مجلة الرسالة/العدد 87/الدعوة الفاطمية السرية
→ السر الموزع | مجلة الرسالة - العدد 87 الدعوة الفاطمية السرية [[مؤلف:|]] |
الليث بن سعد ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
ضوء على موضوعها وغاياتها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
هذه خلاصة موجزة لتلك الدعوة الإلحادية الغربية التي اضطلع بها لحساب الحاكم بأمر الله ذلك الداعية المغامر حمزة بن علي، ومما يلفت النظر بنوع خاص أن حمزة بن علي لم يفته خلال شرح مذهبه أن يدافع عن شذوذ الحاكم بأمر الله وتصرفاته المتناقضة، وأن يحاول أن يفسرها بما يلائم دعوته ويدعمها، أجل، لقد كان في تصرفات هذا الذهن الهائم المضطرب ما يبعث على التأمل، وما يجب أن يحمل لا على الشذوذ والتخريف، ولكن على الحكمة والسمو إلى ما لا يرتفع الذهن العادي إلى فهمه وتعليل بواطنه، هكذا يقدم إلينا حمزة تصرفات مولاه الحاكم؛ فإذا كان الحاكم قد ترك الصلاة والنحر، وإذا كان قد أبطل صلاة العيد وصلاة الجمعة بالأزهر، واسقط الزكاة عن الناس، فمعناه تحليل ذلك للكافة، وإذا كان الحكام يتبع أحياناً سياسة الاضطهاد بالنسبة للنصارى واليهود، فذلك لأنه يريد أن يهلك المرتدين والمارقين، ومن بقي منهم يؤدون الجزية، وهم اليهود، ويجب عليهم وعلى النصارى المرتدين من التوحيد، وهم المنافقون أن يلبسوا أزياء خاصة، وأن يعلقوا في صدورهم وآذانهم أثقالاً خاصة من الرصاص؛ وإذا كان الحاكم يؤثر التقشف في مأكله وملبسه وركوبه، فيركب الحمير مجردة عن الديباج والحلي الذهبية، فذلك لحكمة باطنة يؤولها الداعي بآيات من القرآن، ويفسرها بدلائل رمزية غريبة، وإذا كان الحاكم يخرج من سرداب القصر إلى البستان، وإذا كان يرتاد بستان المقس وغيره من بساتين القاهرة ويطوف أحياناً في المدينة، فذا أيضاً لحكم باطنة لا تدركها الكافة؛ وما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يرتادها من المنكر والفحشاء، إنما يرتكب في طاعته، وما يرتكبه الحاكم من ضروب البطش والسفك إنه مظهر لسطوة الحاكم (الإلهية) فهو يفتك بأكابر الدولة دون خوف ولا حرج كما فعل مع حاجبه برجوان وزيره ابن عمار ومع غيرهما من الأكابر والزعماء؛ ثم هو يخرج بالليل دون ركب ودون سلاح، لا يخشى نقمة أو أعتداء، ويخمد كل ثورة تشهر عليه، وكثيراً ما ينفرد بنفسه في جب الصحراء دون خوف من أحد من عسكره أو بطانته، وتلك أعمال وصفات ليست للبشر!
هكذا يفسر الداعي لنا أعمال الحاكم وتصرفاته المثيرة المدهشة؛ وما اعتبره المعاصرون شذوذاً وإسرافاً وجنوناً، وما يسمه التاريخ بميسم التناقض والتخريف والاغراق، إنما هو في زعم الداعي السمو فوق مدارك البشر، والتحلي بصفات ليست للبشر؛ ومهما يكن في ذلك التفسير من غلو وتحريف، فهو محاولة ذكية جريئة لتبرير ما لم تبرره الشرائع والمجتمع، وما لم يبرره التاريخ
ولا يقف حمزة بن علي عند الدعوة لسيده ومولاه، بل يدعو لنفسه أيضاً؛ فإذا كان الحاكم هو (الإله)، فان الداعي هو رسوله ونبيه؛ وعلى هذا فان حمزة الذي يصف نفسه في معظم رسائله بهادي المستجيبين، ينتحل النبوة لنفسه صراحة، ويزعم أن هذه النبوة قد تأيدت بالمعجزات التي أسبغها مولاه الحاكم عليه؛ ألم يشتبك عشرون من رجاله مع مائتين من عسكر خصومه، فلا يقتل من أصحابه سوى ثلاثة وينهزم الخصوم؟ ألم تنشب موقعه أخرى في المسجد بين قلة من أنصاره وكثرة من خصومه فينتصر الصحب دائماً؟ فهذه أعمال تخرج عن قدرة البشر، وهي من معجزات الداعي!
