الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 837/خليل مطران

مجلة الرسالة/العدد 837/خليل مطران

بتاريخ: 18 - 07 - 1949

1871 - 1949

فجع العالم العربي بأفول نجم لامع في سماء الشعر والبيان، شغل الناس أكثر من نصف قرن بشعره الطريف الجديد. ولد خليل مطران سنة 1871 في بعلبك ونشأ تحت سماء سورية بين أوديتها الخضراء وجبالها البيضاء وبحرها الصافي وأمواجه المتدفقة وصخوره الناتئة، فكان لذلك كله الأثر البين في صقل خياله وتغذية روحه ووجدانه بالعواطف النبيلة والجمال العبقري. ثم قدم مصر سنة 1892 وهو ما يزال في فورة الشباب فشب وترعرع بين آثار المدينة القديمة وأهرام مصر الخالدة، فهو شاعر بعلبك والأهرام، تغنى بوطنيه في قصائده الرائعة. وهو إذ يذكر بعلبك وآثارها، إنما يذكر أيام الطفولة المرحة والحياة الطروبة، ويحن إلى وطنه الأول ومسقط رأسه. استمع إليه في قصيدة (بعلبك) يصف آثارها وقلعتها ويتذكر طفولته:

إيه آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوى وبعد المزار!

ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري

يوم أمشي على الطلول السواجي ... لا افترار فيهن إلا افتراري

نزقا ًبينهن غراًلعوباً ... لاهياً عن تبصر واعتبار. . .

إلى آخر هذه الأبيات الوجدانية الرقيقة.

وهو إذ يتغنى بمصر وطنه الثاني، إنما يتغنى بمجدها التليد وأهرامها المجيدة ونيلها السعيد وسمائها الصافية ويثني عليها وعلى كرم ضيافتها ونبل أخلاق شعبها العريق. استمع إليه يقول:

يا مصر أنت الأهل والوطن ... وحمى على الأرواح مؤتمن

أي الديار كمصر ما برحت ... روضاً بها يتقيد الظعن

فيها الصفاء وما به كدر ... فيها السماء وما بها غضن

مصر التي أخلاق أمتها ... زهر سقاه العارض الهتن

فهي التي عرفت مروءتها ... أمم ويعرف مجدها الزمن

ويقول من قصيدة (تحية الشام لمصر): فحباً أيها الوطنان إني ... وسيط العقد في هذا النظام

بلادي لا يزال هواك مني ... كما كان الهوى قبل الفطام

قدم خليل مطران مصر وعرف صاحب الأهرام واشتغل مدة في تحريرها، ثم أصدر جريدة الجوائب، وأنشأ أيضاً المجلة المصرية، واشترك في تحرير المؤيد واللواء، وناصر المرحوم مصطفى كامل في جهاده المجيد، وأتقن دراسة الأدب العربي قديمه وحديثه، كما أتقن الأدب الفرنسي مما أثر في نزعته الثورية ألي التجديد في الشعر إلى أبعد حدود التأثير. ولم تشغله صناعة الأدب، عن أعمال ليس لها صلة بالأدب، وهو في أثناء ذلك كله لم ينقطع عن نظم الشعر والتأليف المسرحي وترجمة المسرحيات. وقد تولى إدارة الفرقة القومية زهاء سبع سنوات.

ولا يهمنا في دراسة خليل مطران تلك الدراسة العاجلة إلا الناحية الشعرية منه وان كانت آثاره جميعا جديرة بالدراسة العميقة. خليل مطران صاحب مدرسة حديثة في الشعر العربي، فهو أول شاعر ثار على أساليب المدرسة التقليدية، وجاهر بمذهبه الجديد في الشعر ورأى أنه المذهب الذي سيسود في شعر المستقبل حينما أصدر ديوانه الأول؛ لأنهذا الشعر كما قال (شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا).

