الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 794/الشعر بين الوثنية والإيمان

مجلة الرسالة/العدد 794/الشعر بين الوثنية والإيمان

بتاريخ: 20 - 09 - 1948


للأستاذ عطية الشيخ

لاحظ نقاد الأدب العربي من قبل خمود الروح الشاعري بين العرب إثر ظهور الإسلام، وإن الضعف الذي طرأ على الشعر لا يقتصر على الشعراء الذين ظهروا إبان عصر النبوة والخلفاء الراشدين فحسب، بل أدرك الشعراء المخضرمين أنفسهم، فسكت أكثرهم وضعف قويهم.

واتخذ هؤلاء النقاد من الموازنة بين شعر لبيد وحسان في الجاهلية والإسلام برهاناً على صدق دعواهم، وعللوا ذلك بأسباب شتى منها: انبهار شعراء الجاهلية ببلاغة القرآن الذي أفحمتهم فصاحته، ومنها تغير الموضوعات التي اعتادوا النظم فيها بعد أن أصبحت منكرات يحرمها الإسلام: كالفخر بالنسب، وتمجيد العصبية، والحض على الثأر. . . الخ، ومنها اشتغال العرب بالحروب ضد الإسلام أولا، ولنشر سلطانه في الآفاق بعد أن آمنوا به ثانياً؛ ومنها أن الشعراء المخضرمين أدركوا الإسلام في شيخوختهم فشاخ شعرهم وخبت أرواحهم، كما شابت وضعفت جسومهم؛ ومنها أن القرآن العظيم نال من قدر الشعر والشعراء في مثل قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. . . الآيات)، إلى غير ذلك من العلل المعروفة لطلاب الأدب.

وعندي أن هذه الأسباب مع وجاهتها إنما هى أعراض لعلة كبرى، وأن ما لاحظه نقاد الأدب العربي لا ينحصر في عصر صدر الإسلام وحده، ولا في شعراء العربية فحسب، وإنما هو حالة عالمية للشعر والشعراء في كل زمان ومكان، خلاصتها أن الوثنية والزندقة والإباحية من عوامل نمو الشعر، وأن الإيمان والاستقامة والفضيلة من عوامل ضعفه، وأن البيئات الوثنية أخصب للشعر من بيئة الإسلام والإيمان بمعناهما الأعم، وبذلك تستطيع أن تعلل فحولة الشعراء الوثنيين في الهند عن الشعراء المسلمين هناك مع اتحادهم في البيئة والجنس؛ وخلو أوربا في العصور الوسطى أيام تغلب سلطة الكنيسة من شعراء مجيدين كهوميروس قبل المسيحية وكهيجو وجوته بعد عهد الإحياء، وتغلب روح الشك وضعف الكنيسة، وعدم ظهور شاعر يهودي يؤبه له لعراقة هذا الشعب في الإيمان بتعاليم دينه، وجمال شعر الأندلس وقوة خياله في عصر ملوك الطوائف بعد ضعف الشعور الد وشيوع التحلل والإباحية، وظهور شعراء مجيدين في لغة الضاد بعد غزو الآداب والعقائد والعلوم والجيوش الأوربية للبلاد غزواً زعزع الإيمان بالقديم، وضعف الشعر العربي في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وقوته قبل ذلك العصر في الجاهلية، وبعده في أيام الأمويين والعباسيين عندما ضعف الوازع الديني ودخل في حمى الدولة الإٍسلامية كثير من الشعوب الأعجمية، وأشاعوا في العرب عاداتهم وعقائدهم وتقاليدهم وأمراضهم الاجتماعية؛ وعدم ظهور الشعراء الكبار في روسيا السوفيتية لإيمان الروس العميق بمبادئ الشيوعية واتخاذهم منها ديناً هم أحباره وحواريه؛ ويمكن تعليل ذلك بأسباب منها:

