مجلة الرسالة/العدد 82/من الأدب الفرنسي المعاصر
→ فانك مصري | مجلة الرسالة - العدد 82 من الأدب الفرنسي المعاصر [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1935 |
أندريه جيد
بقلم علي كامل
كثيراً ما تقع أعيينا على صورة نقشها يراع رّسام بارع ليعبر بها عن فكرة من الأفكار فإذا هذه الصورة توافق هوى في نفوسنا لأول نظرة بحث نرى فيها خير ما يمكن التعبير به عن هذه الفكرة. كذلك قد نقرأ جملة قصيرة خطها قصصي أو ناقد يصف بها شخصاً من الأشخاص فإذا هذا الوصف بالنسبة لنا كأنه كان ضالة منشودة وصلنا أليها بعد طول عناء. . . كأن كلا منا كانت تتردد أمام عينه هذه الشخصية يريد وصفها وتحديدها ولكن عبثاُ، حتى جاءت الجملة التي قرأها فنزلت على قلبه وأعصابه المتلهفة القلقة برداً وسلاماً!
كان يجب أن يمر بنفسي هذا الخاطر وأنا أقرأ الدراسة القيمة التي كتبها في الشهر الماضي الناقد الفرنسي بنجامان كْرمُيو عن أندريه جيد. ذلك الكاتب الفذ الذي جاوز الخامسة والستين وهو مع ذلك لا يزال شاب القلب والنفس يتزعم مدرسة (التحرر الأخلاقي) في الأدب الفرنسي الحديث، ويعالج مشاكل الشباب النفسية وخصوصاً الجنسية والنزعات الطائشة المتغلبة التي تلازم الكثير منهم بصراحة جريئة وحرية لا حد لها حتى نفر الشيوخ من ذلك الكاتب الشيخ. واحتفظ الشباب بالولاء له وتمجيده والتهام أدبه
لم أكد أقرأ قول بنجامان كرميو: (لأن أول نظرة إلى أندريه جيد تبين لنا أنه مخلوق مضطرب قلق، معقد، يتركب من عدة شخصيات. ولكنه يمت إلى نوع نادر من البشر) ثم قوله. (وعندئذ لا نلبث أن نعرف أن فنه صورة منه). ولم أكد أقرأ ذلك حتى مرت أمام عيني كشريط سينمائي كل الصور التي رأيتها لأندريه جيد. وتذكرت عدداً من مجلة كان قد نشر - لمناسبة لا أذكرها الآن - بضع صور له في فترات حياته المختلفة: في الشباب والرجولة والكهولة. وتذكرت معه هاتين العينين الحائرتين، والوقفة المضطربة، والشارب المحلوق النادر بين الفرنسيين. الذي ينزل به من سن الستين إلى الثلاثين. فعرفت عندئذ مقدار ما في بنجامان كرميو من الصدق ودقة الملاحظة
نعم إن فن أندريه جيد وفلسفته هما قبل كل شيء صدى لمشكلة نفسه ومأساة حياته. فقد نشأ جيد في أسرة دينية متقشفة من أب بروتستنتي وأم كاثوليكية. وكان أثر بروتستانتية والده أعمق من أثر كاثوليكية والدته. وربى جيد تربية دينية خالصة، فكانت هذه التربية وتناقضها مع طبيعة جيد أولا ومع الظروف التي صادفت شبابه ثانياً سبباً قاسياً في أن تجعل من حياته مأساة إنسانية كبرى، وأن تجعل شخصيته فريسة لحرب شعراء بين جيد المتدين بولادته وأسرته وتربيته، وجيد المتحرر تحرراً كلياً من سيطرة الدين بعقله وإرادته
عندما بلغ جيد سن الشباب استيقظت نفسه على أشعار الجيل الأول من المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي تحت زعامة فرلين ورامبو وملارمي. وكان عهد ازدهار هذا الجيل قد آذن بالمغيب وخلفه الجيل الثاني الذي من أعضائه فرنسيس جيمز وبول كالوريل، وبول فور. فانضم إليهم أندريه جيد إذ وجد في الشعر الرمزي الحالم السابح في أجواء الخيال، المتحرر حتى من القيود الشعرية نفسها، سبيلاً إلى الانطلاق من عالمه الديني الضيق المخنوق. ولم يكن تأثر جيد بالشعراء الرمزيين قاصراً على فنهم فحسب، بل وجد في حياة الكثير منهم مثل فرلين ورامبو مثلاً أعلى لحياة الفنان الحر الطليق الذي يريد أن يصل إلى فهم الحياة الحق مهما كلفه ذلك من الثورة على كل تقليد، والخروج على كل عرف أخلاقي؛ على أن رمزيه أندريه جيد لم تبلغ في تحكم العاطفة بها ما بلغته رمزية الجيل الأول. فهو أقل حدة في العاطفة وجموحاً في الخيال. وهو أمر سخرية وأعمق تفكيراً واشد رغبة في إدراك حقيقة نفسه، وأعظم انطلاقا وتعلقاً بالحياة المرحة. وفي أول كتبه ' (دفاتر أندريه ولتر) (1891) تراه يعبر عن ذلك بقوله (يجب النظر إلى الحياة بعين شاملة وطبيعة طلقة مع الاحتفاظ بالنفس المتيقظة)
