مجلة الرسالة/العدد 82/القصص
→ من الأدب الفرنسي المعاصر | مجلة الرسالة - العدد 82 القصص [[مؤلف:|]] |
من أقاصيص الجاهلية ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1935 |
ضحية الوهم
بقلم القصصي الإيطالي المعروف ماسيمو بونتمبلي
عهد إلي (رينيه كلامار) أن أقتل الوقت مع (ميني)، لأنه يريد أن يقضي أمراً يقصيه عنها نحو نصف الساعة. فأخذنا نسير في طريق اللوفر. وعلى حين غرة تركتني ميني مسرعة إلى الناحية الأخرى من الشارع لترى صندوقاً زجاجياً مستطيل الشكل وضع أمام حانوت لبيع أدوات صيد السمك.
وكانت الأسماك الذهبية تسبح في الماء الصافي الذي امتلأ به الإناء. وكأنها من شدة فرحها لا تعرف بحراً خضماً أعظم من هذا الصندوق الزجاجي
وقالت ميني بعد أن صفقت بيديها:
(يا إلهي، ما أجملها!)
ودنوت أنا منها. ووافقتها على ذلك، وفي صوتي نبرات الجد، قائلاً:
(نعم، إنها جديرة بأن تحوز إعجاب الناس.)
فنظرت إلي ميني نظرة ناقد وقالت:
(ما هذا التعبير: جديرة بأن تحوز إعجاب الناس؟ أنه لا يقال إلا لما يصنعه الإنسان بيده سواء أكان هذا صوراً أم شعراً كالذي يتكلم عنه أصدقاؤك. وكذلك يمكن أن يقال هذا عن الثياب. . . .)
ولكني قاطعتها بقوة من يريد الفصل في الموضوع: (لابد لي أن ألفت نظرت إلى أن رينيه كلامار وأنا وغيرنا - وهنا أخذت تنظر إلي كمن يتفرس في معرفة الأشياء - ذكروا أكثر من مرة أنك جديرة بأن تحوزي إعجاب الناس، ومع ذلك فأنت لست من صنع إنسان)
(وابتسمت ميني شاكرة، ولكنها أجابت في منطق معكوس: (ولكني على أي حال لست سمكة)
فتشبثت برأيي وقلت:
(على أني قلت إن هذه السمكات جديرة بأن تحوز إعجاب الناس، لأنها سمكات غير حقيقية، هي سمكات تقليدية.) فحدقت ميني فيّ أولاً، ثم في السمك ثانياً، ثم عادت تحدق في، ثم صفقت بيديها وقالت:
(أصحيح هذا؟)
وكانت ميني من أولئك الذين يعيشون وينمون ولا يتعدون دور الطفولة. ومثل هؤلاء يسهل إغراؤهم وقيادتهم، وليس عندهم من الأشياء ما لا يمكن تصديقه والإيمان به إذا ما قيل لهم ذلك. قالت ميني:
- ولكن كف تتحرك هذه الأسماك؟
فقلت لها: (إن الكهرباء مسلط عليها.)
فالتفتت بسرعة إلى الأسماك وانحنت على الصندوق تدقق النظر إليه. وكانت يداها المرتجفتان مثبتتين على موضع قلبها. وقالت
ولكن كيف تيسر لها كل ذلك؟ إنها تفتح فاها. والصغيرة هذه تتحاشى الكبيرة في سيرها نحو سطح الماء. وهناك في الركن الآخر اثنان يتقارضان القبل، كأنهما شقيقان. . . . أي. أي. . . وفي القاع السمكة الكبيرة وقد اهتزت المياه من فوقها كفرس البحر الذي رأيناه في حديقة الحيوان، وكان رينيه معنا)
- (نعم إنه لشيء عجاب. . . ولكن أناشدك الله ألا تمسي هذه المياه فان الكهرباء سارية فيها.)
فاسترجعت ميني إصبعها من فوق سطح الماء وقالت: (وهذه السمكة وجارتها ألم ينظرا إلي الآن بنظرات حادة؟)
وأبصرت صديقي وقلت:
(ها هو ذا رينيه.)
فقالت هي:
(أي رينيه، يجب أن تنظر إلى هذه الأسماك!)
وقلت مخاطباً رينيه:
إن ميني تعتقد أن هذه الأسماك حقيقية.)
