مجلة الرسالة/العدد 83/القصص
→ بيان للناس | مجلة الرسالة - العدد 83 القصص [[مؤلف:|]] |
من روائع الشرق والغرب ← |
بتاريخ: 04 - 02 - 1935 |
كانديلورا
بقلم لويجي بيراندللو
صاحب جائزة نوبل لعام 1934
(لم يعرف للقصصي الايطالي لويجي بيراندللو، الذي فاز بجائزة نوبل الأدبية عام 1934، قصة كلاسيكية تجلت فيها مقدرته الفنية الرائعة، وتبينت فيها نظرته الفلسفية: (هذا او ذاك. . .) مثل ما تجلت في هذه القصة.)
انزل المصور الفنان (نين بابا) حافة قبعته بيديه الغليظتين ساعة ان قال لزوجته (كانديلورا): (لا فائدة ترجى. صدقيني يا عزيزتي أن لا فائدة ترجي.)
وصرخت كانديلورا مهتاجة: (وأي فائدة ترجى إذاً؟ افي معاشرتك ليقضي علي من الغضب والمعاندة؟)
ورد عليها نين بابا في هدوء: (نعم يا حبيتي. ولن دون أن يُقضي عليك. بقليل من الصبر. أنظري، سأذكر لك شيئاً. (شيكو). . . . . . .)
- إنني أمنعك من تسميته بهذا الاسم.)
- (ألا تسمينه كذلك؟)
- (نعم، ولأني أنا أسميه هكذا)
- (هه. . . . حسن. لقد ظننت أني أرضيك بهذا. أيجب أن أسميه البارون؟ البارون. أريد أن أقول إن البارون يحبك يا حبيبتي كانديلورا، ويبذل المال في سبيلك. . . .)
- (في سبيلي أنا يبذل المال؟ يا سافل! ألم يبذل من أجلك مالاً أكثر؟)
- (لو أنك تركت لي الكلام. . . . . هو يبذل المال من أجلي ومن أجلك. ولكن انظري، ما معنى أنه يبذل من أجلي مالاً أكثر؟ كوني منطقية مع نفسك. إن معنى ذلك أنه لا يقدرك إلا لأنك في ظلي الذي أخلعه عليه. هذا ما لا يمكن إنكاره.)
وتميزت كانديلورا من الغضب وقالت: (ظل؟ من شعاع لمثل هذا. . .) ورفعت قدمه مشيرة إلى حذائها، ثم استطردت قائلة: (لم يلحقني منك إلا العار ولا شيء إلا العار!)
وتبسم نين بابا , اجب بهدوء أكثر من ذي قبل: (كلا، أستميحك المعذرة: إن العار يلحقني أنا، فيما إذا ما تكلمنا عن العار. إنني الزوج. وهذا أهم شيء، صدقيني يا لوريتا. ولو لم أكن زوجك، ولم تعيشي في ضيافتي تحت هذا السقف، لفقدت كل جاذبية، أتفهمين؟ هنا يمكن للجميع أن يدللوك دون ان يخشوا عقاباً. والجميع يتمتعون متاعاً عظيماً بقدر ما تلحقين بي من عار وشنار. وبدوني يا لوريتا تصبحين شيئاً تافهاً شديد الخطورة، وما كان شيكو. . . البارون ليبذل. . . ماذا أنت فاعله؟ أتبكين؟ لا، انظري. . . إنني لا أقوال إلا هذراً.)
واقترب نين من كانديلورا. وأراد أن يسمك بذقنها، ولكن لوريتا قبضت على ذراعه، وفتحت فاها كحيوان مفترس وعضته، وطالت عضتها دون أن تتهاون. وكانت أسنانها تغور باستمرار في الذراع، بينما كان هياجها يزداد. وانحنى نين حتى يمكنها من ذراه، وأطبق على أسنانه وابتسم هادئاً للألم المروع الذي سببته له. وازدادت عيناه ضياء واتساعاً. ولما أن انفكت أسنان كانديلورا عن ذراعه - وكأن حملاً قد أزيح عنه - أحس بأن موضع ما أكلت جرح من النار، ولم ينبس بكلمة. وأخرج في هدوء ذراعه من ردائه، ولكن القميص لم يطاوعه، إذ كان قد غرز في اللحم الحي. وانطبعت على كم القميص بقعة من الدم، دائرة دموية، هي دائرة أسنان كانديلورا القوية. وكان أثر الواحدة بجانب الأخرى ظاهراً، وأخيراً تمكن نين من إخراج كم قميصه، والابتسامة لم تفارق وجهه الشاحب. وكانت رؤية الذراع وحدها تشيب. فموضع أثر كل سن في الدائرة جرح. وكان اللحم المحيط بالدائرة قد ايود لونه. قال نين مظهراً لما ذراعه: (ألا ترين؟) وصرخت كانديلورا، وهي ملقاة على المقعد تتمشدق: (هكذا أريد أن أعض قلبك!) وأجاب نين: (هذا ما اعرفه. وهذه الرغبة تقنعك بأنه أولى لك ألا تتركيني.