وفي ذلك الوقت أيضاً - وقت شباب جيد - غزت فرنسا أفكارُ الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والكاتب الأيرلندي (أوسكار وايلد) فتأثر بهما اندريه جيد تأثراً عظيماً. أخذ عن الأول فكرته عن (السبرمان)، وعن الثاني فكرته عن سيادة الفن وحق الفنان في أن يحيا على هامش العادات الأخلاقية المرعية، والاثنان - جيد ووايلد - يتفقان في إيمانهما بفكرة الجمال عند الأثينيين القدماء
ذلك تأثر جيد بفكرة الكاتب الفرنسي موريس باريس عن (عبادة النفس) وأخذ عنه سخريته العالية
وأخيراً يجيء دور الكاتب الروسي دستوفسكي فكما أن نيتشه وأوسكار وايلد كانا أعظم من أثر في جيد الشباب، كان دستوفسكي أعظم من أثر في جيد الرجل
من ذلك نرى أن جيد قد تأثر بكل الآراء المتطرفة المعاصرة له، أليس هو القائل: (إن كل ما هو متطرف يؤثر في؟) لقد تأثر بالشعراء الرمزيين الفرنسيين، وبأوسكار وايلد الايرلندي، ونيتشه الألماني، ودستوفسكي الروسي. لذا كان أدبه كلاسيكي النزعة على أن جيد على رغم كلاسيكيته بعيد كل البعد عن العبودية لمن تأثر بهم. فشخصيته القوية المستقلة تنبض بها أعماله كلها بشكل قوي مؤثر، وإن طبيعته الثائرة القلقة وجهده الصارخ في التحرير تجعلانه يجري وراء الثقافة الواسعة التي لا تعرف التمييز بين كاتب وآخر (فأنا - كما يقول - أنتظر دائماً شيئاً أجهله: أنتظر ضروباً جديدة من الفن وأفكاراً جديدة) ولقد بلغت به رغبته الحادة في المعرفة الشاملة إلى دراسة اللغات الأجنبية كي يقرأ أعمال من يعجب بهم بلغاتهم الأصلية
كانت أعمال جيد الأولى (دفاتر أندريه ولتر) (1891) و (1892) و ' (1893) عبارة عن اعترافات تتضمن نزعات جيد الفكرية التي أراد بها التحرر مرة واحدة من حياته الطاهرة المتقشفة. ففي أول أعماله يقول (الحياة الطلقة، تلك هي أسمى حياة، سوف لا أستبدل بها غيرها مطلقاً. لقد ذقت من هذه الحياة الطلقة ضروباً كثيرة. على أن الحياة الحقيقة كانت أقصرها)
وفي هذه الأعمال الثلاثة الأولى يلمح القارئ بين سطورها ميولاً جامحة خفية يحاول جيد أن يحجم عن التصريح بها
على أن هذه الحرية التي يبيحها جيد لنفسه دون قيد لا تلبث أن يطغى عليها أحياناً إحساسه الديني فيقول في نفس الكتاب: (إنني أتمنى وأنا الآن في الحادية والعشرين من عمري، وهي السن التي تنطلق فيها من عقالها الشهوات، أن اقمعها بالعمل المضني اللذيذ. إنني أود في الوقت الذي يجري فيه الآخرون وراء ملذاتهم أن أذوق اللذات الخشنة التي تلازم حياة الصومعة)
وفي (1897) نرى جيد يبلغ انطلاقه الكلي من حيث الدعوة إلى أن المعرفة لا تأتي عن طريق الفكر بل عن طريق الحس. من ذلك قوله: (إنك لا تستطيع أن تقدر المجهود الذي كان لزاماً علينا بذله لكي نحس إحساساً صادقاً بالحياة، والآن وقد تحقق ذلك فهو كالحال مع كل شيء آخر عن طريق الحس والشهوة) وكقوله أيضاً (لقد تسكعت هنا وهناك كي أستطيع أن ألمس كل من يتسكع - إن قلبي يفيض بالحنان والحنين إلى كل من لا يعرف أين مكان دفته. وأحب حباً مفرطاً كل من يهيم بالتجوال والتصعلك)
ثم انظر كيف لا يستطيع الفرار في هذا الكتاب أيضاً من إحساسه الديني حين يقول:
كنت أقرأ (عقيدة العلم) لفيخت فشعرت بأنني سأعود متديناً من جديد
وفي قصة ' (1902) نرى عبقرية جيد، وتأثره العميق بالفيلسوف نيتشه، قد تعاونا على إظهار فكرة (التحرر الأخلاقي) حيث نرى بطل القصة (ميشيل) - وهو رجل مريض - يتقدم نحو الشفاء كلما حرر نفسه من الأوضاع الأخلاقية
وفي (1909) و (1911) و (1919) نرى جيد - وخصوصاً في القصة الأولى - يعالج شخصيات تخالف تماماً في تفكيرها ونزعتها ما نراه من الأفكار والنزعات في الأعمال الأولى، لأن الأولى استسلام مطلق لنداء الحياة، والثانية استسلام مطلق لنداء العاطفة الدينية.
