مجلة الرسالة/العدد 823/عبد الله بن مسعود
→ فزان بين يدي الأتراك والطليان | مجلة الرسالة - العدد 823 عبد الله بن مسعود [[مؤلف:|]] |
عود على بدء: ← |
بتاريخ: 11 - 04 - 1949 |
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
(وعاء ملئ علماً) عمر بن الخطاب
الرحمن علم القرآن:
تلك قريش في جبروتها متربصة بمن يجيب داعي الله ويشهد لمحمد بالرسالة. فما يلم به من آمن إلا في خفاء، ولا يتلو أحد مازال الله إلا همساً أو من وراء جدر. وإن قريشاً لتبالغ في الإيذاء وتمعن في العقاب، يخشى ألسنتها من له قوم عديدون، ويتوقى إذا من حرم الكثرة والأتباع، فكيف بمن لا أهل له ولا عشيرة. وأولئك أصحاب رسول الله ﷺ قد تسللوا إلى حيث يجتمعون وبينهم فتى يوشك أن يبلغ الحلم، ذلكم هو عبد الله ابن مسعود. قال أصحاب الرسول: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ قال ابن مسعود: أنا ذلك الذي يجهر لهم فقالوا وهم يرون جسمه الذي تقتحمه العين لفتى ما له في مكة من ركن شديد: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إذا أرادوه فقال: دعوني فإن الله سيمنعني.
وما راع قريشاً في أنديتها ضحى ذلك اليوم إلا صوت يتردد في جوانب البيت ينبعث من عند مقام إبراهيم: (بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان. . .) واستقبل السورة يرتلها فاستقبلوا صاحب الصوت فإذا هو عبد الله ابن مسعود، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ما يقول ابن أم عبد؟ فأجاب منهم مجيب: إنه يتلو ما جاء به محمد، فاندفعوا إليه يضربون وجهه، ولكنه ما يكف بل جعل يقرأ وهم يضربون حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثرت بوجهه ضربات القوم ولطماتهم ولعل أشدها كانت لطمة عدو الله أبي جهل. قال له أصحاب الرسول وقد رثوا لحاله: هذا الذي خشينا عليك فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي قط منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
إنك غلام معلم
كان أبوه مسعود وأمه أم عبد قد تركا قومهما هذيل الذين يسكنون جبل السراة قري الطائف وأقاما بمكة حيث حالف مسعود عبد الله بن الحارث بن زهرة خال زوجه أم عبد والدة عبد الله بن مسعود، ولما صار غلاماً يافعاً اشتغل برعي الغنم لعقبة ابن أبي معيط من سادات قريش، وبينما هو قائم كعادته أقبل رسول الله ومعه أبو بكر فقال يا غلام هل معك من لبن؟ قال: نعم ولكني مؤتمن، فقال له ائتني بشاة لم تحمل ولم تلد، فأتاه بواحدة فجعل الرسول يمسح ضرعها ويدعو الله حتى درت فأتاه أبو بكر بإناء فاحتلب فيه ثم قال لأبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي ﷺ بعده، ثم قال للضرع: أقلص فقلص فعاد كما كان. هذا وعبد الله يشهد ويسمع فقال: يا رسول الله علمني من هذا الكلام فمسح رأسه وقال: إنك غلام معلم.
لقد أسلم عبد الله فكان من السابقين وترك غنم عقبة فأخذه الرسول وجعله في رعايته، فلقد كان أبوه حليف أخوال الرسول وإن جدته لتمت بصلة القرابة إلى أخوال الرسول، وعقبة من رؤوس الشرك ولن يبقى عليه بعد أن أصبح من أتباع محمد فكان يخدم رسول الله: يلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام. حدث أبو موسى الأشعري قال: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. وتمر الأيام ويشتد أذى قريش للمسلمين فيهاجر جماعة منهم إلى الحبشة وفيهم عبد الله ثم يهاجرون إلى المدينة ومعهم عبد الله.
هذه رأس أبي جهل:
نحن في العام الثاني من هجرة الرسول في غزوة بدر الكبرى وهذا أبو جهل ملقى بين الجرحى وقد أمر الرسول أن يلتمس في القتلى فوجده عبد الله بن مسعود بآخر رمق فوضع رجله على عنقه قال أبو جهل قد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً أخبرني لمن الدائرة فقال لله ولرسوله وإني قاتلك، قال أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي فقتله وحمل رأسه إلى رسول الله ﷺ قال يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال الرسول: الله الذي لا إله غيره؟ ورددها ثلاثاً، قال نعم، ثم ألقى رأسه بين يدي الرسول فحمد الله تعالى وسجد شكراً له.
