الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 797/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 797/رسالة الفن

بتاريخ: 11 - 10 - 1948


الزهريات الكلاسيكية

للدكتور أحمد موسى

- 3 -

مما يبعث السرور في النفس وسط ما يحيط بنا في هذه الأيام من مصاعب ومنازعات أنم نرجع إلى محكمة جاءت على لسان ماتيو آرنولد الفني العظيم حيث يقول:

مثل الرجل الذي يميل الى الفن ثم يبتغي لهذا الفن غذاء في غير مخلفات الإغريق، وكذلك الذي يميل إلى الشعر من غير أن يستعين في تنمية هذا الميل بهوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، كمثل من يلتمس التهذيب والخلق القويم في غير الكتب السماوية!

وعلى ذلك يقرر آرنولد أن من الكتب السماوية ومن هوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، ومن الفن الإغريقي، مجموعة تلك المخلفات القديمة العظيمة الخالدة، هي التي ستبقى أبداً الباعث القوي والمثال الحي والمعين الذي لا ينضب لأعمال الإنسان!.

أكتب هذا بمناسبة خطاب وصلني من (قارئ) يعتب على الكتابة في فن الإغريق، في وقت ظهرت فيه القنبلة الذرية - ويقول أنه يرى من الخير معاصرة باحث الفن وناقده ومؤرخه للوقت الذي يعيش فيه؛ فيكتب في الفن الحديث وفي اتجاهاته ومدارسه.

وهذا قول لا غبار عليه لو أردنا الكتابة لمجرد الترفيه عن القارئ بكتابة ما يلذ له أن يقرأ، ولكن (مجلة الرسالة) التي كافحت ستة عشر عاماً في خدمة الأدب والعلم والفن الرفيع ولم يزل صاحبها مرة إلى السوق ليعرف مطالبه، بل ظل رابضاً كالأسد يرفع من مستوى الناس ولا يهبط هو إليهم، حتى ولو عاد عليه هذا الهبوط بالرواج العظيم - ليست المجلة التجارية التي تريد اكتساح السوق!

ولما كنت أعتقد أن الخير كل الخير هو تثقيف القارئ تثقيفاً فنياً يعود عليه بإدراك معنى الفن إدراكا سليما فيرى ويسمع ويفرق بين الجيد وغير الجيد؛ رأيت أن أكتب عن الإغريق غير مهتم بتسلية القارئ والترفيه عنه.

ولا أنكر أن معظم الناس يعتقد في هذه الأيام بعد ظهور الاختراعات الحديثة كالقنبلة الذري والرادار والتليفزيون والبنسلين أنهم أحسن بكثير من السلف، وإنه لا داع بعد اليوم للتعلق بأهداب أعمالهم، وهذا راجع ولا شك إلى ما أحدثته الحرب الأخيرة - وكذلك الحرب التي قبلها - من قلق واضطراب وتعلق بالماديات لم يعهد له مثيل في سابق العصور، حتى في بلاد الشرق التي لم تدر فيها المعارك الحاسمة!.

وأراه مناسباً في هذا المقام أن أبين في كل اقتضاب السباب التي من أجلها لا يزال الفن الإغريقي سيد الفنون جميعاً. فنحن معشر المصريين لم يبلغ تقديرنا للفن مبلغ تقديرنا للشعر والأدب والفلسفة، ذلك لأن لنا في مجال الشعر والأدب والفلسفة إنتاجا قومياً عرف قدره في الشرق كله وفي معظم البلاد الأوربية، أما في الفن، فإن جهودنا ضئيلة تكاد لا تذكر، ولعل المقارنة بين الفن المصري القديم وبين ما ننتجه الآن يحقق هذا القول.

ومهما يكن من شئ؛ فإن المقرر أنه لولا ما للفن الإغريقي من التأثير المتواصل لما ارتفع الفن كثيراً في كل أنحاء الأرض عن مستوى الفن الهندي أو الصيني أو الفارسي.

