مجلة الرسالة/العدد 809/الإسلام في تركيا
→ الرأي العام في تعاليم الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 809 الإسلام في تركيا [[مؤلف:|]] |
يا أيها العرب! ← |
بتاريخ: 03 - 01 - 1949 |
للأستاذ محمد فريد وجدي
مر على تركيا عهد كانت فيه كسائر الأمم الشرقية تحت وصاية رجال الدين. فكان للدولة شيخ للإسلام له رأي مسموع في الشئون الحكومية والسياسة الدولية، وكان له ألوف من الأتباع منبئين في جميع الولايات يؤيدهم الشعب في إملاء إرادتهم على الولاة. وكان يقوم إزاء هؤلاء الممثلين للدين رجال انتحلوا لأنفسهم صفة التصوف، وليس أكثرهم منها في شيء، يطعمون عقيلة الناس بوجهات نظر في الدين قد تنافيه أو تحد من سماحته. وكان الشعب التركي في الثلاثة القرون الأخيرة قد تعب من مواصلة الجهاد، ولكن التارات التي لأوروبا عليه لم تخمد جذوتها، بل زادت اشتعالا انتهازا للفرصة، فكان هذا الشعب الجريء الصبور يتحمل الشدائد ولا تلين له قناة نحو قرنين متوا ليين.
في هذه الأثناء أكثرت تركيا من البعوث العلمية لأوروبا، وأكثرت من حصة ألمانيا في الناحية العسكرية، وألمانيا كانت معشش الفلسفة المادية في القرن التاسع عشر كله، حيث نبع شيوخ الإلحاد وممثلوه، فاقتبس منهم شبان الأتراك أكثر نظرياتهم، ولما عادوا إلى أوطانهم أشاعوا، فوجدت رواجا بين المتعلمين، وساعد على هذا الرواج تشدد بعض الشيوخ قي رجعية ظاهرة البطلان.
فلما حدثت الحرب العامة في سنة 1914 وانتهت بهزيمة ألمانيا وأنصارها، وكانت تركيا منهم، وتقرر الصلح، شعرت تركيا بان خصومها يريدون الإجهاز عليها، فثارت ثورة استبسال تيقظت فيها جميع مصادر قوتها وبسالتها، وتجلت فيها روح عزتها وكرامتها، ووقفت للدول المنتصرة إلى حدود بلادها والسيف في يدها تذود عن وجودها بدماء من حياة بقيت لها. فأخضع الله أعداءها لهذا المظهر الرائع من حوادث البطولة النادرة، وكان جزاؤها أن أعطيت كل ما طالبت به من حقوقها الاجتماعية كافة، وحدودها الطبيعية كدولة. فكان هذا حادثا فذا لم يشهد له التاريخ نظيرا.
أدركت تركيا أن ما كانت قائمة عليه من الأصول، ونايئة تحت أعبائه من التقاليد، لا يصلح أن يقيمها على طريق الأحياء كدولة عصرية، فعمدت إلى إزالته جملة بما فيه من خير وشر، لتنتحل شخصية الأمم الراقية طفرة، وغاب عنها أن ذلك إنما يمكن أن يكون والدماء لم تهدأ من غليانها بعد، ولكن بعد أن يسكن جأش الأمة، ويهدأ بالها، وتطمئن على كيانها، تتيقظ مطالبها الروحية، وحاجاتها الوجدانية، وأخصها الدين، وأين هو؟ ألتمس اليأس حفاظه فوجدوهم قد لبسوا القبعات واندمجوا في الشعب يعملون لكسب قوتهم!
نعم، وجدوا المساجد مفتحة الأبواب تستقبل جماهير المصلين، ولكن أين الدروس الدينية، وأين الوعاظ والمرشدون، وأين القضاة والمفتون، بل أين الطلبة المعممون، وأين أساتيذهم الموقرون؟!
الثورة قد أتت على كل هذه التقاليد، حتى إنك كنت لو سألت عن مصير هذه الحالة، قيل لك أن الحكومة ستصنع للدين وتدريسه نظاما لا يمكن معه أن تستغل سذاجة العامة للدس عليه ما ليس فيه، أو لإظهاره على غير ما هو عليه من النزاهة المثالية، والروح الوثابة، والمظهر المهيب. ثم يعقب ذلك سكوت طويل!
وكانت البلاد التركية غاصة بالملاجئ الدينية، والتكايا المذهبية تأوي إليها عشرات الألوف من أهل البطالة يستغلون بساطة النساء وضعفاء العقول، فكان الناس لا يجدون منهم رجلا يتلكأ في مشيته تحت جبته الفضفاضة، إلا خفوا إليه يقبلون يده، ويتلمسون البركة من الاتصال به، غير مفكرين في الأسباب العادية، والعوامل المادية؛ فكانت هذه الحالة من التعويل على الأوهام سببا رئيسيا في تقاعس الدهماء عن التفكير في معترك الحياة، وعن افتقارها إلى علم ومال ودؤوب. فكان النجاح في نظرهم نابعا للمحفوظ تصيب هذا وتخطئ ذاك، ومن تصب مترفعة إلى أعلى مما يتوق إليه، ومن تخطئ تقذف به إلى مكان سحيق!