لقد عاش عبد الله حياة الرسول مقرباً منه أثيراً عنده قال له مرة: اقرأ علي سورة النساء، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عبد الله حتى بلغ: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) ففاضت عيناه ﷺ
وأمره مرة أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها فنظر أصحاب الرسول إلى حموشة ساقيه - أي دقتهما - فضحكوا، فقال النبي: ما يضحككم؟ لَرجْلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد
في أيام الخلفاء:
كان عبد الله في حياة أبي بكر مع الجيوش التي سارت إلى الشام، وكان موكلاً بأمر الغنائم وشهد موقعة اليرموك، ثم رجع إلى المدينة فكان مقرباً إلى عمر، قال زيد بن وهب: إني لجالس مع عمر إذ جاءه بن مسعود، يكاد الجلوس يوارونه من قصره، فضحك عمر حين رآه فجعل يكلم عمر ويضاحكه وهو قائم ثم ولى فأتبعه عمر بصره حتى توارى، فقال: (وعاء ملئ علماً) ولما أنشأت الكوفة، كتب عمر بن الخطاب إلى أهلها: (إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله ﷺ، ومن أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي).
ظل عبد الله بالكوفة حياة عمر، وزمناً من أيام عثمان، فلما كادت فتنة القراءات تقع بين المسلمين، كلف عثمان جماعة من الصحابة وعلى رأسهم زيد بن ثابت أن ينسخوا المصحف الذي جمع أيام أبي بكر، وأرسل عثمان إلى مكة والكوفة والبصرة ودمشق ما نسخ بعد أن أبقى مصحفاً بالمدينة سمي المصحف الإمام وعين زيد بن ثابت أن يقرأ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وأمر أن يحرق ما عدا هذه الخمسة المصاحف إذ كان فيما عداها بعض الاختلاف اللفظي الذي كان مأذوناً فيه من قبل توسعة على المسلمين. حينئذ تأثر عبد الله بن مسعود لأنه كان يرى نفسه أولى من زيد بن ثابت بالإشراف على نسخ المصاحف، ولعله كان يرى أن يستمر جواز ما كان مأذوناً فيه؛ يضاف إلى هذا أن له مصحفاً بعض الاختلاف، ويتناوله الأمر بالإحراق، هذا إلى أن كثيراً من التابعين من أهل الكوفة تلقوا عنه فقال: لقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ولو أني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته. وقال: لقد أخذت من في رسول الله ﷺ سبعين سورة - وفي رواية سبعاً وسبعين - وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان) لكن خشية الفتنة التي أطلت برأسها وخوف أن يدخل في القرآن ما ليس منه والحرص على وحدة المسلمين جعل سيدنا عثمان ومن حوله من كبار الصحابة لا يعبئون بأي اعتراض، ولقد سبق أن كلف أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن في مصحف واحد مما كان مكتوباً، وشهد شاهدان أن هذا المكتوب هو عين ما سمعه كاتبه من فم الرسول فلم يبد عبد الله بن مسعود اعتراضاً، لأن ذلك كان جمعاً للقرآن خوفاً عليه من الضياع بوفاة حفاظه، ولم يأمر أبو بكر بالاقتصار بما جمع وحرق ما عداه مما كتبه آخرون أو حفظوه، أما سيدنا عثمان فقد ألزم الناس - وهو محق - بالاقتصار عليه وعبد الله يعلم أن جامعه هو زيد بن ثابت ويرى أنه أولى منه لسبقه في الإسلام ويعلم أن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة يقرأ كل منهم كما علم لهذا كان منه ما قال. قال ابن شهاب الزهري: بلغني أن رجلاً من أفاضل الصحابة كرهوا مقالة عبد الله بن مسعود. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري: والعذر لعثمان في ذلك أنه فعل بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كان كاتب الوحي فكانت له أولية ليست لغيره)
ولقد بلغ سيدنا عثمان ما قاله عبد الله، فأرسل إليه يأمره بالقدوم عليه بالمدينة ولعله خشي أن يظل في العراق يلقن مصحفه الذي يدخل تحت إباحة (أنزل القرآن على سبعة أحرف. . .) فاجتمع الناس على عبد الله بالكوفة فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه فقال عبد الله: إنه على حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من يفتح باب الفتنة) وتوجه إلى المدينة واستغنى عما كان مفروضاً له من العطاء.
دخل عليه عثمان مرة يعوده في مرضه فقال له ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة. إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من قرأ الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً) فلما توفي رضي الله عنه سنة 32هـ دفع عثمان مجموع ما كان مفروضاً له وامتنع عنه إلى ورثته. وقال أبو الدرداء حينما بلغه موت عبد الله: ما ترك بعده مثله.
