مجلة الرسالة/العدد 816/عدل السماء
→ السري الرفاء | مجلة الرسالة - العدد 816 عدل السماء [[مؤلف:|]] |
حين تعبث الأقدار ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1949 |
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
(ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلاً يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حماقتك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)
لقد نزلت - يا رفيقي - قربتك فأحسست بالوحدة وأنت بين أهلك واستشعرت الغربة وأنت في دارك، وعشت فيها أياما ًفما رف إليك قريب من ذوي قرابتك، ولا هفا نحوك واحد من أخوتك. وكيف يفعلون وهم قد لمسوا منك الجفوة والامتهان والشح، فما تلبثت نفسك أن ضاقت بالحياة وحيداً في هذه القرية، فثارت خواطرك ثورة عنيفة جَياشَّة فبعت دارك لأنك لم تجد فيها الراحة ولا المأوى، بعتها - وهي كل ما تملك في القرية - فعفت على آخر أثر لك هناك، مثلما مسحت على آخر خفقة من خفقات العطف والحنان حين اشتريت هذه الدار وأفزعت عنها أهلها، اخوتك أنت. . . ثم خرجت - وحدك - من الدار ومن القرية جميعاً. انطوت الأيام فما عدت سوى ذكرى في القلوب، أو تاريخ على الألسن كان حديث القوم حيناً.
يا لعدل السماء! لقد خرجت اليوم قسراً من الدار التي طردت منها بالأمس اخوتك في غير شفقة ولا رحمة. وأرسل اخوتك الأطهار نظراتهم في إثرك وأنت تتواري خلف الافق، وتعلقت بك أبصارهم، وخففت في أسى ولوعة حين أيقنوا أنك أصبحت غريباً عنهم، وترقرقت العبرات في عيونهم لأنهم وجدوا لذع فقدك، فقلوبهم ما تزال غضه نقية لم تشوهها المدنية ولا حجرتها المادة، وأزعجتهم أن تخرج من القرية - وحدك - كآسف البال مضطرب النفس يرمضك الأسى ويمضك الهم. ولكن واحداً منهم لم يستطع أن ينطلق وراءك ليردك إلى أهلك خشية أن تلقاه في غلظة أو تحدثه في قسوة.
آه يا رفيقي، لو وجدت الرحمة إلى قلبك سبيلاً!
وعدت إلى المدينة، إلى عملك الحكومي، وما في يديك سوى ما قبضته ثمناً لدارك وسوى ما فدحك من بث وشجن حين فقدت الأخ والصديق والقريب، وحين لفظتك القرية التي ولدت فيها وترعرعت بين ربوعها. . . لفظتك وقلبك يهفو نحو ملاعب الطفولة وأحب الصبا ومسارح الشباب.
لشد ما غاظك - وأنت في القرية - أن يتغافل عنك أهلك وأن يتجاهلوا وجودك وأن ينبذوك جانباً، على حين قد جئت إليهم تريد أن تخطب الود، وتكفر عن الخطيئة وتصل ما انقطع. ماذا - يا ترى - طمس على قلوبهم فما نبضت بحب ولا خفقت بعاطفة، وأنت ابن أبيك، وأبوك كان في الذروة خلقاً وجاهاً، وهو قد عاش بينهم عمره الطويل في العزة والمنعة والشرف يوقره الكبير ويحترمه الصغير؟ ماذا يا ترى؟
وتراءى لك أن أهلك قد جفوك لفقرك، وعافوك لمرضك، فعقدت العزم على أمر، وأنت ما تزال شاباً فيك مسكَ من قوة وبقية من نشاط.
وخلصت إلى عملك الحكومي وتقضي فيه صدر النهار، وإلى عمل في شركة تجارية تقضي فيها صدرالليل، وأنت بين هذا وذاك تعين محاسباً - زميلاً لك - على عمله لقاء أجر معلوم. واغتمرت في عمل مستمر متواصل يستغرق وسعك ويستنفذ طاقتك، وأنت في شغل لا تجد مس الضنا ولا تحس شدة الرهق، فقلبك راض مطمئن، تأخذ نشوة المال حين تجمعه وتحصيه ثم تدخره عسى أن تبلغ الغنى أو ترقى إلى الثراء فتكون بين أهلك وذوي قرابتك رجلاً.
وضننت بهذا الجهد - وهو ضخم - أن تبعثره نوازع الحياة أو أن يمزه بهرج المدينة، فعاودك داء البخل والكزازة فتلمست مسكناً في حجرة ضيقة من منزل حقير بأجر زهيد تقضي فيها ساعات نومك، تقبل عليها في هدأة الليل وتفرغ عنها في بكرة النهار.
