مجلة الرسالة/العدد 816/السري الرفاء
→ الجديد في المشكلة الألمانية | مجلة الرسالة - العدد 816 السري الرفاء [[مؤلف:|]] |
عدل السماء ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1949 |
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
- 2 -
تحدثت في المقال السابق عن الشاعر الكندي الموصلي السري الرفاء، وذكرت ما كان بينه وبين الأديبين الأخوين المعروفين بالخالدين من عداوة، وأنه أولع باتهامها بسرقة الأشعار وضَّمن كثيراً من شعره هذه التهمة. واليوم أعود إلى حديث هذا الشاعر، فأبين عن جانب من الوصف في شعره كيف سلك فيه وافتن نواحيه.
هو شاعر مولع بوصف ما يرى من الحيوان ومناظر الطبيعة وآثار الصناعة. ومما راقني في شعره، وصفه خطّافاً عشش في حجرته، وتكريره هذا الوصف في شعره ودعوته أصدقائه لرؤيته وعدد من محاسن داره. وفي الشعر العربي الجاهلي وصف الحيوان الوحشي والمستأنس، وصف صورة الحسية، ومعيشته وعاداته، والإعراب عن صحبة الإنسان لبعض الحيوان وعطفه عليه ومشاركته إياه البأساء والضراء، ولاسيما الجمل والفرس. ولست أعرف أدباً آخر فيه الاهتمام ومخالطته ومعاشرته إلى حده الذي بلغه الشعر العربي. والذي يذكر ما نظمه العرب في الإبل والخيل، وحمر الوحش والنعام والذئب والضبع والأسد وحيوان الصيد من الكلاب والفهود والبزاة. ويذكر مثل قول المثقب العبدي في ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بلبل ... تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضينى ... أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقي على وما يقيني
فأبقى باطلي والجد منها ... كدكان الدرابنة المطين
وقول القائل:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقيار اسم جمل الشاعر.
وقو آخر:
شكى إليَّ جملي طول السري ... صبراً جميلاً فكلانا مبت وقول آخر:
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى ... وإني وإياها لمختلفان
وقول القائل:
حيتك عزة بعد الهجر وانصرفت ... فحيِّ ويحك من حياك يا جمل
وقول أبي الطيب:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وألوانها فالحسن عنك مغيب
من يذكر هذا وأمثاله يعرف مقدار ما عني شعراء العرب بوصف الحيوان بل بصحبته ومعاشرته.
الشعر العربي حافل بهذا الضرب من الحديث عن الحيوان.
وهو يدل على العطف عليه والإكبار من شأنه.
وقد حدثني أستاذ إنجليزي كبير من الأطباء البيطريين عن إعجابه بتكريم العرب والمسلمين للحيوان، ورفعتهم شأنه، ومعاملته ذي الروح، والرفق به على حين كان لغير المسلمين مع الحيوان شأن آخر، وقد كتب هذا الأستاذ في هذا المعني رسالة.
هذا موضوع واسع لا تسعه إلا المؤلفات الكبيرة، ولكني عرضت له هنا لأذكر كلف هذا الشاعر العربي الموصلي بوصف الحيوان والعطف عليه والعناية بأمره سنة شعراء العرب، ثم فرحه بطائر عشش عنده وجاوره وصاحبه.
زوجان من الخطاف اتخذا في قبة حجرته عشاً فلم يرعهما، بل أنس بهما، وسعد بصحبتهما، وذكرهما في شعره مرات،. وجعلهما من محاسن حجرته، ومما يرغب أصدقائه في زيارتهما.
انظر قوله في أرجوزة يستدعي صديقاً له:
لنا مغن حسن الغناء ... وقهوةٌ ضاحكة الإباء
وغرفة فسيحة البناء ... طائرة القمة في الهواء
يوطن في قبتها العلياء ... زور خفيف الروح والأعضاء
محلق في كبد السماء ... وتارة يلصق بالغبراء في يلمق مشهَّر الأثناء ... كأنما طُوَّق بالدماء
يُطلب أو يُخلب قلب الرائي ... بين غناء منه أو بناء
يذكر لصديقه أن زائراً خفيف الروح ضئيل الأعضاء يسكن في قبته، وأنه يصعد ويصوب، فتارة يبلغ كبد السماء، وتارة يلامس الأرض، وهو ثوباً ثناياه بيض، وله طوق أحمر، كأنه طُوق بالدماء، فمن مغنياً أو يبصر بانياً عشه، يطرب أو يغلب على قلبه جمال هذا المغني الصغير والبناء الماهر فيخلبه.
ويقول في قصيدته يستزير بها صديقاً آخر ويُحسِّن له الزيارة بأن له غرفة عشش فيها الخطاف وأنس بها واطمأن إليها:
وقد كتبت أيدي الربيع صحائفاً ... كأن سطور البرق حسناً سطورها
فمن روضة سارِ إلينا نسميها ... ومن مُزنة مرخي علينا ستورها
وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة في كل عام تزورها
بمبيضة الأحشاء سود شطورها ... مزنرة الأذناب حمر نحورها
مرفرفة حول البيوت وفودها ... محلقة حول السقوف وكورها
لهن لغات معجبات كأنها ... صرير نعال السبت عال صريرها
(كأن صوتها صرير هذه النعال المصنوعة من جلد مدبوغ جيد)
تجاورنا حتى تشب صغارها ... فيحلق فينا بالكبير صغيرُها
فزرنا تر اللذات بيضاً وجوهها ... محببة روجاتها وبكورها
أليس هذا وصف شاعر محب لهذا الطائر معجب به يرغب أصدقائه في زيارته بوصفه. ولولا رفقة به ورعايته له، ما عشش وفرخ في سقف حجرته وبقي حتى شبت صغاره فطارت مع كباره ويقول في قصيدة أخرى يدعو صديقاً له ويذكر ما عنده من المرائي الجميلة، وآلات اللهو، والفتية الأدباء، وهذا الطائر الصديق المستجير بغرفته، المحترم بجواره:
وغرفتنا بين السحائب تلتقي ... لهن عليها كلة ورواق
تقسِّم زوار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق
أعاجم تلتذ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهن طلاق أنسن بنا أنس الإماء تحببت ... وشيمتها غدر بنا وإباق
مواصلة والورود في شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق
فزر فتية برد الشباب عليهم ... حميم إذا فارقتهم وغساق
فهذه غرفة يضرب السحاب عليها رواقة، تقسمها جماعة الخطاف، وهي في ألوان أهل الهند، فهو يسميها زوار من الهند وهو يسمع أصواتها عجما لا تبين، وهي تتصايح وتتطاير وتختلف أحياناً فتتشاجر كأنها كواعب من الزنج في خصام.
وقد أنس هؤلاء الزوار بهذه الغرفة، كالإماء المتوددات، ولكنهن لا يقمن على حال فهن يهجرن الغرفة ولا يرعين الصحبة والجوار، وإنما تقيم إبان الربيع والورد في شجره. فإن فارق الورد فارقت فما ودها إلا كهذه الزهرة، سريعة الذبول قصيرة اللبث.
هكذا يفتن شاعرنا في وصف جارته وإعجابه بها، وذكر ألوانها وأصواتها , ومرحها وخصامها، وهذا لاشك ضرب من الشعر الطبيعي الإنساني، يؤلف بين الإنسان وبين ما يحيط به من حيوان وجمال، وهو في أدبنا كثير، ولكنه في حاجة إلى المتنوية والجمع والترتيب.
والسري يعد شاعر وصاف يفتن في الوصف، ويتناول بها الطبيعة: سمائها ونجومها وسحبها، والأرض: أنهارها وغدرانها ورياضها وحدائقها، والصناعات البشرية من القصور والتماثيل والسفن وغيرها. ولا يتسع المجال للإتيان بأمثلة في هذه الموضوعات فأكتفي بمثالين:
قال يصف السفن:
كل زنجية كأن سواد الليل ... أهدي لا سواد الأهاب
تسحب الذيل في المسير فتختا - ل وطوراً تمرمر السحاب
وتشق العباب كالحية السوداء ... أبقت في الرمل أثر انسياب
وإذا قدمت رءوس المطايا ... للسري قدمت من الأذناب
وقال يصف الجراد:
وجحفل من جنود الله منتشر ... مثل الخناصر منقوش الحيازيم
يحل بسطة إقليم فإنه عصفت ... به الصبا صيرته جو إقليم ما شنّ وهو ضعيف البطن غارته ... إلا استباح حمي الشم اللهاميم
يلقي على الحب في أعلى منابته ... كلا كلا نقشت نقش الخواتيم
إذا استغل أعاد الأرض معدمة ... واستودع الترب نسلا غير معدوم
تلك نبذة عن السري الرفاء، ولعله يجد من عنابية الأدباء ما يؤدي حقه من نشر شعره والإشادة بذكره. . .
عبد الوهاب عزام