مجلة الرسالة/العدد 809/يا أيها العرب!
→ الإسلام في تركيا | مجلة الرسالة - العدد 809 يا أيها العرب! [[مؤلف:|]] |
الشهيد ← |
بتاريخ: 03 - 01 - 1949 |
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها المستمعون ألي، مقبلين علي، ويا أيها السامعون وهم معرضون، يلهون في القهوات أو يتبخترون في الطرقات، إلى العالم في مكتبه، والعامل في معمله والمرأة في بيتها، والطفل في مدرسته إلى من يتفيأ الظلال من جنات الشام، ويترشف الزلال من نيل مصر، ومن يتنعم بفي النخيل على شط دجلة، ومن يضحي بشمس القفار من فلوات حجاز، ومن شرق من العرب ومن غرب. . .
يا أيها العرب جميعا. . . هل تدرون ما هو أعظم خطب يمكن أن ينزل بنا. وما هي أدهى مصيبة يخشى أن تصيبنا؟ لا، ليست الاستعمار الأجنبي، فسنجاهد حتى لا يبقى في ديار العروبة، ومنازل الإسلام غاصب أجنبي، وليست مشكلة إسرائيل، فسنحارب حتى نسلم (إسرائيل) إلى عزرائيل، ولكن المصيبة أن نكفر بأنفسنا، وان نجهل أقدارنا، وان لا نعرف فوق الأرض مكاننا، وان نحسب إننا خلقنا لنكون أبدا أضعف من الغربيين، وأجهل منهم، وأن ننسى أن أجدادنا لما خرجوا يفتحون الديار، كانوا أقوى منا على عدونا، وأنهم أقدموا بسيوف ملفوفة بالخرق على عدو كان أكثر عددا وأقوى عددا واضخم عمرانا، وأكثر علما ومالا. فظفروا به، وانتصروا عليه. وأن الأيام دول، والدهر دولاب، يهبط العالي، ويعلو الذي هبط، ويذل العزيز، ويعز الذي ذل، وإن دار علينا الدهر حينا، فافترقنا وتباعدنا، ولفنا بعد إشراق النهار ليل مظلم، أغمضنا فيه عيوننا، وأغمدنا فيه سيوفنا، فلم نبصر اللص يدخل علينا، ولم ننهد إليه لنرده عنا، وحسبنا لطول الليل أن لا صباح له، فقد طلع الآن الصباح، وانقضى الليل، وهب النائمون يمشون إلى الأمام. . .
إلى الأمام! وإلا فما هذه الثورات، وما هذه الوثبات؟ وما هذه الوحدة في العواطف، حتى لتهتز الشام لكل حادث في العراق، وتغضب مصر لكل عدوان على الشام، ويثور المشرق لنصرة المغرب، وتقوم مراكش لتأييد أندونسيا، وتهب الباكستان للدفاع عن فلسطين؟
إلى الأمام! وإلا فما لمصر، صارت فيها الفكرة العربية دينا وكانت من قبل تعيش عامتها في ظلام العزلة، وتحيا (بعض) خاصتها في ضلال الفرعونية؟
إلى الأمام وإلا فهل كانت تظن فرنسا ويظن عبيدها أن سيقطع الله دابرها من سورية ومن لبنان، ومن لبنان يا أيها السادة! وهل كان يظن الإنكليز أنهم سيضطرون إلى الخروج من وادي مصر، وان العراق سيقطع اليد التي تحاول أن توقع معاهدة ليس فيها خير العراق، وهل كان يظن أحد أن الهند، الهند ستتحرر وإنها ستكون في الدنيا دوله إسلامية فيها مئة مليون.
أن هذه المظاهرات، وهذه الثورات، حركات السائل الناري في باطن الأرض، إنها الهزة، ثم تكون الرجفة، ثم يكون الزلزال. ثم ينفجر البركان بالحمم، وتفتح أبواب جهنم، فلا يقف أمامها من الشياطين، ولو كان له مال (حاييم)، ودهاء (جان بول)، وقوة (الدب)، وأقدام العم (سام).
لسنا اليوم كما كنا من خمسين سنة، كنا نخاف أوربة لأننا نجهل ما عندها، وكنا نخشاها لأننا ما عرفناها، أما اليوم فقد هتك الستار، وكشفت الأسرار، وعرفنا أن هذه المدنية مدنية الظفر والناب وإنها حضارة الذئاب. . .
فيا أيها العرب، فوق كل أرض، وتحت كل سماء، لقد جئت الليلة، ليلة هجرة محمد، أستحلفكم بقبر محمد، وبالمسجد الأقصى، وبمهد عيسى، وبأمجاد الماضي، وبآمال الآتي، أن تثقوا بربكم، وأن لا تعتمدوا إلا على نفوسكم، وأن تعلموا أن النازلات امتحان للهمم، وتمحيص للأمم، وأن لا تكفروا بالبطولة التي صبها في دمائكم يا أيها العرب، سيد العرب محمد، وأن تأخذوا من سيرة محمد الذي اجتمعتم الليلة للاحتفال بذكراه دروس البطولة والعزم والنضال.