ففي المائة السنة السابقة على حروب الفرس التي وقعت بين عامي 500، 480 ق. م. كانت بلاد الإغريق بقسميها الأيوني والدوري أشبه شئ بشجرة أنبتت أغصاناً ناضرة انبعثت في نواحيها المتباينة، وما أنبثق فجر القرن التالي لتلك الحروب، حتى جاء هذا الغرس بأطيب الثمرات، وأخرج لنا الأغارقة الآيات البينات، التي ظلت حتى اليوم المثال الذي يحتذى به الإنسان، والأفق العظيم الذي يمكن للعقلالبشري الوصول اليه!

والميزة الكبرى في الفن الإغريقي أنه فن بسيط متوازن في تناسق، يحاكي الطبيعة ويستلهمها في طموح مستمر نحو الكمال، فهو فن إنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.

وإذا كنت قد كتبت على صفحات الرسالة منذ عشر سنوات عن نواح مختلفة في الفن الإغريقي؛ فإني أكتب اليوم ولا زلت مصراً على ألا أبدأ إلا به.

نعم كان في مصر فن وفي بابل وآشور فن، وكذلك في كريت، ولكنه لم يكن إنسانياً بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة؛ ذلك لأن فناني مصر وبابل وآشور وكريت أنصرف اهتمامهم نحو تصوير عبادة الآلهة وتصوير الحروبوالحياة البيتية والزراعية، أما الصور الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان كما قلت، فإنها لم تأت فيما ذكرت إلا رموزاً متواضعاً عليها خالية مما يثير الشعور، بل إنها كانت خالية مما يبعث في النفس حب الجمال أو ما يسمو بالمشاهد فوق المستوى العادي.

عرف الإغريق آثار الفن الأولى، ولكنهم أبوا أن يجتذبهم ما أجتذب الفينيقيين والإنرسكانيين الذين اقتصروا على تقاليدها والنسج على منوالها. ذلك لأنه قد قامت في نفوس الإغريق عقيدة هي في طبيعتها أقرب إلى الوجدان منها إلى العقل وهي استحداث فن إنساني كامل!!.

وللبيئة الطبيعية والأجتماعية آثار ظاهرة في نهضة الإغريقي، وسواحلهم الممتدة وكذلك مرافئهم ونهضتهم التجارية، كل هذا مما زاد في جدهم لا سيما في منطقة الشواطئ الشرقية حيث كانت فينيقية ومصر وغيرها من الشعوب الشرقية ذات المدنية واقعة بالقرب منهم.

وهكذا كانت طبيعة البلاد وأحوال الأجتماع مما مهد السبيل إلى إيقاظ الفكر الإغريقي النابت في أرض أوربية ذات جو (شرقي) معتدل.

هذا بيان لم يكن منه بد - وفي اعتقادي أن مرسل الخطاب لم يستمع الراديو إلى حديث حضرة الأستاذ الكبير شفيق غربال بك في معرض الكلام عن الكتب الأوربية الحديثة، فلو أنه أستمع إليه عندما أشاد بذكر الإغريقوالعقلية الإغريقيةوفضلها الدائم على العمل البشري لما وجه اليّ خطابه.

والآن أقول إن مصانع الفخار في أثينا انتهت فجأة عقبة الحروب الفارسية التي ألهبت العقل الإغريقي وأيقضت أحاسيسه الدفينة مما عاد على الفن الإغريقي بالخير العميم!

وإذن لم يكن غلق مصانع الفخار في أثينا نتيجة لاستحالة تصدير المشكاوات إلى وسط - يتبادر إلى الذهن، بل نتيجة لأتجاه المصور إلى المساحات الفسيحة على الحيطان بدل المساحات المحدودة على الزهريات، فعلى حيطان المعابد الأثينية وردهات المباني العامة صورت المناظر العظيمة (سيكون للتصوير الإغريقي بحث خاص) وأخذ موضوع الإنشاء الفني يظهر كامى في الأفق، والأنسجام بين أجزاء القصة الواحدة متوافراً.

