مجلة الرسالة/العدد 837/مصطفى كمال الزعيم التركي
→ خليل مطران | مجلة الرسالة - العدد 837 مصطفى كمال الزعيم التركي [[مؤلف:|]] |
مالتوس ← |
بتاريخ: 18 - 07 - 1949 |
بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 2 -
كان مصطفى كمال يتمتع بعد الحرب العظمى بشهرة عامة في بلاده باعتباره بطلاً من أبطال الجندية التركية الذين أبلوا بلاء حسناً في معارك الدردنيل، وقد أعتقد الباب العالي إبان هذه الحوادث أن في بقائه باستنبول خطراً على الحالة السياسية الداخلية، ولذلك أسندت إليه وظيفة عسكرية لإقصائه إلى داخلية الأناضول، وكانت رغبتهم في التخلص منه كبيرة لدرجة أعمتهم عن تقدير ما في عملهم هذا من أن المبعد سيكون أشد خطراً في آسيا منه في العاصمة. وقد علم مصطفى كمال بخبر احتلال أزمير وهو في سمسون فكان وقعه شديداً عليه، ولذلك جمع أهالي هذه المدينة وألقى عليهم خطاباً حماسياً من أشد الخطب التي ألقاها في حياته، فأسرع الضابط البريطاني الذي كان مكلفاً من قبل القيادة العامة بمراقبة أحوال وسير الولاية في إرسال برقية إلى استنبول يطلب فيها استدعاء هذا الضابط المهيج للخواطر.
وهنا قررنا بناء على إلحاح المندوب السامي البريطاني التدخل بطلب استدعائه فقبل الباب العالي ذلك، ولكنه لاعتياده الأساليب البيزنطية لم يستدعه نهائياً، وإنما طلبه لأخذ آرائه واستفتائه في مجرى الأحوال العامة، وقد بادر أصدقائه المقيمون باستنبول إلى تحذيره من هذه الدعوة، فقرر عدم إجابتها وتنصل منها بسفره فجأة إلى أرضروم محتجاً بأن الاستدعاء الرسمي وصل متأخراً بعد قيامه.
لقد كن من الممكن إنقاذ الحالة بعمل سياسي قاطع، وكنت الوحيد بين المندوبين السياسيين الذي أبلغ حكومته وأبلغ مجلس الأربعة بباريس أن الحالة تستدعي قراراً حاسماً بعرض صلح عادل يسلم ببعض مطالب تركيا مع المحافظة على المزايا والمصالح الأجنبية التي يجب التمسك بها في أراضيها. أما حكومة الباب العالي، فقد بدأت تتردد في قراراتها وتبدو عليها مظاهر الضعف التي هي عوارض كل نظام انتهى دوره.
وبعد مضي أسبوعين على احتلال أزمير طلب مني الصدر الأعظم مقابلة خاصة سرية، فقابلته في مصيف السفارة الإيطالية بطرابيا على البوسفور، حيث أسمعني حديثاً منمقاً بالجمل التي كالها في مدح إيطاليا وما تتمتع به من المحبة في القلوب، ثم شكى إلي بشدة من وقع القرار الذي أصدره مؤتمر الصلح بالتصريح لدولة كانت في القريب تحت حكم الترك لتحتل جزءاً من وطنهم ولتستعبد وتدوس حقوق أحفاد أولئك الذين كانوا سادة لأجداد رعايا هذه الدولة. ثم قال: - ألا يفهم رجال باريس أن هذه هي الطريقة الوحيدة لأحياء روح الكراهية، وأنه إذا قامت يوماً ما مذابح من جراء اتباعكم هذه السياسة سيكون أول عمل لكم اتهمانا بها كما حدث في المائة السنة الماضية من إلصاق تهم المذابح دائماً بالترك أني أرى من واجبي تنبيهكم إلى ذلك، وتحميلكم من الآن مسؤولية ما يحدث في المستقبل.
