الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 797/الفتوة عند الصوفيين

مجلة الرسالة/العدد 797/الفتوة عند الصوفيين

مجلة الرسالة - العدد 797
الفتوة عند الصوفيين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 10 - 1948


للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

(مهداة إلى الأستاذ ضياء الدخيلي، لمناسبة ما كتبه من أبحاث قيمة عن الفتوة في الإسلام وفي كتب اللغة والأدب وحياة الفتيان في الجاهلية والاسلام؛ أوحت إلى كتابة هذا المقال) ع. ع

الفتوة: فعولة من لفظ فتى، كالإنسانية من الإنسان والمروءة من المرء، والفتى هو الشاب حدث السن، قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام (ودخل معه السجن (فتيان) - وقال (لفتيانه)) وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام إنهم (قالوا سمعنا (فتى) يذكرهم يقال له إبراهيم) وقال عن أهل الكهف (إنهم (فتية) آمنوا بربهم) من هذا نرى أن الفتى أسم لا يشعر بمدح أو ذم كالشاب والحدث.

وللصوفيين رأيهم في الفتوة كما لغيرهم من اللغويين والأدباء والشعراء آراؤهم، وكل يستعملها حسب هواه، ويلبسها الثوب الذي يعجبه ويهواه، فهم يستعملونها فيما يوافق تعاليمهم ويساير مذاهبهم، في معاملة العبد لنفسه وصلته بغيره من الناس وصلته بخالقه جل شأنه، وقد اصطلحوا على أنها منزلة من منازل الإحسان إلى الخلق، وكف الأذى عن الغير، والصير على ما يصدر منهم من أذى وسوء فعل، وأنها الطريق الموصل إلى الذات العلية والحضرة الربانية، وأنها نوع من أنواع المروءة: والمروءة ترك العبد ما يشين أخلاقه أو يعود بالضرر على سواه، والتحلي بمحاسن الأخلاق وحميد الصفات وكريم السجايا. فالفتوة عندهم كما قال قائلهم (الفتوة أن يكون المرء أيدا في أمر غيره) وهم يجعلونها منازل ودرجات كالأكثرية من تعاليمهم، فهي عندهم ثلاث منازل أو ثلاث درجات.

المنزلة الأولى، وتخص معاملة المرء لنفسه دون غيرها، فيلزم من يتجلى بصفة الفتوة، أن يترك الخصومة فلا يخاصم أحداً من عباد الله، ولا يجعل نفسه خصماً لأحد سواها، فهي خصمه الذي يجب عليه أن يخصمه بالمخاصمة ويقف منه موقف الحذر والترقب ولا يجعل لها سلطاناً عليه ولا يتبع هواها، لينجو من سوء ما تأمر به وعاقبه ما تسول له. وفي ذلك قال بعضهم: (الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك، وأن لا تتخذ لك عدواً سواها). وقال الشبلي: (الفتوة أن لا تكون خصماً لأحد سوى نفسك والشيطان).

والفتى لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه - كما يفعل البعض الآن وما عليه الغالبية العظمى اليوم - ألسنتهم رطاب، وبطائنهم أكباد صوادي - ولا يخطرها بباله وإن خاصم أو حاكم، فيجب أن يكون خصامه أو تحاكمه في الله والى الله، وله في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؛ فقد كان يقول في دعاء الاستفتاح: (وبك خاصمت، واليك حاكمت).

- وأن يتغاضى عن هفوات غيره، ويتغافل عن زلاتهم. وإذا رأى من أحدهم هفوة، او أخذ عليه زلة توجب الأخذ بها، أظهر أنه لم يلحظ منه شيئاً حتى لا يعرضه للوحشة والخجل، ليفيه من تحمل مشقة العذر.

حكى أبو عثمان الدقاق رحمه الله قال: إن امرأة أتت حاتما فسألته عن مسألة، وفي أثناء وجودها خرج منها صوت، فظهر الخجل عليها وبان في وجهها، فلما رأى ذلك منها قال لها ارفعي صوتك، ليوهمها أنه أصم لم يسمع ما تقول، فسرت المرأة وسرى ذلك عنها وقالت إنه لم يسمع الصوت، فلقبوه من ذلك الوقت بحاتم الأصم.

وحكى غيره أن رجلا بني بامرأة، فلما دخل بها رأى بها الجدري فقال، اشتكيت عيني، وتصنعت العمى، وبعد عشرين سنة ماتت زوجه ولم تعلم أنه بصير، فقيل له لم فعلت ذلك؟ قال كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها، فقيل له: سبقت الفتيان.

- وأن ينسى إيذاء الناس له، ويجاهد نفسه في نيسان ما ناله من الضرر وينظر إلى من ناله بأذى نظر الصديق المتسامح واسع الصدر كريم النفس، إلى صديق له زل أو هفا، حتى لا يستوحش الناس وينفروا منه. قال عمر بن عثمان: (الفتوة حسن الخلق) وقال الجنيد: (الفتوة كف الأذى وبذل الندى).

