مجلة الرسالة/العدد 794/غناء الطيور بين العلم والأدب
→ طاغور وغاندي بين الشرق والغرب | مجلة الرسالة - العدد 794 غناء الطيور بين العلم والأدب [[مؤلف:|]] |
الشعر بين الوثنية والإيمان ← |
بتاريخ: 20 - 09 - 1948 |
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية المنشور في العدد الماضي)
وظن بعض الشعراء غناء الحمامة نوحاً لفقد إلفها الذي فارقها فأخذ يطارحها الزفرات ويواسيها بنواحه قال الشبلي.
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفاً وعيشاً سالفا ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أنى بالجوى أعرفها ... وهى أيضاً بالجوى تعرفني
أترها بالبكا مولعة ... أم سقاها البين ما جرعني
وقال ابن عبد ربه.
فكيف ولى إذا هبت الصبا ... أهاب بشوق في الضلوع دفين
ويهتاج منه كل ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين
وقال ابن سنان الخفاجي.
وهاتفة في ألبان تملى غرامها ... علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويشجى قلوب العاشقين حنينها ... وما فهموا مما تغنت به حرفا
ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضبت كفا
وقال مجنون ليلى.
ألا يا حمامات اللوى عدن ... عودة فإني إلى أصواتكن حزين
فعدت فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأشجاني لهن أبين
فلم تر عيني مثلهن بواكياً ... بكين ولم تذرف له وقال ابن عبد ربه.
ونائح في غصون الأيك أرقني ... وما عنيت بشيء ظل يعنيه
مطوق بخضاب ما يزايله ... حتى تزايله إحدى تراقيه
قد بات يشكو بشجو ما دريت به ... وبت أشكو بشجو ليس يدريه
وقال شيباني وقد طالت غربته في الرأي.
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفراخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك الفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شئ فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكى والفؤاد جريح
وقال ديك الجن.
حمائم ورق في حمى ورق خضر ... لها مقل تجرى الدموع ولا تجرى
تكلفن إسعاد الغريبة أن بكت ... وإن كن لا يدرين كيف جوى الصدر
وقال ابن دريد خرجنا من عمان في سفر لنا فنزلنا في أصل نخلة فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها فقلت.
أقول لورقا وين في فرع نخلة ... وقد طفل الأمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتى لتلك جناحها ... ومال على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة ... ومادب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلى قطع الشوق قلبه ... على أنه يحكى قساوته الصخر
وقال عبد البر الغساني يخاطب طائراً مغرداً ضم أفراخه إليه.
أعدهن ألحاناً على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما
مخلى وأفراخا بوكرك نوماً ... ألا ليت أفراخي معي كن نوما
وقال حميد بن ثور الهلالي.
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت (ساق حر) نزهة وترنما
تغنت على غصني عشاء فلم تدع ... لنائحة من نوحها متألما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلا ومقوما
قال الجوهري الحمام عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا والوراشين وأشباه ذلك وقال الأصمعي إن كل ذات طوق فهي حمام والمراد بالطوق الحمرة والخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها ونقل الأزهري أن الحمام كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه والعب شدة جرع الماء من غير نفس.
وقال ابن سيده يقال في الطائر عب ولا يقال شرب والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له قال الدميري في (حياة الحيوان) الورشان هو ساق حر وهو ذكر القماري وسمي ساق حر حكاية لصوته.
وقال أمين المعلوف الحمام الكثير في مدن العراق والذي يألف المساجد يدعى الحمام الطوراني ويسمونه في مصر الحمام الأزرق.
وقال ابن سنان.
أتظن الورق في الأيك تغنى ... إنها تضمر حزناً مثل حزني
لا أراك الله نجداً بعدها ... أيها الحادي بها أن لم تجبني
هل تباريني إلى بث الجوى ... في ديار الحي نشوى ذات غصن
هب لها السبق ولكن زادنا ... أننا نبكي عليها وتغني
وقال الأرجاني.
ومما شجاني وقد ودعوا ... بكاء الحمام على ساقها
تنوح على بعد ألافها ... وتظهر مكنون أشواقها
لبسن حداداً ومزقته ... فلم تدخر غير أزياقها
وضاقت صدوراُ بأنفاسها=فغضت مجامع أطواقها
وقد نزفت في الهوى دمعها ... فلم يبق ماء بآماقها
وقال بعض الأعراب.
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع وهي على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها ... محطمة بالدر خضر روائع
مزبرجة من الزبرج وهو الزخرف والزينة ومخطمة من الخطم وهو منقار الطائر أو من خطمه بالخطام أي جعله على أنفه وهو حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه أي مقدم أنفه وفمه.
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
الوشائع جمع وشيعة وهي الطرائق في الثوب والخوافي ريشات من الجناح إذا ضم الطائر جناحيه خفيت.
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
وقال الشبيي من شعراء العراق اليوم.
يشكو الصبابة كل يوم مدع ... وأحقنا دعوى بها من ذاقها
لو أنصفت تلك الحمائم لوعتي ... نضت الخضاب ومزقت أطواقها
يا هذه حتى الغصون لما بها ... نثرت على وجه الثرى أوراقها
مثل التي لزم الخفوق جناحها ... أصبحت مرتكض الحشا خفاقها
وقال الشرقي وهو شاعر عراقي يخشى اليوم أن يطبع ديوانه لما في من ثورات فكرية على السياسة والاجتماع دفعه في تياراتها جموح الشباب ومال به عن تبعاتها حذر الشيخوخة وهواجسها.
