مجلة الرسالة/العدد 797/حب المنطق
→ رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر | مجلة الرسالة - العدد 797 حب المنطق [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 11 - 10 - 1948 |
للأستاذ ثروت أباظه
صاحبي شاب تواتيه الحياة بأبهى ما يرجو شاب من الحياة. مال وافر، وسمت جميل. وهو بعد ذو روح فنانة عذبة. لم تمل به كل هذه المقومات إلى ما ينزلق إليه الشباب، بل كان منذ مطلع شبابه كبيراً على اللهو، يرى فيه طفولة غير جديرة به. وما زال كذلك حتى بلغ سنا يفاخر فيها الشباب بآثامهم؛ فكان يجلس إلى أترابه، يقص كل منهم عليه ما أرتكب في زهو. بل كان منهم من يخلق لنفسه جرائم كان يعلم صاحبي أن محدثه براء منها. ولكنه كان يسعده بتصديقها فيسعد. ثم يقبل هؤلاء الأتراب على صاحبهم يسألونه ما فعل وما يفعل، ظانين أنه سيقص عليهم ما يعجزون هم منه. . . وهو ذو السمت الجميل والمال الوافر. وكم تفيد هاتان الخلتان إذا شاء صاحبهما منهما إفادة! ولكن صاحبي كان دائماً يخيب ظنهم، ويعلمهم أن أمره غير أمرهم، فيعتقدون أنه كاذب في ادعائه، ويظن بعضهم أنه شديد الدرجة والمران. ومن تمام المران ألا يخبرهم بما فعل. ويحاول بعضهم أن يظن بصاحبي سذاجة؛ ولكن سرعان ما يرده عن تفكيره بديهة فيه متوثبة، وسخرية لاذعة كان يقابل بها كل من يحاول من أمره عبثاً.
كنت وحدي أعلم السر في ذلك، وما كان لي أن أدعي بهذا معرفة لولا أنني عرفت الصديق طفلا حين كنت أنا طفلاً، ثم درج ودرجت معه متلازمين لا نفترق إلا الفترة الوجيزة، فهو في غير حاجة إلى أن يطلعني على سر استقامته. لقد نشأ الطفل في بيئة تجعل من الطفل صبياً، ومن الصبي شاباً، ومن الشاب كهلا. فتراه في طفولته يجلس إلى قوم يكبرونه في السن. ولم تكن الطبيعة قد هيأت له إذ ذاك أن ينظر نظرة منحرفة. . فإذا مال بهم الحديث رأى في كلامهم وجهاً غير الذي يجرونه عليه حتى إذا كبر قليلاً وفهم ما كان يقال على وجهه، كان رفاق ندوته قد ملوا هذا الحديث وشبوا عنه، فسار معهم حايسا كلاما، كابتاً شعوراً. . . لا يفضي إذا أفضى إلا لنفسه.
هكذا كانت الحياة ترتفع به عن مكان سنه؛ وهكذا اضطرته أن يرتفع عما يفعله أترابه. فكان في شبابه كهلا واسع الأفق، يجيد كلام الرجال، ويحس ما يحسنون. ولكن أمراً واحداً كان يحيرني فيه. . . قد يستطيع الشاب أن يستقيم فلا يلتوي به الطريق، ولكن هل يطي قلبه هذا الخمود؟ ألم يحب؟ ألم يجمح؟ إن صديقي على استقامته واقعي يفهم الحياة كما هي، ولا يحب أن يخدع نفسه عن نفسه. فهو يعلم أن لا حياة له إذا لم تقم بينه وبين الجنس الآخر صلة.
أقبل علي ذات يوم ضاحكاً كعادته، وكنت أفكر في أمره فسألته في مجابهة.
- ألم تحب؟
فأربد منه ما كان ضاحكاً، وغامت عيناه، وأطرق يخفي ما ألم به، ثم تماسك قليلا ورفع إليّ وجهاً باهتاً وقال:
- حتىأنت تسألني؟ ومن أحب؟ النساء يا أخي نوعان. . . شريفة أرهب مفاتحها بحبي، وساقطة أرغب عن حبها الميسور لأنني أخشى.