ولا يبلغ درجة الفتيان ويدخل في زمرتهم من نسى إساءة الناس له وتغاضى عن هفواتهم، إلا إذا نسى كذلك إحسانه إلى من أحسن إليه وأسدى إليه معروفاً حتى يعتقد أنه لم يحسن إليه ولم يصدر منه ما يستوجب الشكر، لأن ما أحسن به هو عند الله. فالواجب أن يشكر هذا المحسن إليه لأنه جعله يشكر الله الذي وهبه هذه النعم وأفاض عليه من خيرة وبره. وهذا النوع من النسيان أعظم درجة وأرفع منزلة من السابق، وفيه قال بعضهم: ينسى صناعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا

المنزلة الثانية هي منزلة الإحسان إلى الغير، وهي أعلى مرتبة من الأولى، لأنها تلزم المتحلي بها أن يقرب من أقصاه عن مجلسه وطرده من حضرته، وأن يحسن إلى من أساء إليه ويكرم من أهانه ويعتذر إلى من أعتدى عليه، ولا يتصف صاحب هذه الفعال بصفة الفتوة إلا إذا كانت فعالة هذه عن تواد وسماحة لا عن مصابرة وكظم، وعن قوة وقدرة لا عن جبن وضعف، وفضلوا هذه المنزلة علىسابقتها، لأنها تتضمن التغلب على عدوين، النفس ومقابلة الشيء بضده، فيكون خلق الفتى الإحسان والعفو، وخلق غيره الإساءة والإيذاء، وفي هذا قال قائلهم.

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

حكي أن رجلاً من حجاج بيت الله ذهب لزيارة القبر الشريف ونام في المدينة ففقد مالا له، فلما صحا من نومه فزع لضياعه، ووجد جعفر بن محمد قريباً منه فعلق به وقال به: أخذت مالي! فقال: كم هو؟ قال: ألف دينار. فأخذه جعفر حتى أدخله داره ووزن له قدر ماله. ثم إن الرجل عثر على ماله، فعاد إلى جعفر يرد له المال ويعتذر عما صدر منه، فأبى جعفر أن يقبله منه، وقال: من هذا؟ فأخبره أنه جعفر بن محمد رضى الله عنه فقال: إنه خير الفتيان. ثم قيل لجعفر: كيف تعتذر لمن جنى عليك، وتحسن إلى من أساء إليك، ولم يصدر منك ما يوجب الاعتذار. ألم يكن كافياً أنك لم تؤاخذه؟ ألست باعتذارك إليه أنزلت نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر. فقال لهم: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).

فهو يعزو ما أصابه إلى ذنب منه وأن هذا هو الانتقام الإلهي الذي يجب أن يناله كل مذنب. ومن كانت هذه حاله فهو بالاعتذار أولي وأحق اليّ من جني عليه، وشكره والإحسان اليه. فمن كانت هذه حالة مع من أساء إليه عفا عنه وأحسن إليه مع ضعفه وفقره وحاجته إلى سواه، فبأعظم من هذا يكافئه الفتى الذي وسع ملكه السموات والارض وشمل إحسانه المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فيعفو عن إساءته كما عفا عن إساءة عبده، فالجزاء من جنس العمل.

وقال أبن عياض رحمه الله (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان) وقال غيره (من أحوج عدوه الى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة) ومعنى هذا القول أن من أساء إليك ونالك ضرره، إذا علم أنك متألم مما وقع منه، أحتاج إلى أن يتقدم إليك معتذراً، أو يلجأ إلى شفيع يشفع له عندك ليزيل ما في قلبك من كدر، ويغسل ما علق به من زعل. فالفتوة كل الفتوة أن لا تظهر له العتب. ولا تغير ما كان منك له قبل الذي صدر منه، ولا تحول عنه وجهك حتى لا تحوجه إلى طلب الصفح والشفاعة؛ وأن لم تفعل ذلك وتخجل من قيامه بين يديك مقام الذلة والاعتذار لم يكن لك من الفتوة أوفي نصيب.

فالفتى الحق من تغاضى عن عثرة غيره ولم يأخذه بذنب أتاه أو جرم أقترفه، بل يجب أن يكون معه سمحا كريما يعامله معاملة صادرة عن سماحة خلق وطيبة نفس وانشراح صدر، ولا عن ضيق وكظم غيظ ومصايرة، لأن هذا يعتبر تكلفاً وتصنيعاً يوشك أن يزول وتبدو الأخلاق واضحة، وتظهر الصفات جلية فيفتضح أمره بين الناس، فإن التخلق يأتي دونه الخلق.

والمقصود من هذا أن يصلح الفتى باطنه كما يجمل ظاهره، وأن ينفي نفسه من الشوائب كما ينظف ثوبه من الأقذار. كان بعض أصحاب شيخ الإسلام أبن تيمية رضى الله عنه يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، ما رأيته يحمل حقداً لأحد منهم قط، وما سمعته يدعو على أحدهم، بل كان يدعو لهم ويطلب لهم من الله العفو والغفران. ثم قال: جئته يوماً أبشره بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأكثرهم إيذاء له، فنهرني وتنكر لي وأشاح عني واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت الميت فعزى أهله وقال لهم: أنا لكم مكانة، لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة أو عون إلا ساعدتكم فيه وعاونتكم عليه، ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له وأعظموا هذه الحال منه. ولما سمع أحد المتصوفين بخبر هذه الواقعة قال: (خير الفتيان من كانت له في هذا أسوة وبه قدوة).

(للكلام بقية)

عبد الموجود عبد الحافظ