ويبدو من التواريخ التي يذيل بها الداعي رسائله أنها كتبت بين صفر سنة 408هـ، وأواخر سنة 409هـ. وكما أن الداعي يصف لنا سنة 408هـ بأنها هي أول سني قائم الزمان (الحاكم)، فهو يصفها أيضاً بأنها أول سني (ظهور عيد مولانا ومملوكه هادي المستجيبين) ومعنى ذلك أن حمزة بن علي بدأ القيام بدعوته في أوائل سنة 408هـ؛ ونستدل أيضاً من تعاقب التواريخ في هذه الرسائل الثمانية أنها تكون وحدة متصلة قائمة بذاتها؛ وهذه الرسالة هي متن الدعوة وهي ذروتها؛ وقد أستمر حمزة في تنظيم دعوته وبثها تحت رعاية الحاكم وإشرافه حسبما ينوه في بعض رسائله؛ ولكن الحاكم زهق غيلة في شوال سنة 411هـ فماذا حدث لتلك الدعوة بعد ذهابه؟ لقد كان اختفاء الحاكم بتلك الصورة الفجائية الغامضة مستقى جديداً للدعاة، فزغم بعضهم أنه اختفى ليظهر في عصر آخر، أو أنه رفع إلى السماء، وأن في هذا الاختفاء ذاته ما يؤيد الزعم بألوهيته وقد استمرت هذه الدعوة الإلحادية بعد مصرع الحاكم عصراً آخر، وإن كانت قد اتخذت سبلاً ومواطن أخرى، وأمامنا مجموعة أخرى من تلك الرسائل الإلحادية هي التي أشرنا إليها فيما تقدم؛ ويبدو من موضوعها وأسلوبها وألفاظها أنها من تأليف حمزة بن علي ذاته؛ وقد ذيلت بتواريخ وضعها - في جمادى الآخرة من سني ولي الحق العاشرة، وفي صفر سنة إحدى عشرة من سني قائم الزمان، وفي السنة الرابعة عشرة من سني قائم الزمان. . . . الخ؛ وعهد قائم الزمان يبتدئ كما تقدم في سنة 408هـ، وعلى ذلك تكون هذه الرسائل قد كتبت بين سنة 418 وسنة 422هـ، ويكون حمزة بن علي قد استمر قائماً بدعوته الإلحادية إلى هذا التاريخ أو بعده بقليل؛ ولم تنته الدعوة بمصرع الحاكم بأمر الله، ولكنها استمرت تغذيها قوى وعناصر أخرى
ولقد كانت هذه الدعوة الإلحادية بلا ريب جزءاً من الدعوة الفاطمية السرية، ولكنها اتخذت في عصر الحاكم بأمر الله صورة خاصة، وانحرفت عن غايتها العامة لتعمل على تحقيق غاية خاصة. وقد نقل إلينا المقريزي بياناً شافياً عن هذه الدعوة السرية الشهيرة ومراتبها التسع، وهي في مجموعها فكرة إلحادية فلسفية نظمت في مراتب متعاقبة للعمل على هدم العقيدة الإسلامية بصفة خاصة والعقيدة الدينية بصفة عامة، واستبدالها بفكرة فلسفية ترتفع فوق إفهام الكافة. بيد أن هذه الدعوة الإلحادية العامة تنحرف في عصر الحاكم لتعمل على تحقيق فكرة خاصة هي (ألوهية) قائم الزمان أعني الحاكم بأمر الله، وهي مع ذلك تجري مجراها العام في مجالس الحكمة بالقصر ودار الحكمة. وإنها لصفحة من أغرب صحف الثورة على الإسلام؛ بيد أنها كانت ثورة سرية تقصد إلى غزو العقول والأفهام، ولم تكن فورة عنيفة تسحق كل شيء في طريقها بالقوة المادية كما كانت قوة القرامطة، وهذه الرسائل الكلامية الغريبة التي يتركها لنا الداعي تلقي ضياء على كثير من التفاصيل الخاصة التي كانت ترتبط بالدعوة السرية الفاطمية، وبفتن الدعاة في سكبها وتنظيمها.
