مجلة الرسالة/العدد 823/أساليب التفكير
→ من خصائص الأدب المسرحي | مجلة الرسالة - العدد 823 أساليب التفكير [[مؤلف:|]] |
فزان بين يدي الأتراك والطليان ← |
بتاريخ: 11 - 04 - 1949 |
التفكير الفلسفي
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
الفلسفة والشعر
بل إن أطول الفلاسفة باعاً في ميدان التأمل ليس بمنجاة من شطحات الخيال، ونزوات الشعر، وضغط القصائد المكبوتة - تعصف ببنائهم الفلسفي بين حين وآخر حتى لتكاد من قوتها لدى البعض من تسلكهم في عداد الشعراء المتفلسفين، أو الفلاسفة الشاعرين. فذاك أفلاطون: برغم عبقريته الفلسفية، وتناسق مذهبه، وتكامل آرائه، تعصف به في رحلة الفكر أنواء الخيال، وتهب عليه في جفاف البحث العقلي نسمات شاعرية تتبدى في نظرية المثل وما يورد لها من تشبيهات، كقصة الكهف المشهورة التي ترى الحياة الدنيا أناساً يحيون في كهف مظلم، مقيدين حتى ليقضون العمر مولين ظهورهم لباب الكهف لا يستطيعون حراكاً، وموكب الحياة والأحياء ماض في سبيله أمام باب الكهف لا يرون منه غير أشباح وأخيلة ترسلها شمس قوية من خارج جدار الكهف. فهم لطول العهد بتلك الأشباح ولحرمانهم من معرفة الأصول التي تنبعث عنها يظنون لجهلهم ومحدود أفكارهم أنها الحقائق. كذلك شأننا في الحياة الدنيا، طال مقامنا فيها، وكبلتنا أغلال الحس وسلاسل البدن، فتوهمنا الكائنات المادية حقائق واقية، في حين أنها صور زائلة لحقائق باقية، مسوخ مشوهة لمثل كاملة؛ ثم يمضي أفلاطون الحالم بعالم كامل تتحقق فيه المثل العليا التي يطمح إليها، مثل الحق والخير والجمال، ليتمثل عالماً آخر غير عالمنا يجد فيه ملاذا من نقائص عالمنا، ثم يدعو الناس أن يحلموا معه في قول شاعري حلو يورده في محاورته (المأدبة):
(إن ما يعطي قيمة لهذه الحياة إنما هي مشاهدة الجمال السرمدي نقياً لا تشوبه شائبة، بسيطاً لا تغطيه أشكال وألوان مصيرها إلى الفناء. هذي مراحل الحب يقطعها في البحث عن ضالته، وشفاء لغليله، فهو واسطة ومساعد يحفز النفس إلى الكمال، ويبهج الذكرى القديمة: ذكرى المثل والحياة السماوية الأولى، ذكرى الفردوس المفقود تحن إليه جوارحها. فالحب الحقيقي الكامل هو الفيلسوف يزدري الجمال الزائل الذي يملأ النفس جنوناً ليتعلق بالجمال الدائم)
وبعد فذلك تأمل أفلاطون، فلسفة تمتزج بالوجدان: فيها تطلع إلى الجمال، فيها حنين إلى عوالم مبتغاة، فيها ذكريات وحب وأمل نبيل. ولا عجب فقد زاول أفلاطون الشعر في شبابه ثم صرفه عنه أستاذه سقراط.
وهذا برجسون في العصر الحديث يتميز أسلوبه بطابع رقة وروح فنية تتبدى في منهجه الفلسفي الذي يسلكه في الوصول إلى الحقيقة، مقابلاً به منهج الاستدلال العقلي الذي يشوه الواقع ولا يزودنا منه إلا بوجهة نظر سطحية تجريدية؛ ذلك هو منهج الحدس أو الذوق كما يحلو للبعض أن يسميه. ويعرفه برجسون بأنه نوع من التعاطف العقلي يتعمق المرء بواسطته كنه الأمور وجوهرها.
وابن سينا - الشيخ الرئيس - يصوغ نظريته في النفس وخلودها وسبق وجودها على الجسد في قصيدته العينية المشهورة التي يبين فيها كيف هبطت النفس إلى الجسد من عالم آخر على الرغم منها، وكيف سجنت في ذلك الجسد وكيف تسعى إلى التحرر منه، والعودة ثانية إلى العالم النائي، عالم الروح الخالد.