وكان رينيه يعرف طبعي جيداً، ومعرفته بميني تكاد تكون نوعاً من اختصاصه. فاندفه يشاطرني هذري ولم تجد ميني طيلة ذلك اليوم شيئاً آخر تفكر فيه. ثم قالت فجأة:
- (وكيف تكون هذه؟ أصلبه هي أم لينة؟)
- (ماذا تعنين؟)
- (الأسماك الصناعية)
- (هي لينة كالحقيقية)
- (وماذا تصير لو أنها أُخرجت من الماء؟)
- تصير كالأسماك الحقيقية بالضبط، إذ تبغي استنشاق الهواء وترتجف بضع مرات ثم تجمد ولا تتحرك كأنها ميتة.)
- (ثم بعد ذلك؟)
- (ثم بعد ذلك. . . تنتن وتفسد)
- (وإذا ما دفعها إنسان إلى هر؟)
- (يلتهمها كأنها سمكة حقيقية)
وفي المساء التالي جلست وإياي في البهو تنتظر رينيه، فقد ذهب لشراء بعض لفافات من التبغ
- (ميني، ما دامت هذه الأشياء تشغل بلك فسأفصح لك عن سر عظيم. بعد أن اخترعت الأسماك الصغيرة، حاول العلماء خلق أحياء أخرى فاخترعوا العصافير مثلاً. عصافير صغيرة تحفظ الغناء)
- حقاً، إنني شاهدتها وهي من صنع (نورمبرج) من أعمال ألمانيا، ويجب أن تملأ الزنبرك إذا ما أردنا سماع غنائها. وبرغم أنها تحرك المنقار والرأس فأنها لا تطير، وهي صلبة كالمعادن.)
- كل ذلك صحيح يا ميني. ولكن العصافير الأولى كانت كالعصافير الحقيقية تماماً. كانت كالأسماك التي شاهدناه في طريق اللوفر. والآن أفضي إليك السر العظيم، ولقد أردت أن أدلي به إليك من قبل ولكن الفرصة لم تسنح لي. قلت لك خلق العلماء أحياء أخرى ثم. . . ولكن يجب أن تقسمي ألا تذكري ذلك لأحد)
- (حسن، أقسم على ذلك) - (ثم. . . ثم خلقوا آدميين)
- (يا إله السماء. . . .!)
- (خلقوا اثني عشر شخصاً: ست رجال وست نساء)
- (يا إلهي. . . وكيف كان هؤلاء؟)
- (هم كتلك الأسماك. هم مثلي ومثلك)
- (ولكن أين هم الآن؟)
- (هذا ما لا يعرفه أحد. وبهذا حفظ السر. فبعد أن خلقوا خرجوا من المعامل. وأخذ الناس يبحثون عنهم دون جدوى. ولا يعرف غير الله موضعهم)
- (ولكنهم تدثروا بالملابس؟)
- (طبعاً!)
- (ومتى كان ذلك؟)
- (منذ أكثر من سنة)
- (وأين ساروا؟)
- (هنا، هنا في باريس. وكانوا كاملين في كل شيء، ولا يمكن تمييزهم من الآدميين الحقيقيين. تصوري يا ميني أننا قد نكون تقابلنا مع أحدهم دون أن نعلم)
- (لا، لا. إنني أشعر بالشيب يدب في رأسي، لقد اعتزمت إلا أخرج من المنزل، ويجب على الناس أن يبحثوا عنهم. ولماذا لا يعثرون عليهم؟ وواجب هؤلاء أن يقولوا بأنهم ليسوا آدميين حقيقيين
- (ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن ذلك كله. إنهم يعتقدون أنهم من لحم ودم كبقية خلق الله)
واختل تفكير ميني، ولم أفلح أنا ورينيه في تشتيت تلك الأفكار الخبيثة عنها. وقد أقسمنا لها بكل عظيم (أننا لم نبغ إلا الهذر من كل تلك الأمور)
- (هذا تذكرانه لي الآن حتى أهدأ بعض الهدوء، ولكني أعرف وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن كل ما ذكر لي قد وقع، ومن يدري؟ ربما كان ذلك الرجل القادم. . . . . لا، لا. . . لنرجع ثانية إلى المنزل
وكانت كلما مرت برجل في طريقنا ظنته صناعياً. وفجأة تأوهت، وأحجمت عن السير.
ورأت في بيتها ملجأها الوحيد، ولتبق هي في غرفة منه نابية، أو في ركن منه مظلم. ولم تتزحزح هذه الأفكار عن مخيلتها، وقد تراكمت فكانت أثقل من جبل، وفي الليل كانت تنزعج وتصرخ في منامها. فكنت أنا ورينيه نوقظها. وكنا نقسم لها أغلظ الأيمان من جديد. غير أنها كانت تعتبر كلامنا غير أهل للإجابة عليه، وبدأ الشك والسوداء يستوليان عليها. وأخيراً قال لها رينيه:
- (ماذا يحزنك يا ميني؟)
- ماذا يحزنني. . .؟ لا يعرف أحد إذا كان الذي ينظر إلي أو الذي يكلمني هذا من لحم ودم. لا، لا، أولى لي أن أموت! ثم أدارت رأسها في حركة ميكانيكية وقال:
- (وأنتما لا تعرفان. . .)