فبينما نرى (ميشيل) في قصة ' ذلك الثائر على نظام الأسرة، الهاجر لماله وزوجته، المتمرد على الراحة والأستقرار، الراغب في الرحيل إلى أبعد مكان، الواجد في الحرية الجسدية والانطلاق الحسي شفاءه العاجل. نرى أيضاً (أليسا) في قصة تلك الفتاة الوادعة المتقشفة التي تغمرها العاطفة الدينية حتى تدفعها إلى رفض الزواج من أبن عمها (جيروم) الذي تحبه لكي تقصر نفسها على الاستسلام لاحساساتها الدينية، وتقترب من الله الذي تسميه (الأحسن)
ولاشك أن القصي العبقري هو الذي يرسم لنا بين حين وآخر صوراً إنسانية متباينة تختلف كل الاختلاف عن شخصية راسمها الذي تسمو عبقريته كلما استطاع التجرد من كل مؤثر ذاتي. وهذا هو ما نراه في قصتي , للقصصي العظيم بلزاك، والقصتان تقتربان من حيث تناقض نفسية الشخصيات من قصتي جيد وعلى أن الفرق بين بلزاك وجيد - من هذه الناحية - أن بلزاك في قصتيه يرسم لنا شخصيات خارجة عن نفسه. أما جيد فكل شخصية من شخصيات قصصه عبارة عن فكرة متحركة من أفكاره. ففي قصتيه السابقتين تراه يختفي وراء شخصيتي (ميشيل) و (أليسا)، فشخصة (أليسا) هي صدى حياة جيد الطفل الذي نشا بين أعطاف الدين فطبع حياته كلها بطابع لم يجد جيد وهو رجل سبيلاً إلى التخلص منه؛ وشخصية (ميشيل) هي شخصية جيد الشاب المفكر الذي نظر حوله فوجد أن حياة الزهد الماضية قد حرمته كل متع الحياة فلم يجد وسيلة إلى التحرر من تراث ماضيه وتعويض ما فقده من العمر في أحضان الزهد والحرمان إلا بإنكار كل قاعدة أخلاقية واستغلال كل دقيقة للتمتع بكل لذة مستطاعة
وقد يلام أندريه جيد ويتهم فنه القصصي بالنقص لأنه اختفى وراء كل شخصياته ولم يرسم لنا صوراً إنسانية خارجة عن نفسه شأن القصصيين العباقرة. والواقع أن جيد ليس له من النبوغ القصصي نصيب عظيم، وإنما عبقريته الحق هي في تلك الدعوة الحارة إلى (سيادة الحياة) وفي ذلك البحث المتواصل قي سبيل فهم نفسه والنفس الإنسانية. وقي ذلك الاحتمال الباسل لهذا الكفاح العنيف داخل نفسه بين تربيته وبين تفكيره بين العاطفة الدينية وبين الإباحية الأخلاقية. ثم أخيراً في محاولته الجريئة للتوفيق بينهما كما سنرى. ذلك كله هو الذي يعطي فن أندريه جيد لوناً تجديدياً وضاء، ويعطي كتبه ذيوعاً قل أن نصادفه في كتب أعاظم الكتاب المعاصرين. أليس هذا الفن - كما يقول الناقد أندريه بير - هو خير تعبير عن اضطراب العصر الذي نعيش فيه؟ إن في كل صفحة من صفحاته تجد النفوس القلقة الجامحة مجالاً لا مثيل له لراحتها لنفسية، فهو يكتب ما يقول (حتى يجد كل مراهق يصبح فيما بعد مماثلاً لي وأنا في السادسة عشرة من عمري - ولكنه يكون اكثر مني حرية وشجاعة وأعظم كمالا - جواباً لسؤاله المرتجف) فما هو هذا الجواب؟ ذلك ما سوف نراه
(البقية في العدد القادم)
علي كامل