هذه كانت الحالة العقلية للشعب التركي على نحو سائر العقليات الشرقية التي ينظمها جميعا رباط وثيق.
فكان رجال الثورة لا يجرؤن على إعادة الحرية الدينية خشية أن تفقدهم كلما حصلوه بجهادهم العنيف. وبعد أن مضى نحو ربع قرن على هذه الحالة نشأ رأي معتدل ناضل عن الحرية الدينية في نطاق حدده المسؤولون عن حفظ كيان الشعب، وإبعاد الغوائل عنه. أول من اقتحم هذه العقبة كان (جلال بايار) الذي كان رئيسا للوزارة وزعيما للحزب الديمقراطي. فطلب إلى الحكومة أن تحترم دين الأمة وهو الإسلام، وان تسمح بالعمل على نشره وبتدريسه في المدارس الابتدائية والثانوية.
فقبلت الحكومة هذا الطلب واشترطت شروطا كلها ضمانات قوية لسلامة الإسلام من العبث، فشرطت أن لا يدرس كتاب في المدارس إلا إذا أقرت الحكومة على تدريسه فيها.
واشترطت كذلك أن لا يدرس الدين إلا الذين حصلوا على معلومات دراسية في مدارس الحكومة أو التي تعترف بها. وهذا الشرط وان ظهر مبالغا فيه، إلا أنه يمكن قبوله على اعتبار أن الذهن الخالي من المعلومات، لا ينبغي أن يتسلم إلا ما لابد منه من النطق بالشهادتين، وحفظ آيات من القرآن ليصلى بها. ولعلهم منعوا تسليم الجهال العلوم الدينية لكيلا يتبعوا سبيل قدماء الشيوخ في التحكم بنصوص الدين على كل شيء، وبتكفير المسلمين على أقل ما يتخيل أن فيه مساسا بالعقيدة. هذا فضلا عن مثوله بين المتعلمين على حال لا يتفق والمتفقه في الدين من الجهل ببسائط العلوم الطبيعية، وأوليات الشؤون التاريخية والاجتماعية. ومثل هذا وإن كان لا يخشى منه أقل تأثير على المتعلمين، ولكنه يعتبر كلامه عند العامة من العلم في صميم الصميم.
الخلاصة أن الأتراك بعد أن طال صمتهم عن الشؤون الدينية التي كانوا يعتبرونها شخصية محضة للأفراد، عادوا فاعترفوا رسميا بان دين الأمة التركية الإسلام، واستخدموا هذا التعبير في اكتساب هوى الشعوب العربية. وكل هذا كان من ضروريات الثورة، فإن أخص مميزاتها إحداث انقلابات تعقبها انتقالات. وقد حدث مثل هذا الأمر في كل أمة. ففي الثورة القريبة منا، وهي الثورة الفرنسية أنكروا الدين والخالق جل وعز، ثم عادوا بعد عشرات من السنين إلى ما كانوا عليه، ولكن كانت الثورة أتت على كل ما يخشونه مما يوهن حركة الزياد عن ثمرات الثورة، أو يضيع الحقوق التي اكتسبت منها.
الأمر الذي نريد لفت النظر إليه في الثورة التركية أنها سمحت بتأسيس كلية لتعليم أصول الدين الإسلام ي، ومدارس أخرى لتخريج من يتولون التعليم الديني، ولكنها اشترطت أن يكون طلبتها ممن أتموا دراستهم الثانوية في المدارس الحكومية وحصلوا على شهادة الثقافة منها.
وأحسن من هذا وأعظم أثرا في خدمة الإسلام الحق وحماية الأمة من تسرب التعاليم الضارة إليها باسم الدين أن الحكومة التركية شرطت أن لا يطبع كتاب ديني ويدرس في المملكة التركية إلا بعد أن يعرض على مجلس النواب ليدرسوه ويتباحثوا فيه ويقروه.
هذا وحده خير ما أثمرته ثقافة القرن العشرين للإسلام، فإن أي كتاب يكون قد قمش بين دفتيه من حق وباطل، وجمع بين غث وسمين، لا يمكن أن يتغفل مئات من النواب وألوف من رجال الصحافة والكتابة، ويحصل على تصريح بالطبع فيفسد عقيدة المسلمين.
هذه الرقابة الثمينة وحدها سيكون من أخص آثارها قطع دابر البدع التي شاعت بين المسلمين حتى حلت محل الدين نفسه لديهم. ولأول مرة - بعد قليل من السنين - سيشهد مصلحو المسلمين أن شعبا إسلاميا عدد أفراده عشرون مليونا يدينون بالإسلام خالصا من البدع التي شوهت جماله زهاء ألف من السنين في بقاع أخرى من بلاد المسلمين.
محمد فريد وجدي