ولم يكن في مقدرة أحد أن يغريها بترك باريس. ولماذا؟ قد يكونون متفرقين في بقية العالم
وكانت لا تود رؤية أحد حتى خادمتها الصغيرة لم تطق رؤيتها في المنزل. ثم لزمت الفراش لا تفارقه
وكنا أنا ورينيه نتناوب السهر عليها، ونقدم لها الطعام فلا تأكل منه إلا يسيراً. وكانت حياة ملؤها وخز الضمير. وعند ما كانت تغفو كنا نستدعي الأطباء سراً، ليشيروا بعلاج يرجع لها رشدها. ولكن تلك الفكرة التي لازمتها كانت توغل في الصميم، فتركزت أفكارها حول نقطة واحدة. . .
(ربما كان أحدهم من رأيته أو حادثته. . .)
وكانت حياة كلها نكد، يزيد في ظلماتها الذنب المشترك. وكنت أنا ورينيه نمضي الساعات دون أن ننبس بكلمة أو ينظر أحدنا إلى صاحبهُ
وفي ذات يوم تولانا الرعب من فكرة طارئة. ماذا يكون الحال يا ترى لو خيل إلى ميني أن أحدنا أو كلينا من أولئك الرجال المصنوعين، الذين يفزع منهم الشياطين لمجرد ذكرهم أو تخيلهم. ألم نكن نحن أول من قال لها عن هذا الاختراع السخيف؟.
ولكن هذه الفكرة لم تستول عليها، بل اكتسحت مخيلتها فكرة أشد خطراً وأبعد غوراً
كانت ليلة من ليالي الربيع. وقد غرقت ميني في النوم الهادئ ففرحنا. وفتحنا النافذة، وأطللت أنا ورينيه على الطريق نتسلى برؤية النجوم مرة وبإمعان النظر في الظلام المخيم على جوانب الشارع مرة، وتارة كانت تستلفت أنظارنا الأنوار الحمراء التي تضيء أسماء الحوانيت، وتارة أخرى تسترعي أبصارنا الإعلانات الوضاءة. . .
وعلى حين سمعنا صوتاً جهورياً مرتجفاً. ولما نظرنا خلفنا وجدنا ميني واقفة فوق سريرها باسطة ذراعيها، وتكاد تنخلع من الرعدة. فأسرعنا إليها ولكنها فزعت منا. وقذفت بنفسها من السرير فارتطمت بالمرآة. وحدقت أولاً في قميص نومها ثم في قبضة يدها. ثم دفعت وجهها ليلتصق بالمرآة. ونظرت إلى صورتها وحدقت فيها كأنما تريد اكتشاف كنه ما بها
- (أي نعم، إن الأمر لهو كذلك. إنني أراه جلياً واضحاً. نعم، إنني أنا هو. إنني لست من لحم ودم. كلا، كلا. إنني أنا ذلك الإنسان الصناعي وما كنت أدري ذلك من قبل)
فصاح كل منا:
- (ميني!)
- (لا إنني أفهم الآن كل شيء. إنني متأكدة إنكما لن تعرفا ذلك. . . ولكن ماذا، أنا فاعلة الآن؟ وماذا في وسعي أن أعمله؟ سامحني يا رينيه! الذنب ليس ذنبي)
حاولنا أن نمسك بذراعيها، وهي تحدق في الفضاء. . ولكنها رفعت يدها وأشارت نحو الباب وقالت:
- (ماذا هنالك؟)
- لاشيء، لا أحد يا ميني، هدئي روعك!
- ولكن هنالك. . . . .، هنالك، من هنالك. . .؟ انظروا انظروا من هو؟
وشع ضوء مخيف من عينها كسا وجهها ضياء جافاً، وانطلت علينا الحيلة، وذهبنا إلى الباب لنهدئ من حدتها. وما كدنا نصله حتى التفتنا إلى الخلف دون سبب، ولكن بعد أن فات الأوان، إذ وقفت ميني كعفريت من الجن على حافة النافذة. فلم نتمالك من الصراخ وهرعنا إليها. ولكنها كانت قد قذفت بنفسها إلى الشارع. ولم يبق منها إلا قطعة من قميص نومها معلقة في يد رينيه. وساد السكون ثواني حسبناها ساعات وإذا بجسدها يرتطم بالإسفلت فيقضي على أنفاسها وعلى هواجسها
عربها عن الألمانية: ا. ا. ي