولكن مهارة السائق، وعلامات الطريق يسرت لنا بلوغ بعقوبة والساعة تسع، حين بلغ منا التعب مبلغه. وقفنا على منتدى في الطريق، ونزلنا فإذا صورة أم لثوم في صدر المكان. ولما عرف صاحب المنتدى أننا مصريون أسرع فأسمعنا غناءها. فشعرنا ونحن في العراق أن مصر قريب ثم سرنا من بعقوبة فأدركنا شاب ينادي أن الطريق غير بينة فاحملوني لأدلكم. قلنا لا حاجة إليك. وأدركنا فارسان من العسس فقالا أمامكم صحراء لا تهتدون فيها إلى طريقكم. فخير لكم أن تبيتوا هنا، وهنا فندق نظيف. وإن شئتم فكلموا رئيس الشرطة ليرسل معكم دليلاً. وهذا الشاب إن حملتموه معكم لا يستطيع أن يهديكم الطريق. فأقسم الشاب أنه بها جد خبير، وأنه هدى من قبل كثيراً من المسافرين. فارتكبنا أهون الشرين وحملنا هذا الدليل معنا. ولم يكن له مكان في السيارة فركب على الرفرف وسرنا فإذا الطريق واسعة لا حبة لا تحتاج إلى دليل. قلنا للدليل أكذلك طريقنا إلى بغداد؟ قال لا. فسرنا لا نستهديه ولا نبالي، إلا سؤالاً في الحين بعد الحين (هل نمت؟) فيقول لا، فنقول احذر أن تنام أو تقع فنضل في هذه الصحراء. فنعم الدليل أنت. لولا أن من الله بك علينا لهلكنا. ولسنا ننكر على دليلنا أنه كان حديثاً ممتعاً في الصحراء سميناه الدليل النائم، واهتدينا به إلى الفكاهة وإن لم نهتد به إلى غاية؟ بلغنا مدينة السلام منتصف الليل فأوينا إلى الفندق وانصرف دليلنا ثم جاء صبحاً يطلب أجره فضحكنا وقلنا لخادم الفندق أبلغه أنا وهبنا له أجرة الركوب بما له من أجر الهداية فليذهب مأجوراً (يتبع) عبد الوهاب عزام