أذهبي بالقبعة، وأتني بصبغة اليود والشاش المعقم والرباط. جميعها في الخانة العليا من مكتبي يا لوريتا. هي الثانية من اليمين. إنني اعرف أنك حيوان صغير مفترس يحب العض، ولهذا أحرص دائماً على الضمادات اللازمة)
وأمسكت كانديلورا بذراعه ونظرت في عينيه وشفعتها بنظرة قصيرة إلى ذراعه، واعجب نين بها ساعة هذه النظرة
لكانديلورا سحر في اللون والحركة، وهي تشحذه للعمل. فعينا الفنان تكتشفان في هذه المرأة اشياء ابداً جديدة ومتعددة. ففي هذه الظهيرة تبدو وهي في حديقة المنزل، وتحت شمس شهر اغسطس المحرقة، التي تنشر ظلالاً حادة في كل مكان، ولها أثر مخيف. وكانت في نفس الصباح، حينما آبت من حمام البحر حيث قضت بضعة أسابيع محترقة الجلد سمراء اللون من فعل الشمس وملح البحر، لون شعرها منطفئ، وضاءة العينين أشبه ما تكون بعنز تشتهي النوم. وكانت بذراعيها العاريتين المفتولتين وبكفلها النامي تظهر في كل حركة بسيطة أن رداءها الأزرق الحريري الذي يناقض لون جسدها ويلتصق به يكاد يتقطع. وكان هذا الرداء مدعاة للسخرية. لقد كانت كانديلورا تقضي نصف يومها عارية تمرح على شاطئ البحر المنعزل، وترقد بجسمها الصامد على الرمال المتقدمة من حرارة الشمس الملتهبة، بينما كانت تشعر بنسيم البحر البارد يهب على قدميها. فكيف لهذا الرداء الازرق ان يخفي عراها؟ لقد ارتدته مجاملة للعرف، ولكنه في الواقع اظهرها في حالة غير محتشمة اكثر مما لو كانت عارية
ومع كل ما كانت عليه من غضب لحظت في عينيه إعجابه بها. وسرت إلى شفتيها بفعل الغريزة ابتسامة الرضا. واستاءت لساعتها من فعلتها هذه. وانقلبت ابتسامتها ضحكة استهزاء. وصارت ضحكة الاستهزاء فجأة نحيباً وشهيقاً وهربت إلى المنزل
وأخرج نين بابا لسانه لها دون وعي وهو يرقب مسيرها. ثم نظر إلى ذراعه المجروحة التي تشع ألماً محرقاً من فعل حرارة الشمس. ثم شعر فجأة أن عينيه أغرورقتا بالدموع. ومن يعرف السبب؟ وتحت تلك الشمس المحرقة في وسط الحديقة حيث الظلال الحادة مترامية شعر بين بابا بأنه كاد ينزعج من وجود اشياء عدة لا حراك بها من حوله: الأشجار، وجذوع أشجار البلوط، والاحواض المركزة على جوانبها صخور صناعية، وسطح الماء الاخضر، والمقاعد ماذا تنتظر كل هذه الاشياء؟
إنه يمكنه أن يتحرك وأن يسير. ولكن يا للغاربة! كأن كل هذه الاشياء التي من حوله ولا حراك بها تنظر إليه؟ ثم هي لا تنظر إليه مجرد النظر بل ترسل إليه سخريتها في سحر يشع من جمودها العجيب، وصورت له أن قدرته على المسير ليس من ورائها طائل، إلا أن تظهره بمظهر الغباوة الداعية للسخرية
وهذه الحقيقة تمثل ثراء البارون شيكو. وهنا سكن نين بابا منذ ستة شهور، إلا أنه لم يشعر بالاشمئزاز من نفيه ومن كانديلورا إلا في صبيحة أمس، وحين آبت الساعة من البحر تجسم وزره ووزر عراها أمام عينيه. غير أنه اضطر إلى الضحك ساعة أن قالت له تهرب الآن من هذا العار. وقد أفصحت له أنها تبغي ذلك
حقاً إن صور نين بابا ستلقي رواجاً بعد الآن. وان قيمة فنه الجديد الخاص به قد بلغت اخيراً أعلى مرتبة. وليس ذلك لأن الناس حقاً فهموه، ولكن أمزجة الأغنياء من زوار معرضه وعقلياتهم تنقاد لحكم النقد الفني فيقفون إزاء لوحاته معجبين
النقد؟ وأيضاً كلمة النقد لا وجود لها في غير سراويل النقدة.