ثم التفت إلى كمن يريد أن يبوح بسر خاص قائلاً:
- من المسلم به أنه لن يكون هناك موضع لهذه المخاوف لو كانت تقدمت دولة عظمى من الدول المحبوبة للترك وأخذت على احتلال أزمير وولايتها.
- قال ذلك منتظراً إجابة مني لم يظفر بها مدة العشر دقائق التي دامت فيها محادثتنا، والتي توقعت في خلالها ما يريد أن يقول، وأخيراً ألقى كلمته قائلاً:
لماذا لا تطلب إيطاليا عمل استفتاء بين أهالي ولاية أزمير الذين يفضلون بالإجماع أن يروا إيطاليا تحتل بلادهم بدل اليونان؟
كان فريد في ذلك مقلداً للسياسة القديمة التي أتبعها وأتقنها عبد الحميد، واستعملها لمدة ثلاثين عاماً ضد أوربا يحرك الغيرة بين دولها، ويشجع أطماعها، ويزيد في شقة اختلافها، حتى يضمن بقاء استقلال بلاده. ولكن هذه السياسة كانت علاجاً مسكناً نجح في وقته؛ أما الآن فقد انتهى ذلك العهد، ومن جهتي لم أكن واثقاً من نجاح مشروع كهذا بفرض التسليم بإمكان وقوعه، ولا واثقاً من فوائده لإيطاليا، لأن مصلحتها هي في اعتبار كل تركيا سوقاً لمصنوعاتها. أما أزمير وولايتها، فلا تصلح لنا كبلاد لتشجيع هجرة الإيطاليين إليها، لأن أهاليها أكثر انتشاراً وتناسلاً من الإيطاليين أنفسهم، ثم احتلالها مع كثرة ما سيتطلبه من التكاليف سيكون عقبة في سبيل التوسع السلمي التجاري، ذلك التوسع الذي كنت أعلق على تنفيذه أهمية خاصة.
أما الاعتراف لنا بالجميل، فكان من الظاهر أنه ينتهي بعد مضي شهر من رحيل اليونان، بل وينقلب إلى كراهية إذا أقمنا هناك.
كانت تجول بمخيلتي هذه الأفكار وقت حديثي مع الداماد، ولم أشأ أن أبوح له بشيء منها، ولكنه أخذ صمتي كأنه تحوط دبلومتي وخرج من عندي مقتنعاً بأنه وجه طعنة قوية إلى صلب الاتفاق السياسي القائم بين الحلفاء.
ولكن الأخبار تتسرب بسرعة غريبة في الشرق، حتى ما يقال في السر بين رجلين تتناقله الآذان، ويذاع بين الناس كأنه قد ألقي من على منابر المجالس النيابية في أوربا. وبالفعل انتقلت فكرة الداماد إلى آذان مصطفى كمال وأعوانه، لأن أحد رجاله حضر إلى وخاطبني باحترام قائلاً: إن أصدقاءه - ويريد بذلك مصطفى كمال - يؤملون مني ألا أشجع من جهتي مشروع الباب العالي، لأن تركيا الحديثة ترى من واجبها أن تحارب إيطاليا بنفس الشدة التي تحارب بها اليونان إذا طمعت في شطر من أراضيها.
ولم يكن في وسعي إلا أن اعجب - في داخل نفسي - من صراحة هذا القول، وارى فيه فتحاً جديداً في السياسة الشرقية لم نكن نحن في أوربا نعتاد سماعه.
وبمضي الزمن انتهى كل من زميلي الأميرال كالثروب والأميرال أميت، رغم الروح الحربية المتغلبة عليهما، والتي اعتبرها طبيعية واحترمها في الوقت نفسه، إلى التسليم بأني لم أكن بعيداً عن الصواب في إبداء رأيي بخصوص التعجيل بالصلح. ولكن الوصول بهما إلى الدفاع عن هذا الرأي أو زعزعة الفكرة السائدة لديهما كان صعباً على عقلي رجلين خرجا من الحرب وكانا لا يزالان واقعين تحت تأثير ثورة القتال. ولكم من مرة طرق بالهما أنني رغم ضعف مركزي باعتباري رجلاً ملكياً (غير جندي) لم أتأخر عن تبليغ ما أعتقد أنه حقيقة ملموسة إلى علم حكومتي.