1 - الشعر فن جميل يتأثر بالعاطفة وينبع منها، ويؤثر فيها، ويقف عندها؛ والإيمان مرتبة تتجاوز العاطفة إلى الفكر والإرادة، وهو نوع من المعرفة والتفكير محصور في نطاق العقيدة والناموس، ومتى تحكم العقل وأحيط بالفكر وقويت الإرادة وأخلد القلب إلى يقين العقيدة، فلا مجال لخيال ولا جموح لعاطفة، والجب جميعه موجه للمعبود المعلوم المجهول. . . ولذلك تزدهر الفنون الجميلة كلها - لا الشعر وحده - في الوثنيات أكثر من ازدهارها في ظلال الإيمان واليقين، وكنف الإسلام والتوحيد، فالنحت والتصوير والغناء والموسيقى والتمثيل والأناشيد أسس وأصول للديانات الوثنية وطقوسها، وليس الأمر كذلك في الإسلام واليهودية والنصرانية، وإذا رأيت في هذه الأديان شيئاً من ذلك، فهو أثر من آثار الوثنيات السابقة للأمم التي اعتنقت هذه الأديان.

2 - يعلم الشادون في الأدب أن الاشتغال بالعلم والفلسفة يضعف الشاعرية، وأن شعر الفقهاء والفلاسفة والعلماء خال من الجمال الفني، يكاد يفوح منه ثقل الفقه، وجفاف العلم، وتعقيد الفلسفة، ذلك لأن الإنسان يعسر عليه أن يعيش في حياتين فكريتين مختلفتين: إحداهما يسودها التفكير المنطقي، وأخراهما يسيرها الوجدان والعاطفة، ولأن ألفاظ أية لغة من اللغات قسمان قسم محدود المعنى محصورة، وقسم يشتمل بجانب معناه الأساسي على معان فرعية يثيرها في النفس جرس حروفه، أو لفظ آخر متعاقب معه فيها، أو أصل المادة التي اشتق منها هذا اللفظ، أو دلالته على معنيين، فيراد أحدهما أصلا، ويبقى الآخر فرعاً.

والأصل في الأسلوب العلمي أن يستعمل الألفاظ المحدودة المعاني، كما أن الأصل في الأسلوب الأدبي أن يستعمل الألفاظ ذات المعاني الفرعية، وقد أشار علماء اللغة إلى المعاني الفرعية حينما ذكروا أنه لا يوجد في المترادفات لفظان متحدي المعنى تماماً وإنما تكون بلاغة الشاعر في تجنب الألفاظ المحدودة الصلدة القاحلة، وتتبع الألفاظ ذات الظلال التي تضم إلى أصل معناها فروعاً وأغصاناً وأوراقاً وأزهاراً تكسب الشعر حياة وجمالاً وحركة وتصبغ عليه السمو، وقد لاحظ ذلك قديماً بعض أدباء الأندلس، وإن كان لم يعلل السبب ولم يزد عن ملاحظة أن بين الحروف أنساباً وقرابات تجعل لفظاً في الشعر أجمل من لفظ آخر متحد معه في معناه، ومثل لذلك بكلمة (خفاتا) في قول الشاعر:

لعمرك إني يوم بانوا - فلم أمت ... خفاتا على آثارهم - لصبور فذكر أن كلمة (خفاتا) لها

من الجمال الفني، ما لا تصلح له كلمة (سريعاً).

3 - ذكر علماء النفس أن النمو في أية ناحية من نواحي العقل الثلاث (الفكر والإرادة والعاطفة) يضعف الناحيتين الأخريين، بمعنى أن التفكير الكثير يضعف العاطفة والإرادة، وضربوا لذلك مثلا: الفيلسوف الذي حضر في أخريات أيامه حفلة موسيقية فلم يفقه لها معنى، ولم تتحرك مشاعره، ولم تتأثر بها عواطفه، فنذر أن لو عادت حياته كرة أخرى لخصص جزءاً من وقته لممارسة الفنون الجميلة، كما ذكروا أن الإرادة تضعف العاطفة، واستنبطوا أن قواد الجيوش لا شفقة عندهم، وأن المرأة تطغى عاطفتها على التفكير فيكون ضعيفاً فيها.