ولكن هذا - مع الاعتراف بأثره الانقلابي العظيم - لم يكن قضاء مبرماً على فن المشكاوات، ولكنه قضى على مبدأ تسجيل أسماء الفنانين عليها كما لو كان الفنان يترفع عن كتابة أسمه على مساحة بسيطة محدودة بالقياس إلى الصور الحائطية الهائلة.

والذي يهمنا على وجه التخصيص أنه قد نشأ عن انتشار التصوير الحائطي الاقتصار في صور المشكاوات على المناظر العاطفية الحية، فترى ما يسجل الوداع بين حبيبين أو لقاء بين عاشقين أو ممرضة تضمد جراح محارب تحنو عليه، وغير هذه وما يمت اليها بصلة، هذا إلى جانب تصوير الورود والأزاهير والفاكهة.

أما إذا سجل الفنان مناظر قصصية فإنه يقتطف أحد مواقفها ويكتفي به للتسجيل، فظهرت المصورات بسيطة الموضوع ظاهرة الغاية على نقيض المراحل الأولى، وطبيعي أنه كلما كانت الفكرة محدودة وكان المعنى ظاهراً؛ كلما أمكن الحكم على مقدرة الفنان وتقدير مدى نجاحه، لأن المساحة وإن تكن محدودة إلا أنها تسمح عندئذ بإظهار قوة الفنان من خلال رقة الخطوط التحديدية وقوة تعبيرها فضلا عن بيان الأجسام في مرتبة من الإتقان تفصح عن رشاقتها وقوة تأثيرها على المشاهد المتأمل.

واستخدم في هذه المرحلة لون الذهب واللون الأزرق والأبيض، وخصصت لأجزاء معينة من صور الجسم الإنساني على الزهريات الصغيرة التي كانت تستعمل في تجميل الحجرات.

ولم يبق من نماذج المشكاوات الملونة شيئاً حفظ مستواه الفني حتى القرن الرابع ق. م إلا النوع المسمى وهي التي كانت توضع في الجبايات والى جانب المقابر.

ومنذ منتصف القرن الرابع وبعده بقليل أخذت زهريات أتيكا تختفي، وحلت محلها مشكاوات جلبتها أثينا بغية تصديرها إلى الخارج لا سيما إلى الجزء الجنوبي الغربي من روسيا، وأهم المدن مثل ياستوم وأبوليا وكانوزا وكايو , , , وقد تشابه الإنتاج الفني للزهريات التي عملت بهذه المدن مع نظائره التي عملت في اتيكا - ولكن هناك فوارق فنية جديرة بالتنويه، إلا وهي خشونة الطين المعمولة منه، وظهور المصورات ضعيفة الخطوط مع الإكثار من الزخرفة لتغطية الضعف، مثلها في ذلك مثل المغني الذي يلتزم الاختفاء بصوته وسط الدربكة الموسيقية! وظهرت الزخارف الخطية والخيالية التي تذكرنا بالمشكاوات المبكرة، على حين ظلت الأتيكية على جانب كبير من الذوق الفني، ولعل زهريات أبوليا كانت أبدع ما نذكره، فمن بينها ما لا يزال مشهوراً بجماله وحسن تكوينه وطول عنقه في انثناء كعنق البجع.

ومهما يكن من شيء فإنه لم ينته القرن الثالث الميلادي إلا وكانت الآثار الباقية من هذا الفن ضئيلة، وحلت محلها الزهريات المعدنية، وعليها رسومات بارزة ذات بريق ولمعان، انتقلت إلى بلاد الرومان وظلت فيها حتى اندثار دولتهم.

وتباهى روما ونابولي وفلورنسا مدائن باريس ولندن وبرلين وميونيخ وكارلزروه وفينا وكبنهاجن وبطرسبرج بمجموعتها الفريدة التي تكون سلسلة متصلة الحلقات لمن يريد مواصلة الدرس.

أحمد موسى