ولكن ما فائدة أي نصيحة يبديها الآن المندوب السامي البريطاني لحكومته إذا كان تأثيرها يضيع بجانب تقارير ضباط قلم الاستخبارات الذين كثر عددهم وكثرت بالتالي تقاريرهم إلى لندرة. وأصبح أسلوبهم بعيداً عن التقاليد البريطانية الأولى المعروفة بنزعتها إلى التسامح وطول الأناة، فكثرت أغلاطهم في جو العاصمة التركية الذي أستوعب في السابق دهاء الدبلوماتية الغربية وصبر رجالها. لقد جاء أسلوبهم هذا ليعمل على ضياع الهيبة التي كان الدبلوماتيون الغربيون يتمتعون بها في نفوس الشرقيين، إذ من الخطأ البين الاعتقاد بأن اليد القوية واستعمال العنف هي السياسة المنتجة في الشرق.
وقد كان يصعب على مثلي - الذي بدأ حياته السياسية في القاهرة، وقدر عمل أمثال كرومر وونجت، وأعجب بالتقاليد البريطانية في تسامحها وتمسكها بالحرية والعدالة - أن يسمع وهو متأثر صديقي طلعت باشا يقول بلهجته التهكمية، والابتسامة على شفتيه عن بريطانيا:
- هي ألمانيا فقط تنقصها الدقة والضبط الألمانيين.
مثال ذلك حوادث بوليس الحلفاء باستنبول، وبعضها جدير بالتدوين، لأنه في صباح أحد الأيام أخبرنا أننا قد نجونا من مؤامرة خطيرة كانت تدبر في الخفاء ضد الحلفاء، ولم نصدق نحن
- لأول وهلة - هذه الأخبار. ولكن الجنرال البريطاني قرر العمل بسرعة بمجرد علمه بخبرها، وقدم كشفاً إلى السلطات التركية يحتوي على أسماء المتآمرين وطلب القبض عليهم. وكان في الكشف ثمانية وعشرين اسماً بينهم أحد عشر شخصاً منهم يشتغلون بالسياسة ويقيمون فعلاً بأنقرة، أي بعيدون عن متناول السلطات، والباقي سبعة عشر اسماً لأشخاص غير معروفين يصعب العثور عليهم، إذ يتعذر بطبيعة الحال القبض على مثل علي أو أحمد في مدينة كبيرة مترامية الأطراف مثل استنبول.
والأغرب إن السلطات التركية لم يبد عليها أي انزعاج، بل قدمت تهانئها للجنرال، لأن رجاله تمكنوا من اكتشاف هذه المؤامرة الخطيرة، وفعلاً وعدوا بتسليم المتآمرين ونفذوا ذلك بالقبض على عدد من يدعون علي وأحمد جمعوهم من أحياء غلطة واستنبول ممن لا شأن لهم واعدموهم شنقاً. فاكتفى الجنرال بذلك وأعلن رضاءه وسحب تهديداته. . .
وقد علمت في ما بعد أن هذه المؤامرة الموهومة وضع شباكها بعض الترك وأدخلوها على رجال قلم الاستخبارات للانتقام من بعض مواطنيهم، وكان كل ذلك مدعاة للتسلية والتهكم إذا استثنينا حادث شنق الأفراد الذين ذهبوا ضحية هذا التلفيق وهم أبرياء.
إن الأخطاء التي ترتكب في سياسة أي دولة تضطر هذه الدولة أن تدفع ثمنها في الغالب غالياً. وكذلك كان الحال مع دول الحلفاء في تركيا، لأن الزعيم التركي وأنصاره لم يجدوا بداً بعد كل هذه الحوادث من المجاهرة بعدائهم ضد الإنجليز والفرنسيين واستثنوا الإيطاليين فقط من ذلك. فما كان من الإنجليز إلا أن ازدادوا تمسكاً برأيهم وأرادوا أن يؤثروا في الترك باتخاذ هذه الطرق الشديدة.
