مجلة الرسالة/العدد 823/فزان بين يدي الأتراك والطليان
→ أساليب التفكير | مجلة الرسالة - العدد 823 فزان بين يدي الأتراك والطليان [[مؤلف:|]] |
عبد الله بن مسعود ← |
بتاريخ: 11 - 04 - 1949 |
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 3 -
انسحاب الطليان من فزان في عام 1914:
24 - يفسر كتاب إيطاليا أن ظروف التعبئة العامة في إيطاليا أملت سياسة إخلاء المستعمرة من حامياتها في الداخل والاكتفاء باحتلال الساحل ويعدون هذا الانسحاب بمثابة نكبة كبرى على الدولة الاستعمارية، فقد كان هروباً سريع أمام الخطى قوات السنوسيين الذين توغلوا في كل جهة.
كانت برقة مهد السنوسية ولما اشتد ساعدها امتدت حركتها إلى نواحي المستعمرة الأخرى فكان الجزء الجنوبي الممتدشمالي فزان من نصيب السيد محمد العابد ابن الشريف محمد ابن علي السنوني الحسني الأدريسي الخطابي الذي بدأ الدعوة إلى الجهاد في تلك الجهات. وقد وجد السيد العابد أنصاراً له عديدين نفذوا أوامره وقاموا بنشر دعوته خير قيام منهم محمد مهدي السني ابن محمد ابن عبد الله السناري وهو من مواليد السودان.
25 - وقد انتشرت دعوته حتى وصلت إلى قبائل الطوارق وانضم إليها كثير من زعماء الجنوب الذين بدءوا يهاجمون المواقع الحصينة التي كان يحتلها الفرنسيون والإيطاليون على السواء وكان أن تألفت حكومة بدوية تحت زعامة دينية حكمت هاتيك البقاع وبقيت تحتل فزان وأجزاء من الأراضي الفرنسية طول مدة الحرب الماضية حتى تقلص ظلها بسرعة غريبة حينما أرسل نوري باشا القائد التركي ثلاثة من الضباط المغامرين الذين نجحوا في استخلاص فزان والجهات المجاورة واستعملوا أساليب السياسة والدهاء في المفاجأة في تنفيذ أغراضهم.
26 - وكانت أول غارة للثوار ضد حصن سبها الإيطالي في ليلة 27 نوفمبر 1914 إذ حصل الهجوم على الحامية ليلاً حينما علا المجاهدون أسوار القلعة وسلطوا نيرانهم وأعملوا السلاح فاضطرت القوة للتسليم إلا من تمكن من الهرب تحت الظلام منسحباً إلى سخناً في الشمال. جاء في وصف هذه المعركة أن رصاص المهاجمين كان ينهمل على عساكر إريتريا فنسمع أزيز المصابين كما نسمع أصوات الفيران التي أخذت في المصيدة.
ويقول الطليان أن السيد العابد هو المسؤول عن مجزرة سبها إذ انتقل سراً من الكفرة إلى واحة واو الكبيرة واتخذها مركزاً للدعاية وبعث منها بداعيته مهدي السني الذي دخل وادي الزلاف وهناك دعا الناس إليه وحرض المقاتلين على مهاجمة الحصن حتى إذا نجحوا كان على رأس الغنائم وإذا فشلوا عاد إلى سيده بواو. ولما دخلوا الحصن واستولوا عليه فأصبح طريق فزان مفتوحاً أمامهم.
27 - وما كاد يصل خبر الكارثة إلى السلطات الإيطالية حتى تيقنت بحلول الخطر على حاميتها الموزعة في فزان، فبعثت بسيارات وصلت إلى مرزوق في ليل ديسمبر سنة 1914 حملت الضباط والجنود الأوربيين وتركت الحمايات المكونة من عساكر المستعمرات تتلقى بصدورها رصاص الثوار وهي التي تولى قيادتها جاويش عربي من متطوعي الفرق اليمنية اسمه محمد بن عبد الله من قبيلة بني حبيش.
ولا شك في أن تصرف السلطات العسكرية الإيطالية على هذا النحو كان مدعاة لسقوط هيبة إيطالية في الصحراء مدة من الزمن ولم تسترجعها إلا بعد مضي سنوات طويلة.
28 - ولا بد أن نذكر شيئاً عن هذا اليمني المتطوع في صفوف الإيطاليين فهو قد بدأ خدمته في الصومال الإيطالي ضمن الجنود الذين اعتادت الحكومة الإيطالية تجنيدهم من عرب اليمن رغم أن هذا الجزء من أملاك الدولة العثمانية. وقد أظهر هذا اليمني تفانياً في خدمة إيطاليا إذ توجه في يوم 7 ديسمبر سنة 1914 إلى منزل الضباط بمدينة مرزوق فوجده خالياً فجزم بانسحابهم فقرر في نفسه أن يأخذ مكانهم، وعاد إلى القلعة وأعلم الحامية بأن الطليان قد ذهبوا إلى الشمال في صدد تلقي أوامر جديدة صادرة إليهم بمداومة القتال وسيعودون ومعهم الإمدادات. وهكذا صمد هذا اليمني على رأس القوة المحاصرة بالقلعة مدة 16 يوماً أمام الثوار المحيطين به حتى اتصل بعض هؤلاء برجال الحامية وقرروا التسليم. وتذهب الرواية الإيطالية إلى أنه أخذ العلم الإيطالي الذي كان يرفرف على القلعة وعاد به إلى منزله حيث أحرقه أمام زوجته.
