مجلة الرسالة/العدد 87/قصيدة تاريخية خطيرة
→ الليث بن سعد | مجلة الرسالة - العدد 87 قصيدة تاريخية خطيرة [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
أهل غرناطة يستغيثون السلطان با يزيد
في أوائل القرن السابع الهجري ذهبت ريح الموحدين من الأندلس، ونشأت دولة بني نصر أو بني الأحمر في بقية الأحداث من الدولة الإسلامية العظيمة - الجنوب الغربي من الجزيرة الكبيرة جزيرة الأندلس. وثبت بنو الأحمر على قراع الخطوب، ونزال الكوارث خمساً وستين ومائتي سنة. ثم ذهبت الصولة ودالت الدولة، وأناخت الوحشة على المعقل الأخير للحضارة الإسلامية
هذا فجر اليوم الرابع من ربيع الأول سنة 987، وهذا أبو عبد الله الشقي يسير في خمسين فارساً ليسلم مفاتيح الحمراء إلى فرديناند وايزابلا
وكان المسلمون قد استوثقوا لدينهم وأنفسهم وأموالهم، وأخذوا على الأسبان من الشروط ما شاءوا. وبذل لهم الأسبان من العهود والأيمان ما جعلوه حبالة إلى السيطرة والقتل والسلب والإكراه على التنصر
اشترط المسلمون زهاء ستين شرطاً يكفل لهم الوفاء بها سلامة شاملة، وطمأنينة عامة. واشترطوا أن يقبل شروطهم زعيم النصرانية بابا رومية
وما هو إلا أن ظفر الأسبان بعدوهم حتى استباحوا نقض العهود، والإغراق في العدوان والظلم والنهب والقتل والإكراه على التنصر. فلما استيأس المسلمون ثاروا بعدوهم المرة بعد المرة يؤثرون الموت الوحي على الموت البطيء، وما زال بهم القتل والاستعباد والتشريد والنفي حتى جلا آخرهم عن البلاد عام 1017 من الهجرة
وقد استصرخ مسلمو الأندلس ملوك المسلمين، فلم يصرخهم أحد إلا خير الدين باشا قائد الأساطيل العثمانية في عهد السلطان سليمان، فقد أمدهم في إحدى ثوراتهم بجند نصروهم على عدوهم ومكنوا لهم الرحيل، فحملت السفن منهم سبعين ألفاً إلى أفريقية
وكان المسلمون أرسلوا وفداً يستغيث السلطان با يزيد الثاني العثماني، وبعثوا بقصيدة بثوا بها شكواهم، وعددوا ما أصابهم في أنفسهم ودينهم. وهي قصيدة طويلة ننشرها اليوم على صفحات الرسالة، معترفين بالفضل للشيخ الجليل العلامة الشيخ خليل الخالدي الذي كتبت في الرسالة عنه مرتين. جمعنا بالشيخ الكريم أحد المجالس في حلوان شهر رمضان الماضي. فسأله بعض الحاضرين، وهو يفيض في حديثه، عن كتاب عن المدافع كتبه أحد الأندلسيين فحدث عنه وقال: وكانوا يسمون المدافع الأنفاض، وقد قال قائلهم:
وجاءوا بأنفاض عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وهذا البيت من قصيدة بعث بها أهل غرناطة إلى السلطان با يزيد. فاستنشدناه ما يحفظ ثلاثة وثلاثين بيتاً وقال: إن القصيدة طويلة تجاوز مائة بيت، وإنها عنده، قد نسخها في مدينة فاس. فسألناه أن يرسلها إلينا حين يعود إلى القدس
وقد أنجز الشيخ حفظه الله وعده، فأرسل القصيدة لتنشر في مجلة (الرسالة). ويتبين من القصيدة أنهم استغاثوا السلطان من قبل فكتب إلى الأسبان فلم يأبهوا لما كتب وأن ملوك مصر أرسلوا رسلاً فادعى الأسبان أن المسلمين تنصروا مختارين، وسلكوا في الزور ما نعهده اليوم في السياسة الأوربية
ولسنا ندري ما كان جواب السلطان با يزيد على هذه الدعوة الملهوفة والقصيدة الباكية. فمن عرف شيئاً في هذا فليخربنا مشكوراً
عبد الوهاب عزام
القصيدة ومقدمتها
ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني رحمه الله ما نصه بعد سطر الافتتاح
(الحضرة العلية، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهد أقطارها، وأعز أنصارها، وأذل عداتها. حضرة مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، والسلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام، محي العدل، ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملك العرب والعجم، والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين، وسلطان البحرين، حامي الذمار، وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكهفنا وغياثنا، مولانا أبو زيد، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقروناً بالانتصار، مخلد المآثر والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف الله به الأجر الجزيل في الدار الآخرة، والثناء الجميل والنصر في هذه الدار، ولا برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد، مجردة على أعداء الدين من باسها ما يروي صدور السمر والصفاح، وألسنة السلاح، سالكة سبيل السابقين، الفائزين برضي الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد
سلام كريم دائم متجدد ... أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا ... ومن البس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه ... وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه ... قسنطينةٌ أكرمْ بها من مدينة
سلام على من زين الله ملكه ... بجند وأتراك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم ... وزادكم ملكاً على كل ملة
سلام على القاضي ومن كان مثله ... من العلماء الأكرمين الأجلة
سلام على أهل الديانة والتقي ... ومن كان ذا رأي من أهل المشورة
سلام عليكم من عبيد تخلفو ... باندلس بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحر من الروم زاخر ... وبحر عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم ... مصاب عظيم يا لها من مصيبة
سلام عليكم من شيوخ تمزقت ... شيوبهم بالنتف من بعد عزة
سلام عليكم من وجوه تكشفت ... على جملة الاعلاج من بعد سترة
سلام عليكم من بنات عواتق ... يسوقهم الألباط قهراً لخلوة
سلام عليكم من عجائز أكرهت ... على أكل خنزير ولحم لجيفة
نقبل نحن الكل أرض بساطكم ... وندعو لكم بالخير في كل ساعة
أدام الإله ملككم وحياتكم ... وعافاكم من كل سوء ومحنة
وأيدكم بالنصر والظفر بالعدا ... وأسكنكم دار الرضى والكرامة
شكونا لكم مولاي ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وعظم الرزية
غُدرنا ونُصرنا وبُدل ديننا ... ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة
وكنا على دين النبي محمد ... نقاتل عباد الصليب بنية
ونلقي أموراً في الجهاد عظيمة ... بقتل وأسر ثم جوع وقلة فجاءت علينا القوط من كل جانب ... بسيل عظيم جملة بعد جملة
ومالوا علينا كالجراد بجمعهم ... بجد وعزم من خيول وعدة
فكنا بطول الدهر نلقي جموعهم ... فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
وفرسانهم تزداد في كل ساعة ... وفرساننا في حال نقص وقلة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنا ... ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
وجاءوا بأنقاض عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وشدو عليها في الحصار بقوة ... شهوراً وأياماً بجد وعزمة
فلما تفانت خيلنا ورجالنا ... ولم نر من إخواننا من إغاثة
وقلت لنا الأقوات واشتد حالنا ... أطعناهم بالكره خوف الفضيحة
وخوفاً على أبنائنا وبناتنا ... من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
على أن نكون مثل من كان قبلنا ... من الدجن من أهل البلاد القديمة
ونبقي على آذاننا وصلاتنا ... ولا نتركن شيئاً من أمر الشريعة
ومن شاء منا البحر جاز مؤمناً ... بما شاء من مال إلى أرض عدوة
إلى غير ذاك من شروط كثيرة ... تزيد على الخمسين شرطاً بخمسة
فقال لنا سلطانهم وكبيرهم ... لكم ما شرطتم كاملاً بالزيادة
وأبدى لنا كتباً بعهد وموثق ... وقال لنا هذا أماني وذمتي
فكونوا على أموالكم ودياركم ... كما كنتمُ من قبل دون أذية
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة
وخان عهوداً كان قد غرنا بها ... ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف ... وحلطها بالزبل أو بالنجاسة
وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزؤ وحقدة
ولم يتركوا فينا كتاباً لمسلم ... ولا مصحفاً نخلو به للقراءة
ومن صام أو صلى ويعلم حاله ... ففي النار يلقوه على كل حالة
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم ... يعاقبه الألباط شر العقوبة
ويلطم خديه ويأخذ ماله ... ويجعله في السجن في سوء حالة وفي رمضان يفسدون صيامنا ... بأكل وشرب مرة بعد مرة
وقد أمرونا أن نسب نبينا ... ولا نذكرنه في رخاء وشدة
وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه ... فأدركهم منهم أليم المضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهم ... بضرب وتغريم وسجن وذلة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي ... يذكرهم لم يدفنوه بحيلة