من مصحفه وبعض قراءته:
أجمع الأئمة على أن ترتيب الآيات توقيفي فقد كان بأمر الرسول جاء به جبريل من الله العزيز الحكيم أما ترتيب السور فالصحيح أنه ليس توقيفياً، ولهذا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبها فمصحف علي كان مرتباً حسب نزول السور يبدأ بالمكي ثم المدني وأكتفي بذكر ترتيب السور العشرة الأولى من كل مصحف، ولمن شاء المزيد أن يرجع إلى الإتقان وكتاب المصاحف.
المصحف المشهور مصحف أبي مصحف ابن مسعود مصحف علي
1 - أم الكتابأم الكتابالبقرةاقرأ
2 - البقرةالبقرة النساءن
3 - آل عمران النساء آل عمران المزمل
4 - النساءآل عمرانالأعراف المدثر
5 - المائدةالأنعام الأنعاماللهب
6 - الأنعامالأعرافالمائدةوالشمس
7 - الأعرافالمائدة يونسالأعلى
8 - الأنفاليونس براءةوالليل
9 - براءةالأنفال النحلوالفجر
10 - يونسبراءة هودوالضحى
وهذه مقارنة بين بعض ما روي من قراءة عبد الله والقراءات الصحيحة السند المشهورة:
القراءة الصحيحة السند ما روي من قراءة أبن مسعود
1 - اهدنا الصراط المستقيمأرشدنا الصراط المستقيم 2 - صراط الذين أنعمت عليهمصراط من أنعمت عليهم
3 - فأزلهما الشيطان عنهافوسوس لهما الشيطان عنها
4 - إن البقر تشابه عليناإن البقر متشابه علينا
5 - وإثمهما أكبر من نفعهماوإثمهما أكثر من نفعهما
6 - إنما وليكم الله ورسولهإنما مولاكم الله ورسوله
7 - والمتردية والنطيحةوالمتردية والمنطوحة
8 - لا يظلم مثقال ذرة لا يظلم مثقال نملة
9 - إن كانت إلا صيحة إن كانت إلا زقبة
10 - كالعهن المنفوش كالصوف المنفوش
تلاميذه وأثره
لعبد الله أثر في قراءة الكوفة سواء كانوا من السبعة أو من العشرة، أم من الأربعة عشر فقد تلقى عنه عاصم ابن ضمرة والحارث بن عبد الله وزر بن حبيش وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عمرو سعد الشيباني وعبيدة بن عمرو والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وزيد بن وهب وعلقمة بن قيس وعبيد ابن نضلة وأبو الأسود الدؤلي. وإلى هؤلاء - الذين انفرد بعضهم بالأخذ عنه، وبعضهم جمع إليه الأخذ عن غيره من الصحابة والتابعين - تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي من السبعة وخلف من العشرة والأعمش من الأربعة عشر هذا إلى جانب ما تلقوه من رواة آخرين عن صحابة مختلفين.
لكن هؤلاء الذين رووا لنا قراءة ابن مسعود وغيره اقتصروا على ما وافق الرسم العثماني وتركوا ما خالف ذلك تبعاً لأمر الخليفة واتباعاً لإجماع المسلمين فأصبح ما يروى مخالفاً للرسم العثماني من قراءته وقراءة غيره كأبي بن كعب وعلي وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وغيرهم يستدل به في التفسير ويستعان به في التشريع ولا يعول عليه في الصلاة والعبادات مع العلم أن هؤلاء السابقين وغيرهم وافقوا عثمان وأقروه ولزموا ما وافق رسم المصحف الإمام والواقع أن ما يروى عنهم مخالفاً له لا تتفق في ضبطه الروايات ما ذلك إلا لهجران الأئمة الثقاة تحمل روايته وتكلف حفظه والعناية بتحقيقه فأصبح سنده منقطعاً. وشرط صحة التعبد بالقرآن أن يكون صحيح السند إلى جانب ما اشترطوه من موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية ولو احتملا وموافقة العربية ولو بوجه من الوجوه، أما اختلاف القراءات السبع وغيرها من القراءات الصحيحة فيرجع السبب فيها إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف التي أمر بنسخها سيدنا عثمان كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، فلما أمر بحرق ما عدا تلك المصاحف وأن يسيروا على رسم واحد ثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً من الصحابة بشرط موافقة الرسم العثماني ولو احتملا وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن؛ فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين برسم وخط واحد.
عبد الستار أحمد فراج
المحرر بالمجمع اللغوي