والإيمان فلسفة يقينية معها شك، ولا ينبت في مرعاها مستحيل، ولها منطق خاص يسيطر على ملكات النفس وقواها، فلا يبقى لغيره مجال، ولا يزحمه شعر ولا فن إلا ما يتصل بمنطق العقيدة ويوائمه، ويكون إذ ذاك شعراً محلياً لا يسيغه إلا من شارك الشاعر في عقيدته فيفقد الجمال العبقري للفنون الجميلة الذي يجعلها لغة عامة مفهومة للناس كافة، إذ لا يخفى أن النفوس البشرية تتحد في إدراك الجمال الرائع، بحيث ترى أن التماثيل والقصائد والتصاوير والمقطوعات الموسيقية العالية مقدرة عند جميع الشعوب، محترمة في كافة الأقطار والأعصار.

ومثال الشعر المحلي الجمال قصائد البوصيري في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، فهي عند المسلمين من أروع الشعر، مع أن غيرهم لا يحس لها بجمال.

4 - من شأن الإيمان غرس الطمأنينة والرضا في النفوس فترويض العواطف الجنسية الجامحة، ومطاردة ما يساور النفس من وساوس وألم وحيرة، وإنما ينبع الشعر من الحب والألم، وما أحفل حياة الوثنيين والزنادقة بألم منبعه الحيرة، والفوارق بين الطبقات والتقاليد البالية التي لا يقبلها الأديب إذا قبلها البليد، وما أكثر دواعي الحب والهيام في حياة زمامها بيد العاطفة والوجدان، ولا قيود لها من فكر أو شريعة، ولا مجال للذة عندها إلا في الحياة الدنيا، ولا أمل لها في آخره، فراحت تستوفي حظها من النعيم، وتستمتع ما وسعها الاستمتاع بما في الدنيا من جمال وبهاء، منشدة قول الشاعر:

تمتع من شميم غرار نجد ... فما بعد العشية من غرار

أما المؤمن، فقد اشترى أخرته بدنياه، وجعل حياته الأولى مجازاً لحياته الثانية، ورأى في جمال الدنيا مفاتن يستدرج بها الشيطان الغاوين إلى مهاوي الجحيم، وهو مطمئن إلى السعادة في الأخرى إن فقد السعادة في الدنيا. وقد لاحظ هيرودوت من قبل عدم نبوغ الشعراء في مصر لخلو بيئتهم من الحب والألم.

5 - أضف إلى ذلك أن الوثنيات إذ كانت لا تؤمن إلا بمتاع الدنيا، فتحت الباب على مصراعيه للاستمتاع بها، وتركت للإنسان إشباع شهواته منها، واستعانت على التمكن من القلوب بالتأثير على العاطفة، إذ كانت عاجزة عن البقاء باستعمال الفكر والمنطق، فأصبحت تربة خصبة لنمو الفنون الجميلة التي منها الشعر.

أما أديان التوحيد، فقد استعانت في انتشارها بالدليل والبرهان إذا كانت قادرة على ذلك، بل إن روح الإسلام يدعو إلى النظر والتفكير ويجافي الفنون الجميلة كلها من شعر وتصوير وتمثيل وغناء وموسيقى ونحت، وكان أتقياء المسلمين ينظرون إلى محترفيها نظرة استنكار قد تصل إلى المقاومة والمحاربة.

6 - معلوم أن العواطف تنشأ في الفرد قبل نشوء الفكر، وأن عبادة آلهة متعددة تنشأ قبل عقيدة التوحيد، وأن الإنسان كلما تقدم خرج من حكم العاطفة إلى حكم الفكر، ومن عبادة الآلهة الكثيرة إلى عبادة الإله الواحد؛ ومثل ذلك تماماً في الأمم إذ يسبق عصرها الوثني عصر التوحيد فيكون مسايراً للعاطفة لا للفكر، حتى تصل الأمة إلى طور التفكير والإيمان، ولهذا يكون العهد الوثني معاصراً العهد العاطفي في الأمم، ولهذا أيضاً تجد شعر الشاعر الواحد في شبابه - أيام تأجج العاطفة - أقوى من شعره في شيخوخته عندما ينضج تفكيره.

عطية الشيخ