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تمنع وترفع
محجوبة عن كل مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت من الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
ذلك شعر وخيال، ومع ذلك فقد كان الشيخ الرئيس فيلسوفاً لأنه يأبى إلا أن يبرهن على روحانية النفس وجوهريتها وخلودها برهنة منطقية.
أما محي الدين بن عربي، زعيم التصوف المذهبي في الإسلام فيتصوغ جل مذهبه قصائد شعرية، زاخر بحر الوجدان مشبوب العاطفة، يعبر عن نظرية وحدة الوجود التي ترى الكون والله كائناً واحداً لا وجودين منفصلين، وترى كل موجود مظهراً من مظاهر الله أو مجلى يتجلى به الله لعباده حتى ليستوي في نظره كل موجود ويتحد كل دين، يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني
وبعد فلست أريد أن أقحم نفسي في الأدب فأتمثل بشعر أبي العلاء المعري أو رباعيات عمر الخيام أو أناشيد طاغور الصوفية لأبين بغض ما تنطوي عليه من فلسفة عميقة تكسب شعر هؤلاء رصانة وتزيده رونقاً وبهاء. إنما أريد أن أخلص إلى أن النشاط الفكري تيار معقد متشابك متعدد الاتجاهات، وهو مع ذلك تيار دائب الحركة مستديم الفوران. فالعقل منذ نشأته، يحاول معرفة الواقع كما هو. وإرجاع المعلول إلى علته أو كشف الستر عن غايته. فإن كان الإنسان طفلاً في بداوة الفكر وطراوة الذهن فالخيال مزود إياه بتفسيرات لا أساس لها من الصحة، والإيمان مثبت لتلك التفسيرات لا لشيء إلا لأنها تصادف هوى في نفسه، فلا يصبح - وقد آمن - في حاجة إلى البحث عن دليل أو برهان. وما الداعي إليهما وقد اطمأن قلبه إلى ما وصل إليه من تفسير. ألا ترى إلى المصري القديم مطمئناً كل الاطمئنان إلى خلوده؟ لا خلود روحه فحسب، بل خلود جسده أيضاً؟ واثقاً من البعث حيث يلقى جزاء ما كسب وحساب ما اكتسب؟ حيث يستمتع بما استمتع به في هذه الحياة من نعيم، بل حيث يرى العوض عما حرم منه فيها من سراء؟!
ما سر يقينه ذلك الذي لا يقبل الشك؟! رغبة في الخلود قابعة في كل نفس، وسعي خفي إلى اللذة الكبرى التي تقصر عنها حياة الأرض القصيرة الغاصة بالمتاعب والآلام. رغبة محتدمة، وهوى مستبد، وطموح متطلع إلى المجهول، تسخر جميعها المطية الذلول، الخيال، ليفسر الكون ويكشف عن سر الوجود. بيد أنه عندما تكثر المعارف الواقعية وتبدو الحقائق الخافية، ويكتشف الإنسان وهمه فضلاً عن جهله، لا يجد مناصاً من مواجهة الواقع، والسعي إلى رد المعلولات إلى العلل، ونسبة المسببات إلى السبب؛ تارة في تحرر نهائي من الأهواء وتنحية للخيال، وتارة في تحرر جزئي منها دون تملك تام لناصية الأمور. إن فعل المرء ذلك قيل أنه عالم أو فيلسوف: عالم إن اكتفى بتقرير الواقع وإرجاع الظواهر المحسة إلى أسبابها، وسعى إلى اكتشاف قوانين العالم الطبيعي دون غيره باستخدام منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المحض؛ وفيلسوف إن أوغل في التفسير متعدياً حدود العالم الطبيعي، متجاوزاً البحث في الجزئيات إلى البحث فيما هو أعم وأرحب، مستخدماً منهج البرهان المنطقي والاستدلال العقلي. أميز هنا بين الفلسفة والعلم برغم أن العصور القديمة بل والحديثة حتى مستهل القرن السابع عشر الميلادي لم تألف هذا التمييز فكانت جماع المعارف النظرية الحرة من الأسطورة تنضوي تحت كلمة فلسفة أو حكمة؛ ولم يميز العقل الإنساني ذلك التمييز الحاسم بين شطري النشاط الفكري المتكامل، إلا في مطلع القرن السابع عشر، أي في أعقاب عصر النهضة بما خلق من نهضة علمية تجريدية قامت على أنقاض الاتجاهات الفلسفية التقليدية.
عبد المنعم المليجي
المدرس بمدارس حلوان الثانوية