ويترك في الزبل طريحاً مجندلاً ... كمثل حمار ميت أو بهيمة
إلى غير هذا من أمور كثيرة ... قباح وأفعال عرار ردية
وقد بدلت أسماؤنا وتغيرت ... بغير رضى منا وغير إرادة
فآهاً على تبديل دين محمد ... بدين كلاب القوط شر البرية
وآهاً على أسماء حين تبدلت ... بأسماء أعلاج من أهل الغباوة
وآها على أبنائنا وبناتنا ... يروحون للألباط في كل غدوة
يعلمهم كفراً وزوراً وفرية ... ولم يقدروا أن يمنعوهم بحيلة
وآهاً على تلك المساجد حولت ... كنائس للكفار بعد الطهارة
وآهاً على تلك البلاد وحسنها ... لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة
وصارت لعباد الصليب معاقلاً ... وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة
وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى ... ولا مسلمين نطقهم بالشهادة
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة
ويا ويلنا يا بؤس ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وثوب المذلة
سألنك يا مولاي بالله ربنا ... وبالمصطفى المختار خير البرية
وبالسادة الأخيار آل محمد ... وأصحابه أكرم بهم من صحابة
وبالسيد العباس عم نبينا ... وشيبته البيضاء أفضل شيبة
وبالصالحين العارفين بربهم ... وكل ولي فاضل ذي كرامة
عسى تنظر فينا وفيما أصابنا ... لعل إله العرش يأتي برحمة
فقولك مسموع وأمرك نافذ ... وما قلت من شيء يكون بسرعة
ودين النصارى أصله تحت حكمكم ... ومن ثم يأتيه إلى كل كورة فبالله يا مولاي منوا بفضلكم ... علينا برأي أو كلام بحجة
فانتم أولات الفضل والمجد والعلا ... وغوث عباد الله في كل آفة
فسل بابهم أعني المقيم برومةٍ ... بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة
ومالهم مالوا علينا بغدرهم ... بغير أذى منا وغير جريمة
وحبسهم المغلوب في حفظ ديننا ... وأمن ملوك ذي وفاء وجلة
ولم يخرجوا من دينهم وديارهم ... ولا نالهم غدر ولا هتك حرمة
ومن يعط عهداً ثم يغدر بعده ... فذاك حرام الفعل في كل ملة
ولا سيما عند الملوك فإنه ... قبيح شنيع لا يجوز بوجهه
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلا اعتداء وجرأة ... علينا وإقداماً بكل مساءة
وقد بلغت إرسال مصر إليهم ... وما نالهم غدر ولا هتك حرمة
وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا ... رضينا بدين الكفر من غير قهرة
وساقوا شهود الزور ممن أطاعهم ... والله ما نرضي بتلك الشهادة
لقد كذبوا في قولهم وكلامهم ... علينا بهذا القول أعظم فرية
ولكن خوف القتل والحرق ردنا ... نقول كما قالوه من غير نية
ودين رسول الله ما زال عندنا ... وتوحيدنا لله في كل لحظة
ووالله ما نرضي بتبديل ديننا ... ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة
وإن زعموا إنا رضينا بدينهم ... بغير أذى منهم لنا ومساءة
فسل انجرا عن أهلها كيف أصبحوا ... أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة
وسل بلفيقا عن قضية أمرها ... لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
ومنيافة بالسيف مزق أهلها ... كذا فعلوا أيضاً بأهل البُشُرة
واندَرَش بالنار أحرق أهلها ... بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة
فها نحن يا مولاي نشكو إليكم ... بهذا الذي نلقاه من شر فرقة
عسى ديننا يبقي لنا وصلاتنا ... كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم ... بأموالنا للغرب دار الأحبة فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا ... على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم ... ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا ... ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجوا زوال كروبنا - وما نالنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا ... وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكم ... بملك وعز في سرور ونعمة
وتمدين أوطان ونصر على العدا ... وكثرة أجناد ومال وثروة
وثم سلام الله تتلوه رحمة ... عليكم مدى الأيام في كل ساعة
انتهت الرسالة من نسختين بقلم مغربي رأيتهما بعاصمة فاس صانها الله من كل باس
خليل الخالدي