وأن تذكروا موقف محمد يوم كانت المدينة على حافة الخطر وكانت معرضة لأقوى هجوم يمكن أن تقوم به جزيرة العرب، وكان على الطريق إليها ثلاثة جيوش فيها عشرة آلاف مقاتل، والمسلمون كل المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، وأن المدينة قد (تسقط) بين ساعة وساعة، ويقضى على الإسلام، فماذا صنع رسول الله ﷺ، وماذا صنع المسلمون؟
هل تحيروا حتى لا يدرون ماذا يصنعون، فجعلوا يرتجلون الخطط، ويبتدعون الآراء؟ هل كفوا أيديهم عن العدو وأطلقوا ألسنتهم عليه، فرموه بالخطب والتصريحات؟ هل أضاعوا الفرصة وأمضوا الأيام في الاجتماعات والمؤتمرات؟ هل اختلفوا وتنازعوا؟ وهل فكر الأغنياء في أن يستأجروا بيوتا في الأرياف ليفروا إليها، إذا نزلت الملمات وكانت (الغارات)؟
لا يا سادة. . . لم يفكر في الفرار إلا (المنافقون والذين في قلوبهم مرض). أما المسلمون فكانوا يعلمون أن المسلم الذي يفر من بلده إذا دهمه العدو لا يكون مسلما، وأن الإسلام يفرض القتال عند ذلك على الرجال والنساء فرض عين كفرض الصلاة.
لا، ولم يعتكف رسول الله في مسجده، ليدعوا عليهم، ولو دعا لاستجاب الله دعاءه، ولكنه أراد أن يأتي البيوت من أبوابها، ويجر النتائج بأسبابها، ويعلم هذه الأمة كيف تصنع إذا دهمتها المخاوف، وحاقت بها الأخطار، وشرع يحفر الخندق والخندق هو (الملجأ الفني) من (غارات) تلك الأيام، ولم يكن العرب يعرفون الخنادق بل هي من طرائق العجم في قتالها.
وكذلك كان محمد يعد لعدوه أحدث المخترعات الحربية، ويفاجئه ب (أسلحة جديدة) لم يسمع بها. لم يأمر بحفر الخندق وهو مقيم في داره، هادئ هانئ مستريح، بل عمل معهم، يده قبل أيديهم، حمل التراب حتى غطى بطنه التراب، وجاعوا فجاع معهم، وربط على وسطه من الجوع الحجر، وكان أقواهم يدا، وأثبتهم قلبا، عرضت صخرة لم تعمل فيها المعاول، ولم تؤثر فيها سواعد الرجال، فلجئوا إلى محمد، فلم يستطع أن يكسرها إلا ساعد محمد، وهو يعمل بلا قميص شأن الرياضي القوي، لا شأن هؤلاء (المشايخ) الذين يمشون ورؤوسهم محنية، وأطرافهم متخاذلة. . . كان قد هدهم المرض!
أعد الخندق ل (الدفاع السلبي)، ثم خرج مع المسلمون ل (الدفاع الإيجابي)، وولى على المدينة ابن أم مكتوم ما اختاره لعصبية أسرة، ولا لجامعة حزب، ولا لصلة قرابة، بل لأنه أحق بالولاية وأولى بها، ولم ينازعه أحد ولايته لأن الأمة التي تشتغل بالحزبيات، وتتنازع على الكراسي، والعدو على الأبواب لا تستحق الحياة.
وأحاط العدو بالمدينة، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقلت الأقوات، وجاءت في خلال ذلك قاصمة الظهر بأن الحلفاء من يهود قريظة، خانوا العهد، وأخلفوا الوعد، وغبت عليهم نجاسة طباعهم، ونذالة أخلاقهم، صفة اليهود أبدا، أينما كانوا وحيثما وجدوا، فلم يفارق محمد ثباته وعزمه، وبعث يتحقق الخبر، وأمر رسوله أن يعلن إن وجده كذبا لتقوي العزائم، وتشتد الهمم، وإن وجده صدقا لحن له به، ولم يخبر به الناس، لئلا تكون الأسرار العسكرية حديث المجالس، وأسمار السمار.
وأحس بالأمر المنافقون، وما تخلو أمة من (منافقين. . .) ومن دعاة الشر وبغاة الهزيمة، فأعلنوا ما كان مضمرا، و (زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون أن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، أن يريدون إلا فرارا). واجتمع على المسلمين العدو القوي والبرد والجوع وخيانة الحليف وتثبيط المنافق، فقضى رسول الله على (الانقسام الداخلي) وصبر على الحصار، ثم صمد الهجوم، واستعمل كل سلاح، فحفر الخندق، وحارب بالسيف وحارب بالحيلة، فكان الظافر بالحرب الدفاعية، وفي الحرب الهجومية. وفي حرب السياسة، وفي حرب الأعصاب. وكان له النصر المؤزر.