ولقد نظمت الدعوة الفاطمية قبل عصر الحاكم بأمر اله بكثير؛ ومنذ عصر المعز لدين الله وولده العزيز تعقد مجالس الحكمة؛ ولكنها كانت عندئذ علنية، وكانت فقهية تجري المحاضرة فيها في فقه آل البيت ومبادئ الشيعة؛ وكانت الخلافة الفاطمية يومئذ تتشح بشعار الإمامة الإسلامية على أنها من حق الفاطميين وتراثهم الخالص، وعلى أنها عنوان الزعامة الشرعية من الوجهتين السياسية والدينية، ولكن هذه الدعوة الدينية السياسية ما لبثت أن تطورت بسرعة، واتخذت صبغتها الإلحادية المغرقة في عصر الحاكم بأمر الله. ومن الغريب أن يكون الحاكم، ذلك الذهن الهائم المضطرب، هو القائم بأعظم دور في تغذية هذه الحركة وبثها، وهو المنشئ لدار الحكمة التي لبثت مبعثها وملاذها عصراً، بيد أن هذا الإغراق ذاته كان ضربة شديدة للدعوة الفاطمية، لأنه جعلها وقفاً على رهط من الدعاة المغامرين الخبثاء، وباعد بينها وبين الكافة، وأسبل عليها ألواناً خطرة من الزيغ والإلحاد، ولهذا فقدت الدعوة الفاطمية غير بعيد قوتها وأهميتها وإن كانت مجالس الحكمة قد استمرت بعد ذلك حتى أوائل القرن السادس
ونلاحظ من جهة أخرى أن معظم أولئك الدعاة الذين اضطلعوا ببث هذه المباديء والتعاليم الإلحادية في مصر لم يكونوا من المصرين، وإنما كانوا من الأجانب الذين اجتذبتهم الخلافة الفاطمية ببهائها ومشاريعها السرية؛ وقد ذكر لنا حمزة بن علي أسماء بعض أقطاب الدعاة مثل علي بن عبد الله اللوائي، ومبارك ابن علي، وأبو منصور البردعي، وأبو جعفر الحبال، هذا عدا الأخرم ومحمد بن إسماعيل الدرزي السابق ذكرهما؛ ولم يحسن المصريون استقبال هؤلاء الدعاة الخطرين، بل قاوموهم، وفتكوا بهم في أحيان كثيرة، أو اضطروهم إلى الفرار؛ ولم يستطع واحد منهم أن ينشئ له بمصر فرقة حقيقية من الأنصار والمؤمنين، وإن كان الدرزي قد استطاع أن ينشئ له بالشام فرقة جديدة هي طائفة الدروز التي ما زالت قائمة حتى اليوم
وهنا تعرض نقطة ما تزال موضع الجدل، وهي من هو مؤسس مذهب الدروز الحقيقي؟ وماذا كان نصيب حمزة بن علي في إنشائه؟ والمعروف أن بعض المستشرقين، ومنهم دي ساسي، يعتبرون أن حمزة هو مؤسس المذهب الحقيقي، لأن كثيراً من تعاليمه ورسائله تمثل في كتب الدروز المقدسة، وقد أشكل على بعضهم فهم مزاعم حمزة، فأعتقد أنه هو الذي يحمل لقب (قائم الزمن) الذي يتردد في رسائله ودعواته، في حين أنه صريح في إسناد هذا الوصف للحكام بأمر الله. والواقع أن فرقة الدروز تنسب قبل كل شيء إلى الدرزي، وهو الداعي محمد بن إسماعيل الذي تقدم ذكره، وفي بعض رسائلحمزة ما يلقي شيئاً من الضياء على نصيبه الحقيقي من الدعوة؛ ومن المرجح أن