أما الزعيم التركي، فقد باشر بحرب عصابات مسلحة تحميها قوات من الجيش المنظم الذي بدأ ينظمه في الداخل بإرادة تشهد بعبقريته المنظمة.
وبقدر ما كانت تزيد قواته المنظمة بقدر ما اتجه الناس إليه، حتىأن موظفي حكومة الباب العالي لم يعودوا يخفوا إعجابهم به وشعورهم نحوه.
وهكذا فهم الترك أن الزمان حليفهم، وأن حل المسائل المعلقة بأيديهم.
بقيت أمامنا بعد هذه الحوادث مسألة واحدة موضعاً للتساؤل، وهي ماذا ينوي الحلفاء عمله بعد أن صدقوا في المؤتمر الذي عقد في سان ريمو في أبريل سنة1921 على الشروط القاسية التي وضعت في لندرة؟
لقد وقف اللورد كيرزون عند افتتاح جلسات المؤتمر يقول:
(انه قد بولغ كثيراً في تقدير القوة التي لدى الكماليين، وليس مصطفى كمال بالعامل المهم الآن كما يحاول إظهاره بعض السياسيين) وكنت طبعاً المقصود بهذه الإشارة، لأنني داومت من روما حيث كنت أقيم في ذلك الوقت على إسداء النصيحة بعرض صلح مقبول على تركيا.
وبعد انفضاض مؤتمر سان ريمو الذي انتصرت فيه السياسة الإنجليزية على فرنسا وإيطاليا تابع لويد جورج التمسك بخطته التي سار عليها، وجاهر بثقته بها في خطبة رنانة ألقاها بلندرة في شهر يونية حيث قال: إن اليونان هي الدولة الوحيدة القادرة على تأخذ مكان الحكومة التركية في آسيا الصغرى.
وفي اجتماع هيث حيث التقى لويد جورج بميليران عرض فنزيلوس على انجلترة فكرة تعاون حكومته باستعمال الجيش اليوناني في تأديب الكماليين، وكان اقتراحه يرمي إلى توجيه قوات مشكلة من90000 جندي يوناني مزودون بأحدث الأسلحة للقيام بحركة سريعة إلى وسط الأناضول لقطع كل اتصال بين الكماليين والساحل تلجئ الأخيرين إلى التقهقر إلى الداخل، حيث يكون مصير قواتهم الانحلال والتشتت.
وكان ميليران على علم بما في هذا الاقتراح الإنجليزي اليوناني من المجازفة والأخطار، ولكنه فضل التسليم به رغبة منه في استبقاء مودة لويد جورج، وهو في حاجة إليه لتعقد الحالة على نهر الرين.
أضف إلى هذا أن نشاط الترك كان كبيراً في هذا الوقت على حدود سوريا، حيث سببوا لفرنسا مشاكل لا يستهان بها.
ولكن الوزيرين كانا في حاجة إلى موافقة إيطاليا حتى تأخذ هذه التصميمات صبغتها الدولية؛ فعقدا مجلساً لهذا الشأن بعد عدة أيام من هذا التفاهم اختاروا له مدينة بولونيا وحضرته نائباً عن إيطاليا بصفتي وزيراً للخارجية، وما أن عرضت فكرة حملة الأناضول حتى بينت لهما بشكل قاطع أوجه الخطأ في تنفيذ هذه الخطة التي لن يتحقق بها تشتيت القوات التركية، بل تؤدي حتماً إلى إذكاء الروح الحربية وتقوية عوامل القتال والوطنية لدى الأتراك وفي مدينة أسبا حيث عقد مؤتمر آخر كنت أشد تمسكاً بهذا الرأي، ولكن المؤتمر قرر قبول اقتراح فنزيلوس لسوء حظ الشعب اليوناني.
أحمد رمزي
(البقية في العدد القادم)