والناقد الذي قصدته كانديلورا وجلة يوماً ما، لكي ترجمة في وجهه بأنه غير عادل حين يؤدي بفنان مثل نين بابا الى التهلكة جوعاً - ذلك الناقد الكلمة دون غيره، كتب مقالاً عظيماً يلفت به انظار المترددين الى فن نين بابا الجديد والطابع الشخصي فيه.
ولكنه طلب أجراً مقابل اعترافه بالفنان. على ألا يُدفع هذا الاجر نقداً، بل شكراً حيوياً تقدمه كانديلورا له. ولم يكن من كانديلورا إلا أن قدمت دون تريث هذا الشر جزيلاً. غير قاصرة على ذل الناقد، بل عممت هذا الشكر للذين أعجبوا بفن زوجها، ذلك الفن الجديد. فقد ملكتها نشوة فرح لانتصار زوجها. وشكرت الجميع وبخاصة البارون شيكو، الذي جرى في ذلك إلى حد أن ترك للزوجين منزله، حتى يكون له شرف إيواء فنان معذب. . . .
مسكينة كانديلورا! لقد خافت الفقر وقالت ان الفقر ليس هو الحاجة ولا الذل. وانه ليس لما حق فيما يكسبه زوجها. ودفعتها عدم اهليتها هذه للانتقام. وعلى اي صورة؟ منزل. سيارة. قارب بخاري، حلى. جواهر ثمينة، تنزهات خلوية. أدوات زينة. مآدب. . . ولم تشعر هي بغضب منه، إذ بقي دون أن يتغير في شيء. . . فلا هو حزين ولا هو فرح، ولا زال مهملاً في هندامه كما كان. . . . . . . وليست له بهجة في غير الوانه. لا يعرف مطلباً سوى التفرغ لفنه، حتى يصل إلى القرار، القرار المكين، كي لا يرى شيئاً من صور الحياة الوضيعة التي تحيط به من المحتمل، كلا، بل بكل تأكيد ان تلك الحياة الوضيعة - حلى لوريتا والترف والدعوات والمآدب - تدل على شهرته. شهرته وعاره - ولم لا؟ وماذا يهمه من أمر ذلك؟
إنه يقدم روحه وكل ما فيه للمتعة بورقة يدخل عليها الحياة برسمه، بينما يصير هو لحماً ودماً وشرايين لتلك الورقة. أو للمتعة بحجر صلب لا حس فيه ليجعله فوق لوحته حجراً حياً حساساً، هذا ما يعنيه
عاره؟ حياته؟ حياة الآخرين؟ سباب الأجانب الذي لا فائدة من الانصات اليه؟ إنه لا يحيا إلا لفنه، وهو العمل الذي يتمخض عنه النور والألم ويتمثل في روحه
وقال هذا الصباح للوريتا وكأنه في عام آخر إنها تعجبه - دون أن يعير الأمر اهتماماً خاصاً - حقاً إنها أعجبته، لأنها ارتضت أن تكون شريكة مطيعة في الحياة، غير عابثة بالفقر، شركة قنوعاً راضية، له أن يطمئن الى صدرها، وطبيعي أن تهاجمه لوريتا كنمرة. ولكن ماذا نفعل بعد ذلك؟ ألا تعود بصبغة اليود والشاش المعقم والضماد؟ لقد صعدت المسكينة باكية
الآن يجب أن يحب لوريتا. ولربما كان ذلك رد فعل لعدم مبالاته. أليس ذلك جنوناً؟ ولو أنه كان يحبها حقاً لحق عليه قتلها. عدم المبالاة هذا ضروري، هو المقدمة التي لا مفر منها، وليتحمل العار الذي تمثله الى جانبه. أيهرب من هذا العار؟ كيف يمكن ذلك. وكل منهما قد رأى هذا العار ليس بعيداً عنه ولا محيطاً به بل رآه في نفسه أيضاً. والسبيل الوحيد هو ألا يهتم كلاهما بذلك. فهو يتابع تصويره وهي توالي تمتعها بشيكو مؤقتاً ثم بغيره أو به مع غيره في وقت واحد، فرحة غير حاملة هماً. إن الحياة. . . . لا شيء. . . وهي تسير على هذه الوتيرة أو تلك، دون أن تترك أثراً. ويجب على الانسان أن يضحك من الأشياء التي ولدت خبيثة، والتي ليس لها من الكيان ما يغري، أو لها كيان، ولكنه قبيح يجعلها تتألم الى أن تصبح رماداً مع الزمن. وكل شيء يحمل طيه آلام تكوينه، آلام مصيره الذي لا قدرة له على تغييره. وهذا هو الجديد في فنه، إذ يجعل أشخاصه يشعرون بذلك الألم. . . وهو يعرف جيداً أن كل أحدب عليه أن يعرف كيف يحمل حدبته معه. وينطبق ذلك على الوقائع كما ينطبق على الأشخاص. فاذا ما كانت الواقعة واقعة فستبقى كذلك دائماً أبداً، ولن تغير. فكانديلورا مثلاً لو أنها بذلت أقصى جهدها لتصير خلواً من العار ما كانت أصلاً عندما كانت فقيرة لما استطاعت. ولعل كانديلورا لم تك قط خلواً من العار حتى في أيام طفولتها. وإلا لما أمكنها فعل ما فعلت، ثم هي تفرح لعملها هذا
وتحت حرارة الشمس انقبض الدم في موضع العضة من ذراعه، وتجعد سطحه وازداد نبضه وانفتحت يده وتوترت شرايينه
واستفاق نين بابا من تأملاته وخطا نحو المنزل ونادى مرتين عند مدخل السلم وفي الممشى:
(كانديلورا! كانديلورا!)