واذكروا بعد ذلك كم جزنا من امتحان، وكم نجونا من خطوب. يوم كر علينا الشرق كله بهمجيته وكثرته وقسوته جيوش التتر يقودها الكلب الكلب: هولاكو. فمرت كالسيل الحاطم، فاجتاحت دول الإسلام (وما كان ينبغي أن يكون للإسلام إلا دولة واحدة)؛ حتى إذا عبثت بالخلافة، وداست بغداد، وفعلت في دنيا المسلمين الأفاعيل، ولم تبق منها إلا ولايات متباعدات ضعيفات. وقف لها شيخ واحد. شيخ لم يتخذ الدين سلما للدنيا، ولا الصلاح شبكة للمال. ولم يكن همه مشيخة يزهى بها، ولا ضياع يقتنيها، ولا سيارة يركبها. ولا وضيفة يحظى بها. لم يكن يمد يده للناس يقول قبلوها وإملأوها مالا، ولا يقول تصدقوا بأموالكم ليأخذ هو الصدقات، قد احتقر الدنيا في جنب ما عرف من نعيم الآخرة، وهان عليه أهلها ملوكهم وسوقتهم لما وقر في نفسه من عظمة الله شيخ اسمه العز بن عبد السلام.
أثار هذا الشيخ مصر، حتى انتصر جيش مصر الضعيف على جيوش التتر القوية، وحفظ الله به في عين جالوت الدين والدنيا، وأنقذ به الإسلام والحضارة. وما انتصر جيش مصر إلا بالإيمان الذي أثاره في النفوس هذا الشيخ.
واذكروا يوم كر علينا الغرب كله. يقذفنا بالجنود من كل لون. ويرمينا بالأسلحة من كل نوع. وكنا دويلات وإمارات متخاذلات متقاتلات. فنصرنا الله على الغرب كله برجلين اثنين وما انتصرا إلا بالإيمان والإخلاص، وان تركة صلاح الدين الأيوبي بطل الدنيا، كانت ستة عشر دينارا، لم يورث غيرها!
يا أيها المستمعون جميعا، سألتكم بالله: انسوا لحظة واحدة جاهكم ومطامعكم، وحبكم وبغضكم، ومشاغل بيوتكم وأسواقكم وفكروا في نفوسكم، فيما كان عليه أجدادكم، وما انتهت إليه حالكم. هل صنعتم مثلما صنع النبي يوم الخندق، هل عندكم اليوم مثل الملك صلاح الدين. هل لديكم مثل الشيخ عز الدين هل أعددتم لليوم العبوس عدته. هل أحسستم إلى هذه الساعة إنكم في حرب؟
يا ناس!
هل تعيش أمة في الحرب مثلما كانت تعيش في السلم. لا تنقص شيئا من لهوها وتبذيرها وغفلتها، وأضاعتها أموال العامة وأموال الخاصة فيما لا ضرورة له، ولا جدوى منه، وأنفاقها في (الكماليات) التي يذهب ثمنها إلى عدوها، فيرجع إليها رصاصا وقنابل تنزل على دورها وصدورها؛ هل تختلف أمة على الصغائر، وتتنازع على المناصب، والعدو قد غشيها في أرضها؟ هل ينفق في الأمم الحية المحاربة قرش واحد إلا في شراء النصر؟
يا ناس!
إني أكون خائنا لديني ولأدبي إذا أنا غششتكم في يوم هجرة نبيكم، أو كتمت الحق عنكم. إنكم طالما تنكرتم لدينكم ونسيتم أقداركم، واحتقرتم نفوسكم، وأضعتم سلائفكم الخيرة، وخلائقكم النبيلة، في تقليد الأوربيين في التافه من شئونهم، وفي إعظام الأوربيين والرعب منهم. ولا سبيل لكم إلى النصر إلا بان تعودوا فتتخلقوا بأخلاق النضال التي خلق بها أجدادكم نبيكم، اجلوا كل اختلاف بينكم إلى نهاية هذه الحرب، وأرجئوا كل نفقة لا ضرورة لها، ولهو لا داعي إليه. وواجهوا العدو صفا واحدا، وقلبا واحدا، قد وقفتم على الظفر قواكم كلها وأموالكم، واعلموا أنه لن ينفعكم والله منصب ولا مال، أن تركتم عدوكم يقوى بضعفكم، ويشتد بتخاذلكم، ويزيد بنقصكم
إن الدنيا مقبلة على غمرات سود، ومرتقبة أحداثا جساما، وستكون معركة لا مخرج منها إلا البطل. فيا أيها العرب: تيقظوا وتنبهوا وثقوا بربكم وعودوا إلى خلائقكم. واعرفوا أقداركم، واعتمدوا على نفوسكم، وأيقنوا (إن فعلتم) إنكم منصورون منصورون منصورون. . .
يستحيل أن تغلبكم كلاب يهود!
علي الطنطاوي
(دمشق)