مجلة الرسالة/العدد 82/من أقاصيص الجاهلية
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 82 من أقاصيص الجاهلية [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1935 |
حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
- (ما عهدتك تمضي ليلتك في السامر ياجساس، أكان حديث القوم عذباً فألقيت إليه السمع، أم كان لسانك ذرباً فدفعت عن بكر؟).
- (نعم يا خالتاه. لقد دفعت عن بكر بلسان صدق في السامرين، ودفعت هذه القرية التي يسددها كليب لنا في كل مجمع وناد، ولم أنس يا خالتي أن أدفع عنك مقالة السوء التي نالك بها كليب، فقلت للقوم: إنكم تعلمون موضع البسوس من أهلها وتعلمون موضع أهلها من العرب. ومن كانت في هذا الشرف من القوم فما أبعدها عن السعاية والوقيعة. وما نقموا من البسوس يا قوم إلا ما اشتهرت به حماية الجار، وحفظ الذمار؛ وهي بعد ليست ثرة ولا نمة. واندفعت يا خالتاه أقرع حجج كليب حجة بعد حجة: وأورد فرياته فرية بعد فرية، فإذا القوم على كليب ساخطون، وعلى بكر وبني شيبان عاطفون.)
هشت البسوس بنت المنقذ لمقالة جساس ابن أختها، وضمته إلى صدرها وقبلته في مفرقه. واستوت تقص عليه ما سمعت من نساء الحي. ولم يكن للحي من حديث في سامرهم وناديهم ومجمعهم إلا ما بين بكر وتغلب من إحن وحفائظ أخذت البسوس على نفسها عهداً بإذاعتها في القوم وإفشائها في غير قصد ولا أناة. قالت: (هذا كليب بن ربيعة التغلبي قد أخذته العزة بالإثم وبغى على قومه لما دانوا به من الطاعة له والانقياد لسلطانه، حتى بلغ من بغية أن يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تحفز ذمته، ويحمي الوحش في مسارحه فلا يهاج، ولا تورد إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. ولقد أخذت الناس رعدة من قوته وسلطانه. وضربوا الأمثال بعزته وطغيانه، وما مبعث هذا البغي وهذا الطغيان إلا النصر الذي أحرزه يوم خَزَازَى حين قاد معداً ففض جموع اليمن. وما النصر يحرزه القائد إلا الفضل الذي أفاضه عليه الجنود، بالتفافهم حول لوائه واندفاعهم على العدو. فما كان القائد ليحرز نصراً لو تخلى عنه الجنود. ولكن قد يحرز الجند نصراً وقد ولى عنهم القائد. على أنه يا ابن أخت، لو كان فيه ذمامة من حياء، أو بقية من وفاء، لما تعاظم على قوم رفعه، ولا تكاثر على شعب رفده. ولو كان ممن يرعو العهد ويحفظون الذمار لرعى عهد النسب وحرمة القربى، ولرعي الصلة الوشيجة، والخاصة الوليجة. أليست زوجه جليلة وهي أختك؟ إن أعجب يا جساس فما أعجب إلا لصبر هذه اللكاع عليه، وسكوتها على بغيه، وهي زوجه أولى الناس بتقويمه إذا اعوج، وتليينه إذا صلب، وسياسته إذا شط؛ وهي أولى الناس بالمدافعة عن أخيها وعن خالتها، وما ادخر كليب وسعاً في النيل من أخيها ومن خالتها. لا أبغي يا جساس من قولي أن أنغل بينك وبين أختك ولا بينك وبين كليب. كلا. ولا أن أبذر شقاقاً بين جليلة وزوجها، ولكني أرى من كليب بغياً واستهانة، وأرى منك ضعفاً واستكانة، وأرى من جليلة صمتاً للمذلة وصبراً على الهوان. وكأني بك تقرها على صمتها وترضي عن صبرها. وأنت لا تقل عن كليب في طول النجاد، ورفعة العماد، على يفاعك وحدث سنك.)
قام جساس وقد استحصد، وغلى الدم في رأسه وركبه الشيطان، وأقسم ليقصمن ظهر كليب، ولينصرن عشيرته، ولينضحن عن بني شيبان. ثم احتواه الليل فبات يرعى النجوم، ويستعرض الهموم، حتى انبلج الصبح فإذا هو يسعى إلى البسوس يقص عليها ما جاش به صدره، وما استقر عليه عزمه. قال: (يا خالتاه. لقد قدحت الذهن حتى استعر، وعببت الرأي حتى اختمر، وشاورت النفس فطاب لها الحمام، وغمزت العزم فألفيته شديد العُرام، وأنا اليوم علي أن ألتمس كليباً في غرة فأنتقم لبكر وبني شيبان، وأرفع عنهم المذلة والهوان.)
