مجلة الرسالة/العدد 816/الجديد في المشكلة الألمانية
→ خاطرة. . . | مجلة الرسالة - العدد 816 الجديد في المشكلة الألمانية [[مؤلف:|]] |
السري الرفاء ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1949 |
للأستاذ عمر حليق
ألمانيا هي لولب السلم والاستقرار والرخاء في القارة الأوربية إجمالا، فإنتاجها من الصناعة الثقيلة والفحم والمواد الخام الأخرى، ومبادلتها هذا الإنتاج مع الدول الأوربية المجاورة، بالإضافة إلى حيوية الشعب الألماني وتأصل الروح العسكرية في بنيه، يفرض على المهتمين بالشئون الدولية مراقبة كل تطور يلم بالمشكلة الألمانية باهتمام خاص. فإن الظروف التي أحيط بها الألمان في أعقاب هزيمتهم ظروف مؤقتة تتلاعب بها مصالح متنافسة بين الروس وحلفاء الغرب مما يهيئ لشعب واع كالشعب الألماني أن يستفيد من حدة هذا التنافر كما حدث له في أعقاب الحرب الأولى في الأشهر الأخيرة ألم بالمسألة الألمانية أحداث هامة. فقد أعلن حلفاء الغرب في مناطق احتلالهم مشروعين رئيسيين يتوخيان إنهاء حالة الاحتلال العسكري في ألمانيا والعمل لإنشاء دولة ألمانيا مقيدة الصلاحية في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية؛ لكنها إصلاحيات واسعة في الشؤون الإدارية والاقتصادية والفكرية إلى حد ما. وهذا التطور يعني أن الألمان منذ هزيمتهم الأخيرة يعطون الفرصة لإعادة ما يستصوبونه من يتفق مع حاجاتهم ومصالحهم ونزعاتهم. وأحد هذين المشروعين يتعلق بتصفية الخلاف بين حلفاء الغرب أنفسهم حول المنطقة الصناعية الألمانية الهامة في الرور، وهذا يعني أن عقبة كبرى في وجه الحكم الذاتي لألمانيا قد زالت في منطقة حلفاء الغرب على الأقل.
أما المشروع الآخر فيتعلق بأنظمة الحكم والإدارة ومراقبة نمو القومية الألمانية لتسير في اتجاهات ديمقراطية وتكف عن التمجيد العنصري الذي مكن للنازية سرعة النجاح، وجعل العسكرية البروسية نظاماً تقليدياً هو المحور الذي يدور حواليه الألمان باحثين عن مخرج لأزماتهم النفسانية والاقتصادية.
والدراسات المتوفرة عن حاضر ألمانيا تشير إلى سرعة نمو القومية الألمانية نمواً عنيفاً حاداً. وهذا ما دفع حلفاء الغرب لأن يصوغوا الأنظمة والبرامج التي يضمونها للحكم الذاتي في ألمانيا في قوالب تحارب هذا النمو وتسعى جديا ًللحد من عنفه وتوجيه توجيهاً إنشائيا يتفق ومصلحة الحلفاء والديمقراطية التي يتوخون تثبيتها في أواسط أوربا. والسلاح العلمي الذي استعمله حلفاء الغرب لتوجيه هذا الانفعال الألماني هو إعادة (تثقيف) الشعب الألماني على أسس الديمقراطية الغربية.
أما السوفييت في منطقة احتلالهم من ألمانيا الشرقية، فإنهم يتبعون برامج تطبيقية عملية لبلشفة ذلك الجزء من ألمانيا بنفس الوسائل التي اتبعوها في كل شبر من أوربا الشرقية التي خضعت لنفوذهم، في بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبلغاريا ودول البلطيق. ففي ألمانيا الشرقية ألحق الروس أجزاء غنية من الوطن الألماني ببولندا وتشيكوسلوفاكيا وأمعنوا في انتزاع أنياب الألمان العسكرية بنقل المصانع ووسائل الإنتاج إلى روسيا، واستخدام المهرة من العمال الألمان فيها لخدمة الإنتاج الروسي، وزجهم مئات الألوف من الجنود الألمان المسرحين في معسكرات العمل الإجباري الخفي. هذا إلى توجيه النظم الاقتصادية في الصناعات الخفيفة والزراعة وأحوال المعيشة اليومية توجيهاً ماركسياً على النحو الذي تتبعه الحكومات الشيوعية في روسيا ومنطقة نفوذها في شرقي أوربا. وحلفاء الغرب وإن لم يلجئوا إلى هذه القسوة في قمع الروح الألمانية، سعوا تارة بجد وطوراً بغير جد للاحتياط لها على طريقتهم الديمقراطية. فقد أنشأ الحلفاء في اجتماع عقد في لندن في الربيع المنصرم مجلس الدفاع العسكري لألمانيا وهو يشرف على ثلاث هيئات تفتيشية تراقب الألمان في نشاطهم العسكري والصناعي، وفي بحوثهم العلمية، إلى جانب الهيئة الدولية لمراقبة الرور التي تحول بين ألمانيا وبين الاستفادة من الفحم والحديد لتنمية الصناعة الثقيلة وهي نوع خفي من الاستعداد الحربي، وقل من الخبراء بشؤون ألمانيا من يعتقد بأن حلفاء الغرب مستطيعون كبح النمو الألماني في الناحية القومية والصناعية والعسكرية.
وحتى في هذا الطور الحالي من أطوار النمو الألماني فإن الوعي الألماني قد أخذ ينفجر عن انفعالات تعزز هؤلاء الخبراء.
