الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 863/أصداء

مجلة الرسالة/العدد 863/أصداء

بتاريخ: 16 - 01 - 1950


للأستاذ كامل محمود حبيب

إلى إخواني الذي حبوني بالمحبة والثقة على حين قد شطت

الدار وبعد المزار

(كامل)

قرأت في العدد 680 من الرسالة الغراء رسالة من الأستاذ محمود الطاهر الصافي برمل الإسكندرية إلى يقول فيها (. . . وبعد فإني أعلم أنك كنت صديقاً لإمام الأدب وحجة اللغة، عبقرينا الرافعي - لهذا رأى أن اللغة العربية حقاً عليك تؤديه بعمل تنشر به للرافعي ذكراً جديداً، تلفت إلى أدبه (الباعث لأمة). وأقترح أن يكون هذا العمل كما يأتي:

أولاً: - جمع ما أثنى به الكتاب والعظماء على الرافعي، وهو شيء كثير يؤلف مجلداً ضخماً أو أكثر، وما رأيت أحداً أثنى عليه بمثله وفيه أبلغ القول وأجمله.

ثانياً: - جمع كل ما عرف له من شعر ونثر، والمبالغة في هذا الجمع حتى لا يلفت مما أثر عنه شيء.

ثالثاً: - السعي لإنشاء كرسي لأدبه في الجامعة، فما هو بأقل من شوقي، ولا منزلته بأقل من منزلته؛ بل له ميزة لم يشاركه فيها أحد، وهي إلزام نفسه بالا يكتب - وما أدراك ما كتابته إلا في مثل الشرق والإنسانية العليا).

هذا كلام قرأت فيه الروح الوثابة الطاهرة والغيرة الجياشة النقية، والعقل الحصيف والقلم الرصين. وقرأت فيه نداء حاراً قوياً يدفع إلى غاية سامية رفيعة. فشكرت لصاحبه غيرته على الأدب الرفيع أن تنطمس معالمه في ثنايا الزمن، وأثنيت على إشفاقه على حقبة من تاريخ العقل المبدع أن تلتف في مطاوي النسيان، وحمدت له الثقة الغالية التي حباني بها حين اختارني من بين صحاب الرافعي لأضطلع بهذا العمل الجليل، وهو عمل ينشط له القلب وتهفوا إليه الروح.

هذا وإن ما قيل في الرافعي - بعد وفاته - ينشطر إلى قسمين: ما قيل في الربوع المصرية، وأكثره بين أيدينا لا ينقصه إلا أشياء ضئيلة: لا يحتاج جمعها إلى عناء ول يتطلب العثور عليها كبير جهد أما ما قيل عنه في الأقطار العربية، فهو كثير متناثر لم أجمع منه إلا شذرات يسيرة وقعت لي عن غير قصد ولا تعمد، لهذا فإنا أتقدم إلى إخواني الأدباء. . . في مصر والأقطار العربية - ممن كانوا يعنون بأدب الرافعي ويحتفظون بآثار، أن يتفضلوا فيرسلوا إلى كل ما وقع تحت أيديهم من كلمات قيلت في الرافعي بعد وفاته، سواء أكانت شعراً أو نثراً.

أما الاقتراح الثاني، فهذا عمل اضطلع به كبير من أدباء الشباب هو الأستاذ محمد سعيد العريان، وهو قد عاشر الرافعي زماناً طويلاً وتغلغل إلى حياته الخاصة، ولصق به سنوات وسنوات يأخذ منه ويعطي، ويجلس إليه في خلوته، ويراه في مجلس قراءته وفي محراب كتابته. واستطاع بعد ذلك، أن يكتب بقلم الخبير المطلع - كتاب (حياة الرافعي) وهو سفر جليل فذ يتحدث عن حياة الأديب الكبير في صراحة وحق. ولقد قطع الأستاذ سعيد في هذا العمل شوطاً بعيداً. وأظنه نشر كل مؤلفات الرافعي سوى (حديث القمر) و (تحت راية القرآن) و (على السفود) و (ديوان الرافعي) وما كان لي أن أقتات على حق صديق عزيز على نفسي هو الأستاذ سعيد العريان.

أما الاقتراح الثالث، فإنا ارفع الكاتب الأديب عن أن يجحد التيارات الأدبية والسياسية التي لا تتورع عن أن تجرف مثل هذا المشروع بين أمواجها المتضاربة. ولا ريب في أن الكاتب الذكي يعلم أن معارك الرافعي العنيفة مازال يرن صداها في آذان جماعة من ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب. ورغم ذلك فإنا لن أقعد عن أن أبذل جهد الطاقة على صفحات الرسالة إن شاء الله -، في سبيل تحقيق الغاية التي ننشدها جميعاً مخلصين لوجه الوطن والأدب.

وبعد، فإني أطمع أن يرن صدى صوتي في أرجاء الأرض فيستجيب له أخواني في مصر والأقطار العربية، وأطمح أن يكون الزمن قد مسح بيده الرفيقة على قلوب ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب فنسوا معارك وقتية نشبت بينهم وبين الرافعي، فلا يجدون - الآن - غضاضة في أن يعترفوا بمكانته السامية في الأدب والعلم.

(2)

وقرأت في العدد 268 من الرسالة خطاباً إلي من الأديب أحمد محمد فرغلي عثمان بأسيوط قال فيه (قد أطلعت على مقالك المعنون بحماقة أب في العدد 858 من الرسالة. . . ولما انتهيت إلى قولك: (والآن ماذا يختلج في فؤادك الخ) لم ترقني خاتمته على هذا النحو؛ لأن القارئ يميل على أن يعرف نهاية القصة بأسلوب ترتاح إليه نفسه ويطمئن قلبه وتسكن عنده خلجاته، وأنت قد أبهمت مصير حياة الرجل فلم نعرف. أتخاذل أمام الحزن نهلك.) إلى آخر ما جاء في عبارته.

لا عجب - يا سيدي الأديب إن أنا ختمت قصة من الحياة بأسلوب لم يطمئن له قلبك ولم تسكن عنده خلجات نفسك، فما أنا سوى مصور يصور لوحة من الطبيعة جذبت قلبه بروعتها، وسيطرت على لبه برونقها؛ فرسمها بريشته؛ ونثر الألوان على نسق ارتضاه فنه، ووزع الظلال على طريقة اطمأن لها خياله ولكنه رسم لوحه من الطبيعة. أو أنا قاص ينشر حادثة من الحياة انفعلت لها نفسه وتأججت لها عاطفته واضطربت مشاعره، فسكبها على القرطاس في أسلوب رضي عن قوة سبكه فيه الحياة والحركة؛ ولكنه قص حادثة من الحياة. والقصة في الحياة حلقة من سلسلة الحوادث لها ما قبلها ولها ما بعدها. فما كان لي أن أرسم حدوداً ضيقة للصورة التي أكتب فتبدو في رأى العين محدودة مبتورة، وتبدو في رأى العقل في منأى عن الحياة والحركة

وإن أنا نزلت عند رأي القارئ العزيز، اضطر قلمي أن يخلق نهاية القصة بخيال يصبغها بصبغة شوهاء مصنوعة لا يستسيغها عقل ولا يقبلها رأي، وأرغمت نفسي على حوادث ملفقة لا تنبض بالحياة ولا تخفق بالحركة؛ على حين أنني أصور أناساً يعيشون بيننا وما تزال أشباحهم تتدافع على مسح الحياة لم يبلغوا النهاية بعد وهكذا يريد القارئ أن يدفعني إلى أن أفكر بعقل رجل كيوسف وهبي يوم أن كان هو الممثل الأول في مصر يوم أن كان يريح النظارة من عناء التفكير في نهاية القصة فيقذف بأبطاله جميعاً إلى النهاية المحتومة، فيقتل البعض، ويلقي بالبعض في اليم، ويقذف بالبعض في نار يضطرم أوارها. هذا نمط من القصة عفت على آثاره معالم القصة الحديثة التي تتطلب من الكاتب أن يشرك القارئ في حوادث القصة ليشعر بأنه يؤلف بعض فصول الرواية.

لقد سأل الكاتب الأديب - في كلمته القصيرة - تسعة أسئلة أثلجت جميعاً صدري، لأنني أيقنت بأن القارئ يشاركني الخاطرة ويحاورني الرأي، وهذا هو ما يهمني. أما أن حادثة من الحياة تروق القارئ أولا تروقه فهذا مرجعه إلى ذوقه ورأيه وثقافته فحسب

(3)

يدفعني الحديث في هذا الموضوع إلى الوراء قليلاً. . . إلى العدد 854 من الرسالة، يوم أن كتب إلي الأخ عطية قنون بدمياط يقول: (قرأت ما كتبته بعنوان (زوجة تنهار) فأكبرت بلاغة أسلوبك. . . حتى انتهيت من القراءة إلى كلمة: (يا للقصاص). فلم تعجبني خاتمة كلمتك لأن القارئ يود أن تكون نهاية الخائنة أشد وأنكى من أن تطرد إلى الشارع. كيف واجهت الشارع؟ أحرى الذئاب وراءها؟ أممازالت حية تتمرغ في الأوحال؟. . . أم ماذا صنعت وصنع؟ إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة).

وأعجب ما في هذه الكلمة قول الأديب (لأن القارئ يود. . .) والأديب عطية نفسه يعلم تماماً أنه لا يعنيني ما يود القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض صورة فنية صادقة من الحياة لا أتشبث فيها بخيال ولا أزور حادثة. ونسى الكاتب الأديب أنني أستوحي الحياة فحسب فقال (إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة) فهو أنكر أن في الحياة النابضة عبرة وعظة، وأنكر أيضاً - أن في الشارع عقاباً صارماً قاسياً هو أشد وأنكى ما تنمى به فتاة كانت تعيش - يوماً ما - في كنف الزوج آمنة مطمئنة. لا يا سيدي الكاتب، أنا لا أوافقك في الرأي، وستجدني - إن شاء الله - على حق.

كامل محمود حبيب