قالت: (وهل شاورت الحي فيما اعتزمت؟)
قال: (الرأي الخطير كالجمرة المستعرة كلما تادولتها الأيدي فترت حرتها وانطفأت جذوتها. وما يركن ذوو الرأي إلى المشورة إلا حين تعجز هممهم عن النفاذ، وتقعد عن النجاز، فيلتمسون لدى الناس رأياً يتخذونه لقعودهم سبباً، ولعجزهم تعلّة، وأنا إن أصحرت بالتدبير فما آمن أن ينتهي إلى كليب فيعتصم ويتقي.)
وكانت البسوس قد استودعت سراً. . .
وكان ما أفضى به جساس إلى البسوس حديث القوم في سامرهم وناديهم تتناقله يشكر وشيبان، وذهل وقيس، ووائل وبكر، وغير أولئك من القبائل والبطون والأفخاذ
وفي ضحوة من النهار اجتمع عند البسوس: همام بن مرة أخو جسّاس، والفِنْد الزماني سيد بكر وفارسها وشاعرها، وبسطام بن قيس فارس بني شيبان، وأبو فَيْد عمرو بن الحرث السدوسي، والحرث بن عباد فارس النعامة وفارس ربيعة وشاعرها. وجلس جساس مطرقاً ينكت الأرض يعود في يده والقوم ينظرون إليه وينظر إليهم في حيرة ووجوم
قال بسطام: (ما بالك يا جساس تحبس النفس على الأذى، وأنت فينا تنظر يمنة فلا تجد إلا فارساً مغواراً، أو أسداً كراراً، وتنظر يسرة فلا تجد إلا بصيراً في الرأي، أو نصيراً في الشدة؟)
قال جساس: (أعلم ذلك. وأعلم أنه لا يدفع الهون ولا يرد البلاء إلا سفك الدماء) قال همام بن مرة. (إنه كذلك. .)
قال أبو فيد: (أما الهون فقد لحق بكراً حتى أذلها، وأما البلاء فقد وقع ماله من دافع. وأما الصبر عليه فأمر يرجع إليكم ويعود عليكم، ولست أدري إن كنتم لكليب وتغلب أكفاء في القتال، ولكني أعلم أنكم لا تقلون عنهم في الشرف، ولستم دونهم في المنزلة، فان كنتم على هذا تصبرون، فقد رضيتم من العيش بالدون، وإن أحمسكم الذل وقام رجالكم للحرب يؤرجون فإني بريء مما تفعلون)
فنهض الحرث بن عباد، والفند الزماني مغضبين وقد هم أحدهما بأبي فيد يعصر عنقه وقالا أو قال أحدهما: (ثكلتك أمك يا رسول الوقيعة، تحمس الرجل وتستثيره، وتنغل بينه وبين القوم ثم تقول إني بريء مما تفعلون؟ لشد ما أمعنت في الوقيعة والسعاية، ولعمري ما مؤرج الحرب إن قامت إلا أنت. قم لادر ضرعك)
وفر ابو فيد لا يلوي على شيء
(وأنت يا جساس أصلح من شأنك، وهون عليك بأسك، واستشعر الحكمة، واستلهم الصواب، ولا تبرم الرأي إلا بعد التدبير، ولا تعقد العزم إلا بعد التفكير؛ ولك من رعاية الله خير معين ونصير)
وانفض مجلس القوم، ودخل جساس إلى فناء البسوس واجماً مطرقاً
قالت البسوس: (هون عليك فالخطب أيسر مما ترى، ولعل الخير في الأناة، قم فلقد رثأت لك لبناً يفثأ غضبك)
قال: (ما بي حاجة إلى الشراب) قالت: (هو لبن احتلبته من سراب ناقة سعد وقد استودعنيها وأحل لي حلبتها.) قال: (لا)، ومضت البسوس إلى شانها، ولبث جساس مطرقاً
وما هي إلا فينة حتى عادت سراب تشخب دماً. واستبانت البسوس ما بها فإذا كليب قد اشتد عليها بسهم فخرم ضرعها؛ فنفرت وهي ترغو وعادت إلى حظيرتها. وما نقم كليب منها إلا أنها تبعت آيلاً له ودخلت وترعى في حماه
صاحب البسوس: وأذلاه! واجاراه!
وقام جساس يتبين الخبر، فلما وقف على ما كان قال: (اسكتي يا خالة فلأقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك)
واعتقل رمحه وخرج إلى الفلاة يتوقع غرة كليب. وتبعه عمرو ابن الحرث بن ذهل على فرسه ومعه رمحه حتى لقيا كليباً في حماه فقال له جساس (يا ابن الماجدة عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها)
قال كليب (أتراك ما نعي أن أذب عن حماي؟) ولم يجبه جساس إلا بطنعة قصم بها صلبه، وثنى عمرو بطعنة من خلفه قطعت بطنه. ووقع كليب وهو يفحص برجله وقال لجساس (أغثني بشربة ماء) قال (تجاوزت شبيثاً والاحصْ)
قال الراوي: وكانت الحرب بين بكر وتغلب، وسميت حرب البسوس، وقيل في ناقتها (أشأم من سراب) ولبثت الحرب أربعين عاماً. وسأقص عليك من أنبائها عجبا
أخرجها: اليوزباشي أحمد الطاهر