29 - ولما وقع أسيراً أراد السنوسيون أن يستفيدوا من خبرته في تدريب المقاتلين وتهيئتهم للحرب على طريقة الجيوش الإيطالية فأبى: وعُدّ إباؤه من مفاخره.
وإنما نسوق هذه الحادثة بالذات لأن المؤلفين الطليان اتخذوا منها دليلاً على صلاحية التدريب الإيطالي وتأثيره في بعض النفوس من السكان الوطنيين والوصول بها إلى درجة التضحية في خدمة الحكومة وتهمنا هذه الناحية بالذات، فإن الفرنسيين برعوا في تجنيد العناصر الملونة الأفريقية، وتقدموا في أساليبهم إلى درجة تقرب إلى الكمال فقد رأينا كيف يتعلم السنغالي القواعد الأولى بهوادة وصبر بحيث لا يتعد التعليم ساعة من النهار موزعة على دقائق معدودة تسمح لهذا المجند أن يستوعب دقائق الأسلحة بطريقة تغلب عليها قواعد علم النفس بحيث يخرج بعد أشهر وهو متحمس إلى الفرقة وللعلم ولفرنسا.
فإلى الذين يتولون تدريب النشء على القواعد العسكرية نسوق هذه الأمثلة للتدليل على أن تجارب علم النفس هي التي يجب أن تسير على هديها للتغلب على المصاعب التي تواجهنا في تهيأة منظمات الشباب وتدريب الجنود: إذ يصعب على النفس أن تقرر نجاح المستعمر الغاصب وقصور الأمم الفتية الناهضة.
30 - هذه الناحية من حياة فزان طوال عام 1915 و1916 تحت الحكم السنوسي تكلم عنها ضابط إيطالي وقع في أسر السنوسية وأعتقل في معسكري واو الكبير وواو الناموس وطبيعي أن معلوماته التي دونها في يومياته مستقاة مما كان يصل إلى علمه عن طريق الثوار الذين عاش بينهم.
أما الفترة العثمانية التي تولى فيها الضباط الأتراك حكم الولاية فستأتي في القسم التالي وقد تخللها هجوم من المتطوعين وعمليات حربية داخل الأراضي الفرنسية في الصحراء الكبرى وأراضي الجزائر والجزء الجنوبي من تونس وهي خارجة عن نطاق فزان وأشير على المهتمين بجهاد الأمم المظلومة والمغرمين بالتاريخ الحربي أن يقرءوا كتاب الكولونيل عن:
,
استيلاء الأتراك على فزان وانتزاعهم الجزء الجنوبي من مستعمرة ليبيا من أيدي حلفائهم السنوسيين.
31 - ظهر في أفق أفريقيا في أواخر عام 1916 نوري باشا شقيق المرحوم أنور باشا إذ وصل إلى السلوم وتوجه منها إلى إجدابية ثم غادر بزقة في غواصة أوصلته إلى مسراطة التي اتخذها مع من معه من الضباط الألمان والأتراك مركزاً لحركاتهم العسكرية ضد الإيطاليين وهي عمليات لا شك أنها خارجة عن موضوع فزان.
32 - وكان نوري باشا في إيجابية حينما عرضت عليه فكرة من تلك الأفكار التي لا يتركها تمر أمامه رجل مثله بدون أن ينفذها. وتتلخص هذه الفكرة في أن مهمته في طرابلس الغرب لن يلازمها للتوفيق إذا لم يدعم جهاده بعمل حاسم في الجنوب يرى إلى احتلال مقاطعة فزان وتحريرها من السنوسيين حتى يتمكن من تهديد المستعمرات الأفريقية للحلفاء أي فرنسا وبريطانيا. باتجاه الصحراء الكبرى وشمال السودان المصري.
لذلك أرسل بعثيين إلى الجنوب الأولى وجهتها الفكرة والثانية وجهتها فزان.
33 - كانت بعثة فزان مكونة من ثلاثة ضباط: (إحسان ثاقب) و (سنوسي شوكت) و (محمد الأرناؤطي) أما الأول فكان يوزباشياً من أهالي طرابلس وتخرج من المدارس العسكرية العثمانية وامتاز بقوة إرادة هائلة وكان الثاني من أهالي برقة تعلم في مدرسة المدفعية وحصل على رتبة الملازم. أما الثالث فكان من الضباط المغامرين الذين لا يقف أمامهم عائق وهو من كريد.