- وهل يعرف الحب هذه الحدود؟ أو لك علىقلبك كل هذا السلطان؟
- إسمع. . . أنا أعلم الناس بنفسي. . . إنني شاب تخطيت سن البدء في اللهو، وأعرف في قلبي رقة وإجدابا، وهذان أمران إن وجدا في قلب وأحب، فهو بين أمرين: إما أن ينتهي بصاحبه إلى السعادة كل السعادة، أو إلى موت لا قيامة له منه. فإذا أحببت من لا أعرف وأثق أنها تحبني - معتمداً على نظرة أو بسمة يثبت لي بعدها أنها قد منحت عن غير قصد - فأنا إلى فناء. فتراني أمنع قلبي كلما أوشك أن يبدأ. . . أمنعه بإرادة تظن أنت أنها قوية، وهي في الواقع مع القلب خائرة. . . لأن كل ما تفعله هو أن تمنع هذا الحب قبل أن يبدأ. . . أما إذا بدأ، فلا إرادتي ولا منطقي بمستطيعين له ردا. . . إنني إذا أحببت فسأحب بقلبي وإرادتي ومنطقي جميعاً. . ولن يكون هذا حتى أسألها وحتى تجيب.
- وأين لك مثل هذا ما دمت ترهب الشريفة وتنفر عن الساقطة؟
- أنا لا أحتم الإجابة الصريحة.
- أنا الآن أسألك كيف تستطيع أن تسأل، لا كيف تجيب هي.
- إن اعتمادي يا صاحبي على الظروف.
- إنني لم أر في حياتي رجلا يحكم منطقه في قلبه كل هذا التحكم. . . ويرجو بعد هذا أن يحب. . . إن الحب يا صديقي قلب يتأجج وتتضرم به النار. . . لا يعرف العقل ولا يسأله، ولا يطيق العقل أن يقحم نفسه في أمر لم يخلق له. . . الحب يا صديقي هو السعادة. . . شقاؤه سعادة، والحرمان فيه سعادة. . والوصل فيه سعادة. . والهجر فيه سعادة. . الحب. . .
- كفى كفى. أمحاضرة هي؟ أنت تعلم مقدرتي على رواية الشعر. إنك في كل قولك هذا لم تأت بجديد. . . كل هذا كلام قرأناه وحفظناه حتى مللناه. . إنني شخصياً أحب الحب. . ولكني حتى الآن لم أجد من أحول إليها عاطفتي، وأخشى أن تنحرف العاطفة فتنحرف معها حياتي أجمع. . وثق أنني يوم أحب سوف يكون حبي أعمق من كل حب قرأت عنه أو سمعت به، لأنني سوف أحب يوم ذاك بمنطقي كله، وقلبي كله، ولا أظن واحداً ممن خلد الحب أسمهم قد حكم المنطق في حبه؛ ولذا ترى معظمهم قد فجعوا في حياتهم، وأنتهى بهم الحب إلى ما لم يريدوا لأنفسهم، ولم يخطر بمنطقهم يوم بدأ القلب يقوم بمهمته. وثق أنهم لو فكروا كما أفكر، لكان الحب لهم نعيما كما سيكون لي إذا شاء الله. . . أقسم أنك لم تفهم شيئاً مما قلت، لأنك لا تحاول ذلك. . . قم الآن فانثر ما قلت أو انظمه على من يطيب لك أن يسمعه. أما أنا فغنى عنه. . . هيا.
- حسبك حسبك. . تزعم أن حبك سيكون أقوى حب في التاريخ. . لقد والله انتهزت فرصة صداقتي وأسمعتني هذرا لا يسمع لك به إلا مجنون مثلك.
- ألم أقل إنك لم تفهم ما أقصد إليه. لم يكذب ظني بك.
ومرت على هذا الحديث فترة لم ألقه فيها، عاد بعدها تنضر وجهه ابتسامة لم أرها من قبل.
- ماذا؟ أحدثت المعجزة؟
فلم يزد على قوله.
- نعم.
- كيف؟ ومتى؟ وماذا قلت؟ وماذا قيل لك؟ وماذا تم؟ وماذا تنوي أن تفعله؟ وماذا تحس؟ أجب أجب.
- لا جواب. . كل هذا مضى، ولا شأن لك به. ولكن أعلم أن للعقل كما للقلب عاطفة، وإن العقل بهذه الآصرة يتحكم في القلب، وإن الحب الصحيح هو حب القلب والمنطق جميعاً.
- والله لن أصدق حتى أجرب أو تقص.
- أما أن أقص فلست بذاك وأنت تعلم. وأما أن تجرب فهاأنذا أدعو الله أن يهيئ لك هذا الحب. . حب القلب، وحب المنطق.
ثروت أباظه.