الدرزي سبق حمزة في القدوم إلى مصر، وفي الدعوة إلى (ألوهية) الحاكم بأمر الله كما قدمنا؛ ولكن الظاهر أيضاً أن حمزة ما لبث أن تفوق عليه وفاز دونه بالزعامة والقيادة، وأن خصومه نشبت بينهما كان الظافر فيها هو حمزة. ويشير حمزة إلى ذلك في رسالته الرابعة الموسومة بالغاية والنصيحة حيث يحمل علي الدرزي الذي هو (نشتكين) (وهو لقب تركي يطلق على الدرزي ويعرف به)
ويقول إنه (تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين، وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الامام، ويدعى منزلته. . . وكان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب، والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره) ثم يقول إن الدرزي أنكر التعاليم وتمرد وأثار للجدل بينهما، وغره ما كان يضربه من زغل الدنانير والدراهم، ويبدو من ذلك جلياً أن حمزة كان يقف من الدرزي موقف الإمام والأستاذ، وأن الدرزي خرج على تعاليمه ومبادئه، واستقل بعد ذلك بإنشاء فرقة - الدروز - في الشام، فهو المؤسس إذن لمذهب الدروز، وقوامه مزيج من نظرياته وتعاليمه، ونظريات حمزة وتعاليمه، ومن الصعب أن نحدد ما لكل من الداعيين في إنشاء هذا المذهب الغريب من المباديء والنظريات، بل من الصعب أن نعين منهما الأصل والناقل؛ بيد أن بعض النظريات الأساسية التي يعرضها حمزة في رسائله ما زالت قواماً لمذهب الدروز مثل القول بحلول الروح القدس في شخص الحاكم، واعتباره (قائم الزمان)؛ ثم إن التاريخ الذي يتخذه حمزة لمبدأ هذه الدعوة هو سنة 408هـ (1017م) وهي نفس السنة التي اتخذها الدروز بدأ لتاريخهم المقدس؛ وعلى ذلك فإذا كان الدرزي هو الذي أسس فرقة الدروز، فان لتعاليم حمزة أثراً كبيراً في صوغ هذا المذهب
ولا ريب أن حمزة بن علي كان نموذجاً قوياً لأولئك الدعاة؛ ففي تفكيره وآرائه وشروحه ما يشهد بكثير من الذكاء والبراعة؛ ولكن إنشاء دين جديد وعقيدة جديدة والدعوة إلى (ألوهية) بشر، محاولة تقصر عنها جهوداً أذكى الدعاة وأقواهم؛ ومن ثم فأنا نلمس في آرائه وتدليله كثيراً من ضروب التناقض والضعف، ونراه يلجأ إلى الرموز والخفاء كلما أعيته الحجة، ولا يحمل هذا المزيج الذي يقدمه إلينا من الشروح والأساطير اليهودية والنصرانية والإسلامية كثيراً من طابع الابتكار والطرافة، ثم هو فرق ذلك يقدم إلينا رسالته في أسلوب ركيك ينم عن ضعف بيانه العربي؛ ومع ذلك فان هذا التراث الذي انتهى إلينا من جهود الدعاة يلقي كثيراً من الضياء على أسرار الدعوة الفاطمية وغاياتها، وهو بذلك يعتبر من الوجهة التاريخية وثيقة لها قيمتها وخطورتها
محمد عبد الله عنان
المحامي