فقد أضرب مثلا عمال المصانع في منطقة الاحتلال البريطانية احتجاجاً على تفكيك المصانع الكبرى في تلك لمنطقة. والقارئ للصحف الألمانية في مناطق الحلفاء يلمس بوضوح على الرغم من وطأة الرقابة حدة الانفعال الألماني واتجاهه نحو هذا النمو القومي في شتى نواحيه. وإن مهارة العامل الألماني ووعيه وتركز النشاط الألماني في الصناعة والاقتصاد والتشكيل السياسي في بوتقته القومية الألمانية يجعل (تثقيف) حلفاء الغرب للألمان عملا ضئيل الجدوى ولكن ألسنة الرأي العام في المعسكر الإنجلوسكسونى يحلو لها أن تعتقد إن الألمان مكبوح جماحهم بواسطة هاتين السلطتين:
مجلس الدولي لمراقبة الرور، وهيئة مراقبة الروح العسكرية والإنتاج الصناعي والبحوث العلمية. وهذه السلطة الأخيرة مقصورة على الدول الثلاثة: بريطانيا وأمريكا وفرنسا.
وقد رأينا أن هيئة المراقبة الحليفة هذه وفروعها التفتيشية الثلاثة محدود نجاحها لأسباب تتصل بصميم الخلق القومي الألماني، إلا إن هناك كذلك دوافع (خارجية) تؤثر على مدى هذا النجاح وهي لذلك مصدر صراع للمعنيين بالمشكلة الألمانية. ولما كان النشاط الألماني الصناعي والفني حيويا وضروريا لا لإنعاش ألمانيا ورفع عبء النفقات المادية عن كاهل دافع الضرائب في بريطانيا وفرنسا وأمريكا فحسب، بل لإنعاش أوربا المحطمة إجمالا، فإن سلطة الرور الدولية تقيد الإنتاج الألماني بشروط تلزم الألمان بتصدير جزء معين إلى البلدان المجاورة سواء رضي الألمان أم لم يرضوا، وسواء فاض عن حاجتهم أم لم يفض، ومن هذه الشروط كذلك إقصاء الصناع والخبراء الألمان الذين كانوا على صلات وثيقة بالحركة النازية عن وسائل الإنتاج في الرور وغير الرور.
ويتوجس أعداء ألمانيا خيفة من هذه الحالة. فبالرغم مما يبدوا من صرامة في هذه القيود فإن هناك من يؤمن بأنها لن تكفي لإبادة عزم الألمان على المحاولة مرة أخرى للسيطرة على منطقة نفوذها التقليدية في أوربا وفي العلاقات الدولية، وفي الانتقام من عدوين لدودين هما اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية. وقد اضطرت سلطات الحلفاء في الأسابيع الأخيرة لأن تنذر أصحاب الصحف الألمانية مراراً بأن يتفادوا توجيه الانفعال الألماني توجيهاً عنصريا ضد اليهود، وإن كانت قد أغفلت حدة التوجيه الملتهب الموجه ضد الشيوعية لأسباب واضحة. ولكن الألمان أو القوميين العنيفين منهم على الأقل يمزجون عن وعي (اليهودية العالمية) والشيوعية الدولية معاً. وبسبب هذا الخوف تواجه سلطات الاحتلال الحليفة في ألمانيا انتقادات عنيفة من الكتلة اليهودية القوية النفوذ في الولايات المتحدة وفرنسا كما حدث في قضية (الزاكوخ) زوجة مراقب معتقل يوخنفالد وما تبع الحكم المخفف عنها من موجة انتقاد وضغط سياسي استدعى تأليف لجنة برلمانية أمريكية للتوصية بإعادة محاكمتها من جديد. ويواجه الحلفاء كذلك تحديا ًقوياً من الاتحاد السوفياتي لإعادة الحكم الذاتي لألمانيا الغربية الذي هو في الواقع جوهر النزاع الشكلي بين الانجلوسكسون والروس في المشكلة الألمانية. ولعل هذه المصلحة المشتركة تفسر لنا بعض دوافع التحالف السوفياتي اليهودي في فلسطين وغير فلسطين حيث يشتد العنصر اليهودي في كل حزب شيوعي يدين بالولاء لموسكو.
والخوف من بعث ألمانيا لا يقتصر على هؤلاء بل يحسب حسابه الفرنسيون والبلجيكيون والهولنديون الذين أصابهم منه شر عظيم مرتين في ربع قرن. ولذلك فإن المشكلة الألمانية لا تزال موضوع خلاف على بعض النقاط الجوهرية بين حلفاء الغرب أنفسهم.
وهناك من يشير إلى خطورة برامج الاحتكارات الدولية (الكار تل) لاستغلال المهارة الألمانية في الإنتاج الصناعي على حساب مستقبل السلم الأوربي على نحو ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ولكن تباين الصالح بين حلفاء الغرب حول البعث الألماني لم يحل بين صناع السياسة منهم، وبين تنفيذ مشروعات هامة للإنعاش الألماني.
والخلاصة أن الألمان حين يتركون لأنفسهم سيكون طموحهم لبناء المجد العسكري واستعادة المركز السياسي والسيطرة الصناعية على أواسط أوربا مقيداً بسياسة روسيا الصارمة في الشرق وسلطات المراقبة الحليفة في الغرب.
وكان كلا الفريقين يحاولان انتزاع عود الثقاب من يد الولد الشرير، وبقي عليهما انتزاع الشر نفسه. ولعل هذا أصعب المهتمين في جوهر أس (الإصلاحية) وهم عنه مشغولين بالتناطح.
نيويورك
عمر حليق