الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 816/حين تعبث الأقدار

مجلة الرسالة/العدد 816/حين تعبث الأقدار

بتاريخ: 21 - 02 - 1949


للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

ليست هذه القصة خيالية، وإنما حادث حقيقي؛ وقف كاتب هذه السطور على تفصيلاته من أشخاصه أنفسهم وباشر أخيراً بنفسه بعض إجراءات فضائية ترتبت عليه.

بدأت وقائع هذا الحادث منذ خمس عشرة سنة. وفي الشهر الماضي سدل الستار علىالفصل السبابقأسدل الستار على الفصل السابق للأخير منه. أما نهايته فهي سر المستقبل.

منذ خمسة عشر عاماً خطفت امرأة طفلة صغيرة تبلغ من العمر خمس سنوات من أسرة غنية تقطن بلدة من أعمال مديرية أسيوط. وكان اختطاف البنت بتحريض أحد خصوم والدها وتدبيره - على ما يقول - لضغينة بينهما. ولم تُسفر في ذلك الحين أبحاث البوليس ولا تحقيقات النيابة عن نتيجة، ولم تثبت التهمة على شخص معين وقُيدت القضية (ضد مجهول) و (حفظت لعدم معرفة الفاعل) وانتهى الأمر عند هذا الحد من الناحية القضائية، وظلت الطفلة مفقودة، ولم يهتد إليها أحد على رغم جهود والدها المتواصلة في البحث عنها، وقد أرسل في هذا السبيل أقاربه ومعارفه إلى أطراف المديرية، ثم إلى مختلف أنحاء البلاد، وأنفق جانباً من ثروته بلا جدوى. وكم نصب عليه الكثيرون من الدجالين: من محضري الأرواح ومحترفي التنويم المغناطيسي والمنجمين وقارئي الكف وغيرهم. وقد وفد إلى القاهرة لمقابلة بعضهم مخدوعاً بإعلاناتهم ومحاضراتهم الماكرة التي يُغرون بها السذج. وكان كل واحد منهم يرسله إلى ناحية نائية من البلاد يزعم أن ابنته نقلت إليها حتى يُبعده عنه بعد أن يستولي على كل ما يمكنه الاستيلاء من ماله. وادعى بعض الخبثاء منهم أن الطفلة هُرِّبت إلى خارج البلاد ليعجزه عن السفر إليها.

وظلت الأم المسكينة تبكي ابنتها ليل نهار السنين الطويلة حتى فقدت بصرها وعز الدواء. وكان أشد ما يفزعها أن تكون ابنتها تقاسي آلام الجوع أو ذل الخدمة أو ما هو شر من هذا كله وحشية بعض الرجال يقودونها إلى الرذيلة ويكرهونها عليها، حتى كانت أن تكون ابنتها قد ماتت خيراً من أن تتجرع هذه الأهوال وتسقط في تلك الهاوية.

وأخيراً ترامى إلى علم والدها أن لخاطفي أبنته، أو بالأحرى لمن اشتبه فيهم - أقارب ف القاهرة يذهبون إلى زيارتهم من حين إلى أخر، فظن الرجل أن يكونوا قد أرسلوها إليهم ليخفوها، أو أنهم تركوها شريدة في شوارع العاصمة. فاستأنف بحثه فيها واستعان ببعض أقاربه وأقاربهم هنا، وصاروا يتفرسون في كل فتاة يقابلونها في الأزقة والطرقات عساها أن تكون ضالتهم المنشودة.

وحدث في الشهر الماضي أن وقع نظر أحدهم على فتاة فقيرة في أحد الأحياء الوطنية تشبه ملامحها - بعض الشبه - ملامح ابنتهم المفقودة فتعقبها عن بعد إلى أن وصلت إلى مسكنها المتواضع، ثم أرسل إليها خالتها التي تحققت من التفرس فيها ومن حديثها معها ومن الكشف على بعض مميزات في جسمها أنها أبنة أختها المفقودة، فلجأ إلى البوليس وهناك قصت الفتاة تاريخها من بدء ما أمكنها أن تذكر إلى حالتها الراهنة.

قالت إنها تذكر أنها كانت مع امرأة اعتادت أن تعاملها بخشونة وتضربها بقسوة، ثم انتقلت من منزل إلى منزل لا تستطيع الإرشاد عن أماكنها، وكانت تخدم في البيوت، وأخيراً التحقت بخدمة أسرة تجاور كاتب هذه السطور، وكان لرب هذه الأسرة خادم يعمل في محل تجارته فتزوج الفتاة من نحو عامين وتركت الخدمة وعاشت مع زوجها راضين قانعين بما قسم لهما من شظف الحياة. ومنذ بضعة شهور ولدت طفلا ففرح الزوجان به فرحاً شديداً وانصرفت الزوجة إلى العناية بمولودها والسهر عليه ولقيت من مخدومتها السابقة كل مساعدة. . . إلى أن فوجئت بطلبها إلى مركز البوليس هي وزوجها على الوجه المتقدم.

وهنا قامت مشكلة على جانب من الخطورة، فقد كان من المستطاع حل المسألة على خير وجه بأن يساعد والد الفتاة، وهو غني، زوج ابنته الفقير على رفع مستواه حتى يصبح كفئواً له فيؤجر له مثلا بعض أطيانه بإيجار قليل في بادئ الأمر، أو يقيم له متجراً يرتزق منه الخ. . . ولكن وقفت عقبة أمامهم عقبة كؤود فقد اتضح أن الزوجة وأسرتها من الأقباط المسيحيين، وكانت الفتاة قد تزوجت هذا الشاب المسلم وهي تجهل حقيقة أمرها وتعتقد أنها مسلمة مثله. ولم يكن أهل الزوجة على درجة من التعليم وسعة العقل والتسامح الديني يجعلهم يقبلون هذا الزواج الذي تجيزه المسيحية والشريعة الإسلامية على السواء؛ بدليل زواج الكثير من المسلمين بالأجنبيات المسيحيات بقبول أهل الزوجة ورضاهم. لهذا عارض والد الفتاة وأقاربهم في استمرار زواج ابنتهم بزوجها هذا، وقالوا إنهم سيطلبون من القضاء إبطاله لأنه بُني على الخطأ، والخطأ يبطل التعاقد.

أمام هذا الإشكال وهذا النزاع وأي بوليس القاهرة أن يحيل الموضوع كله إلى (الجهة المختصة) وهي مركز بوليس أهل الزوجة حيث وقعت الجريمة - جريمة الخطف - وحيث يسهل استكمال تحقيق شخصية هذه الفتاة رسمياً، وهل هي حقيقة ابنة (المشتكي) وذلك بشهادة الجيران وباقي أفراد العائلة على ضوء المحضر القديم (المحفوظ) بالنيابة، فعارضت الفتاة وقالت: إنها لا تريد أن تفارق زوجها والد ابنها، وأنها راضية بحياتها الحاضرة؛ غير أن المأمور أمكنه أن يقنعها بالسفر مع زوجها، فقبل الزوجان بعد أن رأيا من كرم أخلاق والد الفتاة وباقي أسرته وحسن معاملتهم ما شجعهما على ذلك، وسافروا جميعاً.

وكان منظر مؤثراً حقاً لقاء تلك الأم المسكينة الضريرة بابنتها بعد فراق خمسة عشر عاماً، فأخذت تضمها إلى صدرها بحنان وتقبلها وتتحسس بيدها رأسها ووجهها وشعرها وجسمها تستعيض بهذا عن نعمة الأبصار وكأنها في حلم لذيذ لا تصدق أنه حقيقة. وبعد أن استراح الجميع وأكلوا وشربوا وأكرموا الزوج كل الإكرام، أخذوا يطوفون بالفتاة أنحاء المنزل وملحقاته وعلى الشوارع المحيطة به فقالت إنها تذكر فعلاً بعض هذا حين كانت طفلة، وأيقنت أنها ابنة هذه العائلة حقيقة. وقد تأثرت بحالة والدتها وقالت إنها لن تتركها بعد الآن. وأشفق زوجها كذلك على هذه الأم الضريرة. وبعد أن كان مصمما على الرجوع مع زوجته إلى القاهرة أقنعه ذووها بأن منا الخير لابنه أن يتولوا هم بما لهم من ثروة وجاه أمر تربيته وتعليمه حتى مرحلة التعليم العالي الذي يعجز عنه هو بطبيعة الحال؛ ويخصون الطفل ببعض أملاك جده بشرط أن يتخلى أبوه عن زوجته ويترك لهم الطفل على أن يحضر إلى القاهرة من وقت إلى آخر لمشاهدته، أو يحضر هو لزيارته كلما شاء معززاً مكرماً في ضيافتهم. وبعد أن تردد الرجل كثيراً وفكر رأى أن يضحي بسعادته الزوجية ويحرم نفسه ابنه العزيز ضماناً لمستقبل الطفل، فقبل أن يطلق زوجته ويترك لها حضانة ابنها، وعاد إلى القاهرة وقلبه يتمزق حزناً على فراقها وفراقه، ومازال يحن إليها بكل جوارحه. وهكذا ذهب ضحية اختلاف الدين. على أنه يجد في المستقبل الزاهر الذي ينتظر الطفل خير عزاء. وهو يكرر الآن القول ليعزي نفسه: (إن الله فتح على أبني وإن كان قد حرمني منه ومن زوجتي).

على أن الرواية لم تتم فصولها، لأنه يبقى أن نعرف ما يكون عليه مركز الابن من والده ومن والدته ومن وأسرة كل منهما متى بلغ سن الرشد، وإلى من منهما ينتمي؟

نصيف المنقباوي المحامي