نهج خليل مطران نهجاً جديداً في نظم لشعر ونادى بمذهبه حيث قال (اللغة غير التصور والرأي، وان خطة العرب في الشعر لا يجب حتماً أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا؛ ولهذا وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا لا لتصورهم وشعورهم، وان كان مفرغاً في قوالبهم محتذياً مذاهبهم اللفظية). بهذا الرأي الجريء الغريب نادى خليل مطران ودعا إليه؛ بينما كان شعراء مصر في ذلك الحين يتورطون في شعر المديح والتهاني يرفعونه إلى السدة العلية والأعتاب السنية.

ومن هنا كان شعر مطران ومذهبه في النظم نقطة تحول في تاريخ الشعر العربي وانقلابا بعيد المدى، فهو بحق شاعر العربية الإبداعي، يمر شعره على أوتار القلوب فيحركها ويهز الوجدان ويثير العواطف.

(فمطران أول من عمل على إخراج الشعر العربي من نطاق الذاتية والفردية إلى باحة الموضوعية وميدان الحياة. وهو أول رائد خرج على الطريق الاتباعية الكلاسيكية إلى الطريقة الإبتداعية الرومانتيكية وأن ساير الاتباعية غالبا في الأسلوب. وهو أول من أثر في شعراء الشرق سواء باتجاهاته أو شاعريته). ولعل السبب في ثورة مطران على الطريقة التقليدية في نظم الشعر هو إن هذه الطريقة وذلك اللون من الشعر التقليدي اصبح لا يعبر عن العواطف تعبيراً صادقاً ولا عما يعتلج في النفس من أحاسيس، وزاده إيماناً بذلك ثقافته الأجنبية ولاسيما في الآداب الفرنسية وهي أغنى الآداب الأوربية بالشعر العاطفي الوجداني ذي النزعة الإبداعية. لذلك لم يكن غريبا أن ينبذ مطران المدرسة القديمة العتيدة ولها أنصار كثيرون في مصر، ويأخذ بالمدرسة الحديثة قي نظم الشعر. ونلاحظ هنا أن كثيراً من الشعراء الذين أخذوا بهذه المدرسة الحديثة ونهجوا نهج مطران في الشعر بالغوا إلى أبعد حدود المبالغة وأصبح الواحد منهم على حد قول محب الدين الخطيب: (يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضاً!! فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني!!) أما خليل مطران فهو وإن تأثر بالآداب الإفرنجية لا يزال عربيا خالصا في أسلوبه وتعبيره وصيغه، ومحل ما أدخله على الطريقة التقليدية في الشعر العربي هو التجديد الطريف في المعاني والأخيلة والموضوع. وقد ذكرنا أن مطراناً نفسه قال: (. . . وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا وان كان مفرغا في قوالبهم (أي قوالب العرب) محتذيا مذاهبهم اللفظية).

فمطران إذن عرف كيف يستفيد من اللغات الأجنبية دون تقليد، وأن ينهج نهج قدماء العرب دون تقييد، فاحتفظ بصيغة العرب في التعبير، وأدخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير.

ومن هنا نجد الفرق الشاسع بين هؤلاء الشعراء الذين يدعون (التجديد) وبين إمام المجددين خليل مطران.

وقد أدخل مطران على الشعر العربي لوناً طريفاً من ألوان التجديد وهو الشعر القصصي. وقد ثار البحث بين الأدباء عما إذا كان للعرب شعر قصصي أم لا. وأخذوا يتلمسون ذلك اللون في الشعر العربي القديم؛ ولكنا نستطيع أن نجزم أنه قبل مطران لم يكن للشعر القصصي مكان في العربية. فمطران أول شاعر نظم شعراً قصصياً بالمعنى المعروف. ولا شك أن هذه النزعة في شعر مطران تساير نزعته الإبداعية في سائر فنون الشعر التي نظم فيها. ولعل من روائع هذه القصص الشعرية قصيدة (الجنين الشهيد) التي لا مثيل لها في الشعر العربي، وقصيدته (فتاة الجبل الأسود) و (العصفور) و (فنجان قهوة) و (نيرون) التي تعد من عيون الشعر القصصي.

ومطران واقعي في قصصه الشعري لا يحلق به الخيال في آفاق مفقودة بيننا في الحياة العادية، ولكنه يستلهم الحوادث المألوفة لنا في الحياة الواقعية ويفرغها في قالب قصصي رائع بديع.

