مجلة الرسالة/العدد 87/الليث بن سعد
→ الدعوة الفاطمية السرية | مجلة الرسالة - العدد 87 الليث بن سعد [[مؤلف:|]] |
قصيدة تاريخية خطيرة ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
محدث مصر وفقيها ورئيسها
للأستاذ علي الطنطاوي
قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به
وقال الأمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث
عَلَم شامخ من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة الدين، وأحد أفراد الدنيا علماً وذكاء، ونُبلاً ورفعة، وسخاء وكرماً؛ أجمعوا على أنه عَدْل مالك في الفقه، ونظيره في الاجتهاد، وانه لمصر مثل مالك للمدينة لا يفتي ومالك في المدينة، ولا يفتي والليث في مصر وهو بعد أعظم جاهاً من مالك، وأكثر مالاً وأسخى يداً، وأجزل عطاء. . . بَيْد أن الله قيض لمالك من دون علمه، وكتب مساءله، وحرر مذهبه، فعاش ونما واتسع، وكثر أتباعه ومقلدوه، واندثر مذهب الليث ونُسي اسمه فلا يذكره إلا المشتغلون بالرواية الإسلامية، المنقطعون لدراستها، العاكفون على كتبها. . . .
وما مثل الليث بالذي يُنسى، وان كان الليث أنكرة في الرجال، ولئن أنكره اليوم بعض الشباب أو جهلوا قدره، أو شغلهم عنه وعن أمثاله (أندره جيد) وهذا الآخر. . . (بول فاليري) فلقد عرف له الأولون فضله وعلمه، وسموه ورفعته. فعاش رئيساً في العلماء، مقدماً عند الخلفاء، مطاعاً عند الولاة، مبجلاً عند الخاصة، موقراً عند العامة، وازدحمت عليه النعم، وأقبلت عليه الخيرات، ودنت منه الأماني، فأوتي العلم والعقل والصحة والمال والسيادة والجاه، وأوتي مع هذا كله نفساً أكبر من هذا كله، فما التفتت إليه، ولا تمسكت به، ولا شغلها عن دينها وتقواها. مالت إليه الدنيا فمال عنها، ومنح من كل نعمة أوفاها فما قصر في شكر، ولا زهد في أجر؛ وكان سيد مصر، أمرُه قبل أمر الولاة، وحكمه فوق حكم القضاة، فما اقتنص بذلك دنيا، ولا غُمض عليه في بطن ولا فرج؛ وكان دخله بين عشرين وثمانين ألف دينار في العام، فما كنز بيضاء ولا صفراء، ولا منعها فقيراً، ولا أمسكها عن ذي حاجة، فأطبق العلماء على إجلاله، واتفق المصنفون على الثناء عليه، وعقدت القلوب على حبه، وأجمع الناس على احترامه
اسمه وأصله ومولده: هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهمي. كان أبوه من موالي قريش، ثم افترض في بني فهم (وهم بطن من قيس عيلان خرج منهم جماعة من العلماء) وتبعه الليث بعده، فكان اسمه في ديوان مصر، في موالي بن كنانة فهم؛ وقيل كان مولى خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي
وكنسته أبو الحارث
ولد غي قرقشندة (قرية بأسفل مصر على أربعة فراسخ من الفسطاط) فهو مصري المولد والمنشأ، وأصل أسرته من أصبهان. قال الليث نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً، وقيل إنهم من الفرس، ولم يصح ذلك
وكان مولده يوم الجمعة 14 شعبان سنة 94، قال الليث: قال لي بعض أهلي: إني ولدت سنة اثنتين وتسعين، والذي أوقن به أني ولدت سنة أربع وتسعين
شيوخه:
قال أبو نعيم الأصبهاني (في حلية الأولياء): أدرك الليث نيفاً وخمسين من التابعين
سمع الليث بمصر من زيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة والحارث بن يعقوب وعبيد الله بن أبي جعفر وخالد بن يزيد وخير بن نعيم وسعيد بن يزيد
وحج الليث سنة 133 وكان عمره تسعة عشر أو عشرين، فسمع في حجته تلك من عطاء بن أبي رباح وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الانصاري وأبي الزبير المكي وعبد الله ابن أبي مليكة وعمرو بن شعيب وقتادة وعمرو بن دينار ونافع
قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة فرأيت نافعاً مولى ابن عمر فدخلت معه إلى دكان علاف، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين!
وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولىمن قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين! وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولي لنا فلما رجعنا إلى مصر، جعلت أحدث عن نافع فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟ قلت: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك! وخرج الليث إلى العراق سنة 161
قال أبو صالح: خرجنا معه من مصر في شوال وشهدنا الأضحى في بغداد، وقال لي الليث ونحن في بغداد: سَلْ عن قطيعة بني جدار، فإذا أرشدت إليها فاسأل عن منزل هُشيم الواسطي
فقل له: أخوك ليث المصري يقرئك السلام، ويسألك أن تبعث إليه بشيء من كتبك
فلقيت هُشيما فدفع إلى شيئاً، فكتبنا منه وسمعته مع الليث، وكان الليث قد كتب من علم الزهري كثيراً، قال: فأردت أن أركب البريد إليه إلى الرصافة فخفت ألا يكون ذلك لله فتركته
أي أنه آثر أن يروي عنه بالواسطة خشية أن يكون في ذهابه إليه وسماعه منه حظ نفسي، فلا يكون ذلك خالصاً لله وحده
وسمع من سعيد المقبري ويونس بن يزيد وغيرهم وسمع منه خلق كثير
منزلة عند العلماء
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد. ثم قال: الليث بن سعد؟ ما أصح حديثه! وجعل يثني عليه
فقال رجل لأبي عبد الله (يعني أحمد). إنسان ضعفه فقال: لا يدري
وقال مرة: ليس فيهم (أي أهل مصر) أصح حديثاً من الليث وعمرو بن الحارث يقاربه
وقال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، أي لم يدونوا علمه، ولم يحرروا مذهبه فضاع واندثر
وقال: ما فاتني أحد فأسفت علي ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب
وقال ابن حبان (في الثقات): كان من سادات أهل زمانه فقهاً وورعاً وعلماً وفضلاً وسخاء
وقال ابن أبي مريم: ما رأيت أحداً من خلق الله أفضل من ليث، وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله عز وجل إلا كانت تلك الخصلة في الليث
وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعه
وقال يحيى بن بكر: ما رأيت فيمن رأيت مثل الليث، وما رأيت أكمل منه؛ كان فقيه البلد، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو والحديث والشعر والمذاكرة (إلى أن عد خمسة عشرة خصلة) ما رأيت مثله
وقال: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الخطوة لمالك وقال سعيد بن أبي أيوب: لو أن مالكاً والليث اجتمعا كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد
وسئل أبو زرعة: الليث يحتج بحديثه؟ قال: أي لعمري وقال يحيى بن معين: ثبت
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة وقال مثل ذلك محمد بن سعد
وقال النووي (في تهذيبه): أجمعوا على جلالته وأمانته وعلو مرتبته في الفقه والحديث
قالوا: وكل ما في كتب مالك من قوله (وأخبرني من أرضى من أهل العلم) فإنما يعني به الليث بن سعد
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي