مجلة الرسالة/العدد 863/الشعر المصري في مائة عام
→ مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2): | مجلة الرسالة - العدد 863 الشعر المصري في مائة عام [[مؤلف:|]] |
أصداء ← |
بتاريخ: 16 - 01 - 1950 |
للأستاذ سيد كيلاني
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
من 1882 - 1919
- 6 -
احتل الإنجليز البلاد المصرية في عام 1882م فبدأ بذلك عهد جديد أخلد المصريون فيه إلى الهدوء والسكينة، وأخذت الحالة المالية تتحسن يوما بعد يوم، فعم الرخاء واستتب الأمن وانتشرت الطمأنينة وساد العدل وسارت البلاد في طريق التحضر بخطى واسعة. وأقبل المصريون على التعلم فكثرت المدارس والمطابع والصحف والمجلات. وراجت سوق الكتب، وجد الناس في طبع الكتب القديمة وترجمة روائع الأدب الغربي، وشعر الجميع بعجز اللغة العربية وقصورها عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة. ففكروا في إصلاحها واختلفوا في طريقة الإصلاح. وقد ظهر أثر تلك الحركة عند الشعراء، فنظم حافظ إبراهيم قصيدة على لسان اللغة العربية قال فيها:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ثم أخذ الروح الوطني في الظهور والنمو حتى جاء مصطفى كامل فالتف حوله الشبان والشيوخ، وازدهرت الصحف الوطنية وجدت في مهاجمة المحتلين. وساهم الشعراء في تلك الحركة فنظموا القصائد الحماسية في تحريض الوطنيين على الجهاد والكفاح، وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم من المصريين، وكان لورد كرومر - وهو أول معتمد بريطاني في مصر - قد وضع في يديه مقاليد الحكم يصرف الأمور كيف يشاء وفقا لمصلحة المستعمر التي لم تكن متفقة مع ما يصبو إليه المصريون من الرغبة في الاستقلال والتمتع بالحكم النيابي، ونشر التعليم بجميع أنواعه بين أبناء البلاد والظفر بحرية الصحافة والخطابة وغيها من أنواع الحريات. لذلك أضحت سياسة لورد كرومر التي لم تتمش مع هذه الرغبات الوطنية موضعاً لهجوم شديد، ونقد عنيف من الكتاب والشعراء. ونظمت في عصر ذلك الرجل كثير من القصائد الفياضة بالعواصف الوطن الصادقة.
وفي عام 1906 وقعت حادثة دنشواي المشهورة فهاجمت الخواطر واشتد الحنق على المحتلين. وأخذ ينظمون القصائد في البكاء على ما أصاب تلك القرية والتشهير بالإنجليز. فلشوقي قصيدة مطلعها:
يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام
ولحافظ إبراهيم قصيدة جاء فيها:
ليت شعري أتلك محكمة التفت - يش عادت أم عهد نيرون عادا
كيف يحلو من القوى التشفي ... بضعيف ألقى إليه القيادا
إنها مثلة تشف عن الغي ... ظ ولسنا لغيظكم أندادا
وقال إسماعيل صبري من قصيدة ينوه بعفو الخديوي عباس عن المسجونين من أهل دنشواي:
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى ... في أهلها وقضى القضاة الأخرق
إن أن فيها بائس مما به ... وأرن جاوبه هناك مطوق
وارحمتي لجناتهم ماذا جنوا؟ ... وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا
وفي عام 1907 عزل لورد كرومر من منصبه ففرح بذلك الوطنيون فرحا عظيما، وقد عبر الشعراء عن ذلك الفرح.
قال شوقي من قصيدة طويلة:
لما رحلت عن البلاد تشهدت ... فكأنك الداء العياء رحيلا
وقال الكاشف:
وتنفس الصعداء شعب حامل ... هما يضيق به الفضاء الأرحب
والذي لا شك فيه أن الأحوال المالية قد تحسنت كثيراً في عهد كرومر، واستتب الأمن، وساد العدل وانتشرت الطمأنينة وعم الرخاء. وفي ذلك يقول حافظ
سنطري أياديك التي قد افضتها ... علينا فلسنا أمة تجحد اليدا
أمنا، فلم يسلك بنا الخوف مسلكا ... ونمنا، فلم يطرق لنا الذعر مرقدا
وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا ... وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا على أن المصريين قد اختلفوا في الحكم على كرومر. فمن نظر إلى نمو الموارد المالية على يديه وتقدم حركة العمران مدحه وأثنى عليه. ومن نظر إلى الأحوال السياسية وتخلف الشعب المصري عن غيره من الشعوب الناهضة في ميدان السياسة والعلم، وتمتع الأجانب بجل خيرات مصر، وانتشار الشركات الأوربية في طول البلاد وعرضها، وإمعانها في النهب والسلب من نظر إلى هذه الأحوال قدحه ونهى عليه. وفي ذلك يقول حافظ:
تشعبت الآراء فيك فقائل ... أفاد الغنى أهل البلاد وأسعدا
وكانت له في المصلحين سياسة ... ترخص فيها تارة وتشددا
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا ... ولم تبق للتعليم يالورد معهدا
وأنك أحصبت البلاد تعمدا ... وأجدبت في مصر العقول تعمدا
قضيت على أم اللغات وإنه ... قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
ووافيت والقطران في ظل راية ... فما زلت بالسودان حتى تمردا
فطاح كما طاحت (مصوع) بعده ... وضاعت مساعينا بأطماعكم سدى
ففي هذه القصيدة نتبين رأي حافظ في كرومر، ثم رأى المناصرين لسياسة هذا العميد، ثم رأى الناقمين على هذه السياسة وهم من الحزب الوطني. والملاحظ هنا أن قصيدة حافظ في وداع كرومر كانت هادئة. والسر في ذلك أن حافظا كان تلميذا لمحمد عبده الذي كان صديقاً حميماً لكرومر يستنجد به ضد الخديوي عباس. أما قصيدة شوقي فقد بلغت الغاية في العنف. ذلك لأن شوقي كان شاعر الخديوي الذي كانت بينه وبين كرومر عداوة شديدة. وللكاشف قصيدة لا تقل روعة وعنفا عن قصيدة شوقي وطلعها:
أعيى عزائمك القضاء الأغلب ... وطوى صحيفتك الزمان القلب
ومنها:
أنسيت محنة مصر في سودانها ... أيام هام الجيش فيه يعذب
أهملته حتى إذا فتكوا به ... أمسى فؤادك جمرة تلتهب
ومنها. وفيه إشارة إلى إتقافية الحكم الثنائي في السودان بين مصر وبريطانيا:
غافلتهم حينا فلم يتلفتوا ... إلا ونابك فيهم والمخلب
لولا خضوع وزارة هيابة ... لم يستقم لك في السياسة مضرب أما رأي المناصرين لسياسة كرومر والمحبذين لها، فقد حمل لواءه الشاعر أحمد نسيم الذي ستؤجر للتغني بمناقب الإنجليز وفضائلهم وله قصيدة مدح بها لورد كرومر وودعه ينما رحل عن البلاد، ومطلعها:
يا منقذ النيل لا ينسى لك النيل ... يداً لها من فم الإصلاح تقبيل
إنا نودع فيك العرف أجمعه ... وما لنا غير حسن الصبر تعليل
ومنها:
جعلت مصر بلاد أمطرت ذهبا ... فتربها بمذاب التبر مبلول
خلفتها ويد الإسعاد تكنفها ... داراً عليها من النعمى سرابيل
حللت فيها وغل الجور مقعدها ... ذلا وفارقتها والجور مغلول
وكنت ملجأها أيام نكبتها ... وللحوادث بابن النيل تنكيل
سست العباد بأمر ليس ينقصه ... ناه تحقق أن الأمر مفعول
وقد رفعت من الإصلاح ألوية ... لها رواق على الأصقاع مسدول
وقمت بالأمر حتى مالنا طلب ... يرجى وأنت أمام الله مسؤول
وكان مصطفى فهمي رئيس النظار وقتئذ فد أقام حفلة تكريم للورد كرومر بمناسبة سفره إلى بلاده. وفي هذه الحفلة خطب رئيس النظار فأطرى كرومر وأثنى عليه. فهب الشعراء ينعون على مصطفى فهمي ما فهل، ويتناولونه بالنقد والتجريح. ثم خطب لورد كرومر في هذه الحفلة فأهان المصريين ورماهم بالتعصب ونكران الجميل، وعرض بالخديوي إسماعيل تعريضاً شديداً. وكان الأمير حسين كامل (السلطان حسين) حاظراً فسمع ما قيل في أبيه من الشتائم والسباب وقد ظهر أثر ما حدث في هذه الحفلة عند شوقي حيث يقول:
أوسعتنا يوم الوداع إهانة ... أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
هلا بدا لك أن تجامل بعد ما ... صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا
انظر إلى أدب الرئيس ولطفه ... تجد الرئيس مهذبا ونبيلا
في ملعب للمضحكات مشيد ... مثلت فيه المبكيات فصولا
شهد (الحسين) عليه لعن أصوله ... وتصدر (الأعمى) به تطفيلا
والحسين هو حسين كامل. والأعمى هو الشيخ عبد الكريم سليمان أحمد علماء الأزهر. وقد كان علماء الأزهر يميلون إلى كرومر لما عرف عنه من صداقته لأستاذهم الشيخ محمد عبده. وقد اهتم شوقي في هذه القصيدة بالدفاع عن جد الخديوي عباس إرضاء للخديوي من ناحية، ومن ناحية أخرى وفاء للخديوي إسماعيل الذي ولد ببابه كما قال:
أأخون إسماعيل في أبنائه ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا
سيد كيلاني