34 - فلنتصور قوة صغيرة تغادر إجدابية وتتجه إلى الجنوب وتمر بالمراده وبير نعيم وزيلة وتكاد تهجم من قطاع الطرق ونظراً لضعفها، تضل إلى انتزاع إقليم مثل فزان وتهدد منه المستعمرات الأوربية الأخرى.
فعلى الطريق الواقع بين أوجله ومرزوق افترق الثلاثة أبطال. أما أولهم فاتجه رأساً إلى عاصمة فزان حيث دخلها وأقام حكومة باسم السلطان بانضمام قوات السنويين إلى لوائه. أما الآخران فكانت وجهتهما وأو الكبير حيث استقبلهما السيد العابد السنوسي بحفاوة زائدة وأطلقت المدافع ترحيباً بهما وقدماً إليه هدايا سلطان تركيا وفرماناً بمنحه رتبة الباشوية كما وزع النقود الذهبية على الجنود والأتباع.
وكان القصد من هذه الحركة الأخيرة اشتغال السيد العابد حتى لا تتجه أنظاره إلى فزان وما يقوم به الضابط الثالث.
35 - ولم يكد الضابطان يغادرا واو الكبير متجهين جنوباً حتى وصلت الأنباء بالحركة التي قام بها ثاقب في مرزوق ولذلك وجه السيد العابد قوة من رجاله تحت قيادة صهره السيد العاشب زحفت على مرزوق وأجلت الأتراك عنها واستعملت كل وسائل العنف والتشريد مع الأهالي. ثم اتجهت شمالاً إلى الأبيض حيث التقت بالقوة التي جمعها الضباط العثمانيين وهناك دارت معركة فاصلة انتهت بهزيمة السيد العابد وأسر صهره العاشب الذي حوكم على النهب والقتل الذي ارتكب في مرزوق فأعدم شنقاً في سبها ولما وصلت هذه الأنباء إلى السيد العابد غادر واو الكبير منسحباً إلى الكفرة.
36 - إن هؤلاء الضباط من أهل طرابلس الذين تلقوا تدريباً عسكرياً في مدارس الأتراك قاموا بعمل من أعظم الأعمال فهم كان اعتمادهم على الجنود الوطنيين الذين جندتهم الدولة العثمانية في السابق ثم على الجنود خدموا في الجيوش الإيطالية وأخيراً حينما توطد شأنهم عرفوا كيف يضمون الجنود الوطنيين من المغاربة والطوارق والسنغال إلى صفوفهم.
37 - إن هذه الصفحة خطيرة وهي تكاد تقنعنا بمخاوف الدول الاستعمارية في أفريقية بأكملها إذا قدر لها أن تواجه في المستقبل رجالاً من هذا النوع فيهم التصميم والإرادة ومواجهة الأخطار ومن هذا نفهم جيداً مركز فزان في القارة الأفريقية. لأن الذي يسيطر عليها بوسعه أن يملأ السودان والصحراء بالدعوة والدعاية التي يريدها. ويهز الاستعمار الأوربي.
وقد جاء في كتاب الكولونيل لارشيه الذي أشرت إليه ذكر بعض عمليات ترتب عليها تسليم مراكز عسكرية فرنسية بعتادها في الحرب العالمية الأولى.
38 - ويشير صاحب كتاب طرابلس
أن الحكومة التي أنشأت بفزان استطاعت أن تربط مرزوق بخط تلغرافي مع مسراطه باستعمال زجاجات المياه المعدنية لحمل الأسلاك وذكر أنه لجأ إليهم ولقى لأول مرة معاملة مدنية ورأى بعينه حركة القوافل والاتصال بين الشمال والجنوب وإلى رجالها يرجع الفضل في ترحيله إلى مسراطه حيث ضم إلى معسكر الأسرى الإيطاليين فاتصل بالعالم لأول مرة وعرف أهله بوجوده حياً يرزق بعد أن كانوا قطعوا الأمل من حياته.
وقد بقيت فزان تدار بمعرفة هؤلاء ما دامت حكومة مسراطه قائمة حتى أمضيت الهدنة 1918 فانسحب الألمان والأتراك ثم رأس الحكومة (رمضان الشتوي) ثم ساد فزان عهد من الفوضى نتيجة للنزاع الداخلي.
31 - وفي سنة 1921 جاء (فولبي) حاكماً للمستعمرة فاتجه إلى احتلال مسراطه ثم أقرت الحكومة الفاشستية سياسة القمع والفتح والتشريد فأخذت 11 عاماً بين 1918 و1929 للوصول إلى فزان.
ومن دروس هذه الحقبة وتجاربها أخذت الدولة المستعمرة بمجرد استعادتها لهذه الأراضي تنفذ برنامجاً واسعاً لرصف الطرق، وأنشأت حصونها على أحدث طراز منها الذي يعد أقوى الحصون الدائمة في المنطقة وهو في مدينة سبها. وسنرى في القسم التالي مشاكل إيطاليا وقوادها مع فزان وأهلها.
أحمد رمزي
(يتبع)