ورن صدى صوته في الغرف الخالية ولم يجبه أحد. دخل في الغرفة المجاورة لمحل عمله ومكتبه، ولكنه تراجع من هول ما رأى. كانت كانديلورا منبطحة على أرض الغرفة البيضاء المفعمة بالنور. ورداؤها في غير انتظام. وكأنها دارت حول نفسها فانكشف فخذها. أسرع أليها ورفع رأسها، يا ألهى ماذا فعلت. الفم والذقن والرقبة والصدر يضرب لونها بين السواد والصفرة: لقد شربت صبغة اليود
ثم ناداها قائلاً: (إنه لا شيء! لا شيء ما هذه الفعلة الحمقاء يا حبيبتي كانديلورا. يا طفلتي. . . إنه حقاً لا شيء. . . إنه يؤذي المعدة طبعاً قفي)
وحاول أن يوقفها على قميها؛ ولكنه فشل، إذ أن المسكينة قد تصلب جسمها من شدة الألم. ومع ذلك لم يقل لها مسكينة، بل قال: (طفلتي. . .! طفلتي. . . .!) ذلك لأنه ظن ان تجرعها اليود أمر تافه مزر. (طفلتي!) رددها ثانية، وقال لها (يا صغيرتي الحمقاء). وحاول أن يستر فخذها بالرداء الأزرق فقد أصاب منه نظراً، وأدار عينه الى الناحية الأخرى حتى لا يرى فمها الأسود
هو وحده في ذلك المنزل. لقد وصلت لوريتا اليوم من حمام البحر. وكانت قبل ذهابها قد طردت الخادمة، فلا أحد يساعده على رفعها من الأرض، ولا أحد يأتي بعربة تحملها الى أقرب مستشفى حتى يؤدوا لها الاسعافات السريعة. ولحسن الحظ سمع بوق سيارة البارون شيكو وهي قادمة في الطريق، وسرعان ما ظهر البارون بهندامه الأنيق ووجهه الأصفر الذي ينم عن شيخ ضعيف العقلية مديد القامة متصاب
وثبت البارون شيكو (المونوكل) على إحدى عينيه وقال: (ماذا جرى؟) وصرخ نين في وجهه قائلاً: يا إلهي، ساعدني على إنهاضها)
ولم يكادا يحملانها حتى رأيا أن يدها التي كانت منطوية تحت فخذها قابضة على المسدس، كما رأيا تغرة من الدم
وتنهد نين: (آه. . . آه. . .) وهو ينقلها هو وشيكو إلى غرفة النوم
إن لوريتا لم يتصلب جثمانها من شدة الأم، ولكن من الموت. ولما وضعت الجثة على السرير صرخ نين بابا وجه شيكو قائلاً:
(من كان معكما في حمام البحر؟ قل لي من كان هذا الصيف معكما في الحمام؟)
وفقد شيكو صوابه وتمتم ببعض الأسماء
وزأر (نين) كالوحش وهجم عليه وأمسكه من قميصه وهزه هزات عنيفة وقال له: ([اإلهي! كيف يكون كل غني متمول أبله قصير النظر؟)
وتساءل شيكو وقد خاف على نفسه، وكان من شدة الخوف يتراجع باستمرار: (انحن حقاً بلهاء؟)
واشتد تأنيب نين بابا إياه، وقال له: (أنتم، نعم أنتم بلهاء لدرجة أنكم تذكون الأمل في المساكين بأنهم سيكونون محبوبين مني! أتفهم ذلك؟ منى! منى! منى - محبوبين!)
ثم وقع على جثمان لوريتا وانفجر يبكي بكاءاً مراً
عربها عن الألمانية:
ا. ا. ي