وقصصه الشعرية تستأهل دراسة مستفيضة منفصلة عن باقي شعره؛ ذلك بأن القصص هو العنصر الفذ الذي قامت عليه شاعرية مطران.

ولخليل مطران (تجارب شعرية) رائعة أمتاز بها على المعاصرين من شعراء العصر الحديث، نذكر من هذه التجارب الشعرية قصيدته الرائعة (المساء) وقصيدته (الحمامتان) وقصيدته (الشمس والنبتة) وقصيدته (بدري وبدر السماء) التي خلع فيها على أحداث الطبيعة سمات البشرية.

ويلاحظ في شعر مطران ظاهرة واضحة هي أنه لا يعنى بالبيت منفرداً كما هي عادة العرب حيث (ينفرد كل بيت من القصيدة بإفادته في تركيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وعما بعده) وإنما يعني مطران بالوحدة الفنية في القصيد كله، ولذلك نشعر بانسجام تام وتسلسل بديع إذا قرأنا له قصيدة من قصائده الوجدانية جملة واحدة بينما يفسد ذلك تجزئة القصيدة كما تنال من الوحدة الفنية فيه.

أما عن الخيال عند مطران فإن نشأته بين الخضرة والماء والصخور في ربوع الشام وجبل لبنان، ثم في ربوع الوادي وربى الأهرام، فتق خياله عن معان عبقرية رائعة. استمع إليه من قصيدة يستقبل بها الشام:

هذي رؤس القمم الشماء ... نواهضاً بالقبة الزرقاء

نواصع العمائم البيضاء ... روائع المناطق الخضراء

يا حسن هذي الرملة الوعساء ... وهذه الأودية الغناء وهذه المنازل الحمراء ... راقية معارج العلاء

وهذه الخطوط في البيداء ... كأنها أسرة العذراء

وذلك التدبيج في الصحراء ... من كل رسم باهر للرائي

مشوش النظام في جلاء ... منتسق بالحسن والرواء

وهذه المياه في الصفاء ... آناً وفي الازباد والإرغاء

تنساب في الروض على التواء ... خفية ظاهرة اللألاء

وهذه القصيدة كما يقول الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم في بحثه القيم عن مطران (تلمس فيها طبيعة الشام وتستحضر في ذهنك صورة محسوسة بين يديك عنها). وكما يقول المنفلوطي الكاتب الوجداني (يكاد يلمسك خياله ويسمعك رنين أوتار قلبه) وذلك لأن نفس الشاعر كالمرآة الحساسة ينطبع عليها كل ما يمر بها ولذلك كان الخليل شاعر الشعور والخيال.

ومن روائع شعره قوله في قصيدته الخالدة (المساء):

يا للغروب وما به من عبرة ... للمستهام وعبرة للرائي

أو ليس نزعاً للنهار وصرعة ... للشمس بين جنازة الأضواء

والشمس في شفق يسيل نضاره ... فوق العقيق على ذرى سوداء

مرت خلال غمامتين تحدرا ... وتعطرت كالدمعة الحمراء!

وهذا من رائع الوصف ورائق الشعر العربي:

ومجمل القول في مطران أنه أول شاعر إبداعي عرفته العربية. وقد أثر إلى أبعد حدود التأثير في الشعر العربي بمدرسته الحديثة التي أخلص لها وغذاها بروائع شعره الإبداعي والقصصي فالتف حوله جمهور من شباب الشعراء والأمل معقود عليهم في أن يحملوا مشعل الإبداعية في مصر بعد أن رفعته يد مطران نصف قرن تقريباً.

رابح لطفي جمعة

مراجع البحث:

بحث الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم عن (خليل مطران شاعر الإبداعية) في المقتطف سنة1939.

شعراء مصر للأستاذ عباس محمود العقاد.

كتاب (نقد الشعر المعاصر) للأستاذ مصطفى السحرتي.

كتاب (رواد الشعر الحديث) للأستاذ مختار الوكيل

مقال للأستاذ سلامة موسى عن خليل مطران في مجلة الهلال.

مجلة الزهور.

ديوان الخليل.

كتاب (شوقي) للأمير شكيب أرسلان.