هذا المكان قذر وضيع تتراكم في نواحيه الأوحال والأوساخ وتفوح منه رائحة نتنة ذفرة، ولكنه لا يوحي إلى نفسك الغضاضة ولا يبعث في قلبك التقزز. وماذا يضيرك وأنت تتوارى في هذا الوكر عن الأبصار والقلوب؟ ثم لجَّ بك البخل وضربك الشح فأصبحت لا تبالي أن تبدو أمام الناس في أسمال خَلِقة تزدرديها النفس وتقتحمها العين، ثم ضيقت على نفسك لا تحبوها إلا بالتافه من الطعام، ولا ترفه عنها ما تعاني من كلال ونصب ولا تخفف عنها ما تقاسي من عناء وسأم.
وتعاورك الإرهاق وسوء التغذية وانحطاط المسكن، ولكنك ادخرت مالاً.
وعجبت أن ترى زملاءك في الديوان يتلقفون (الترقية) و (الدرجة) و (العلاوة) وأنت تنظر وتنتظر فلا تنال شيئاً , لماذا؟ وأنت لا تهمل ولا تتكاسل، تنطوي على عملك في دأب ونشاط وتنزل عند رأي (المدير) في غير تردد ولا نقاش تبتغي أن تنال عنده الحظوة، وأن تبلغ منه الرضا، ولكنك ما تبرح في مكانك منبوذاً في ناحية.
أما هؤلاء الذين يظفرون بالترقية والدرجة والعلاوة فما منهم من يؤمن بالعمل، ولا من يرعى حق الوظيفة، ولا من يعني بالواجب، فهذه أكداس من الورق تتراكم أمامهم فلا يعيرونها التفاته ولا يأبهون لما بها، ولكنهم يجنون رضا الحكومة، ويستمتعون برحيق الوظيفة، وأنت تنظر وتنتظر في غير رجاء ولا أمل، فليت شعري لماذا؟
وخُيِّل إليك أن السر هناك في حجرة المدير فذهبت تكشف عن خبيئة الأمر فما أعجزتك الحيلة ولا ضاقت بك الوسيلة وأنت ذو ثقافة وعقل.
ورأيت الموظف يتملق (سعادة المدير) بأساليب أيسرها الإطراء والمدح، ويقترب إليه بوسائل أكرمها التذلل والتعبد والمدير يتقبل هذا وذاك في رضا وسرور. . هذا سبيل وعز عليك أن تسلكه فما في طبيعتك أن تفعل. ولكنك برمت بما ترى حواليك وحار عقلك، وآنذاك أن ترى مَنْ هم دونك يتسلقون السلم في سرعة وسهولة، وأردت أن تتذوق بعض ما يسعدون به.
وسطعت في خيالك خاطرة انجابت لها كل الخواطر السود في رأسك، وهدأت لها أعصابك الثائرة، فأنت قد عقدت العزم على أن تصل حبلك بحبل (سعادة المدير) فتتزوج من ابنته.
وزَين لك خيالك الأمر، فغداً - حين تتزوج من ابنة المدير - تصبح أنت صاحب الرأي في المكتب، وصاحب السلطان في الديوان، وصاحب الكلمة في المصلحة. واستبدت بك الفكرة فبعثت فيك النشوة واللذة. . .
وذهبت إلى (سعادة المدير) تخطب إليه أبنته فربتَ على كتفك وأجلسك إلى جانبه وحباك بعطفه وانفتح لك باب حجرته وباب داره في وقت معاً، وانحنى لك ساعيه وبوابه وهابك مرءوسيه وأعوانه، واحتفل بك أهله وأقاربه، ثم طلب إليك المهر فما تعوقت وما تعوق هو الآخر، فجاءتك الترقية والعلاوة والدرجة جميعاً، وابتسم (سعادة المدير) وابتسمت أنت أيضاً ولكن الأيام. . .
فيا ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن؟
وتمت المراسيم الأولى للزواج، وجاء جهاز العروس بين فرح الأهل وبهجة الأقارب، وانتهى كل شيء فلم تبق سوى أيام ثم تزف إليك عروسك السعيدة. وأردت أن تلقي بنفسك في غمرات العمل الشاق لتدخر مالاً تنفقه عن سعة في شهر العسل، ولكنك أحسست بقوتك تتقوض وبصحتك تنهار، فانطلقت تطب لمرضك فأرسلك الطبيب إلى مصحة حلوان.
وأنت الآن - يا رفيقي - هناك في مصحة حلوان لا تجد الصديق لأنك خاصمته منذ زمان ولا تجد المال لأن المدير قد استنزف كل مالك مهراً لابنته ثم طار عنك، وتزوجت أبنته من مال دفعته أنت مهراً لها.
أنت هناك - يا رفيقي - تنتظر النهاية وحبداً لأن أباك استنزل سخط السماء على ابنه العاق. فيا ليت شعري. . يا ليت!
كامل محمود حبيب