أنا يا حمامات الأراك مغرد ... لكن برغم حلاك لا أتطوق
طوباك خلصك الجناح فما استوى ... روح مقيدة وروح مطلق
ضاعفت وجد الحائرين فليتهم ... إذ لم يكونوا طائرين تعلقوا
وقال أيضاً.
حمام الدير هل في الدير رهط ... يدل الظامئين على الزلال
وقال السيد حيدر الحلي وهو من شعراء العراق الذين توخوا الجزالة وروعة السبك وكان معجباً به شوقي (رحمهما الله) فيما تحدث الرواة وجل شعره في رثاء سيدنا الحسين وباقي شهداء كربلاء رضوان الله عليهم.
وادعت حولي الشجاذات طوق ... مات منها على النياح الهجوع
شاطرتني بزعمها الداء حزنا ... حين أنت وقلبي الموجوع
يا طروب العشي خلفك عني ... ما حنيني صبابة وولوع
وقال الأخرس البغدادي.
يا ورق أين غرام قلبك من شج ... جعل النواح لشجوه معتادا
أو تشبهين الصب عند نواحه؟ ... ولقد بخلت بمدمعيك وجادا
وقال محمد سعيد الحبوبي من المتأخرين وهو شاعر بلغ الغاية في رقة الغزل وقد جارى الأندلسيين في موشحاتهم فاتى بالبدائع وفي آخر حياته رحمه الله رفع لواء الجهاد المقدس ومات مسموماً في حروب العراق ضد العدوان.
أحمامة الوادي عداك هوى ... لو حل فرعك أحرق الفرعا
أني اتخذتك لي منادمة ... ولقد شربت فغردي سجعا
وقال:
يا حمام الدوح بالله أعد ... سجعك اليوم لصب وأجد
إن تكن مثلي مهجوراً فزد ... ربما يطفي غليلي ربما
سجعك اليوم بلحن مطرب
يا حماماُ أن في وادي العقيق ... لا أرى لي غيرك اليوم صديق
فمتى من سكرة الحب تفيق؟ ... وإلى ما فيه تخشى اللوما؟
وتراعي نظرة المرتقب؟
يا حماما لم ترعه بالفراق ... جيرة تعقد بالهجر النطاق
أنت والغصن بضم وعناق ... وبأسر الريم أصبحت وما
دفعت عني سرايا العرب
وله من موشحه أخرى.
وحمام البشر غنى وتلا ... سير اللهو ينادي الطرب
قد رقى منبر بان واعتلى ... في مروج كمروج الذهب
فهو لا ينفك يملي للملا ... أعنقت بالحزن عنقا مغرب بغنا ناهيك فيه من غنا ... خمرة اللهو به لم تمزج
أترى معبد القي المدنا ... لحمام السقط والمنعرج
أعنق أسرع والعنق نوع من السير وعنقاء مغرب طائر معروف الاسم مجهول الجسم وقيل طائر يبعد في طيرانه وكنى بذلك عن عدم وجود الحزن والمدن خمس طرائق من الغناء اخترعها نفسه وسبب تسميتها بذلك أن قتيبة أحد الفاتحين في أخريات القرن الأول من الإسلام فتح خمس مدن في إحدى غزواته فقيل لمعبد المغنى ذلك. فقال وأنا اخترعت خمس طرق من الأغاني تعادل عندي تلك المدن الخمس راجع الكامل للمبرد تجد تفصيل ذلك والسقط معظم الرمل والمنعرج منعطف الوادي.
وقال محمد مهدي الجواهري شاعر العاطفة الفياضة والوصف الرائع ومتزعم الفكرة التقدمية في العراق:
وهاتفه راعها مقدمي ... فلاذت بأغصانها الميل
أيا ورق لا تذعري إننا ... شربنا العواطف من منهل
وقال ابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟ ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غصن النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جزوعا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقال الخباز البلدي:
ذرى شجر للطير فيها تشاجر ... كأن صنوف النور فيها جواهر
كأن القماري والبلابل فوقها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوة ... كأن على حافاتها الدر دائر
وقال محمد بن علي العاملي:
في ربوع كأنهن جنان ... عطفت جورها على الولدان
ورياض كأنهن سماء ... أطلعت أنجما من الأقحوان
بين ورق كأنهن قيان ... ركبت في حلوقهن المثاني
وغصون كأنهن نشاوي ... يترقصن عن قدود الغواني وقال ابن خفاجة:
وإراكة سجع الهديل بفرعها ... والصبح يسفر عن جبين نهار
هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة الأنوار
وقال ابن وكيع:
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وقال أبو الحسن المجريطي:
ألا حبذا نوح الحمامة سحرة ... وقد شق جيب الليل عن لبة الفجر
وسال نجيع الفجر من ثغرة الدجى ... وخمش ثكل الليل من صفحة البدر
وقال السري الرفاء:
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالدح
في روضة لبست ... من لؤلؤ الطل سبح
يألفني حمامها ... مغتبقاً ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في ممسك ... طرازه قوس قدح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
غير أن المعري يتردد في شكوكه قائلا:
أبكت تلكم الحمامة أم غن - ت على فرع غصنها المياد؟
وقد أصاب في تشككه وعدم اعتباره غنائها نواحاً كما ظن كثير من الشعراء ولكنه فاته أن الغناء من الذكور وليس من الإناث كما أوضح ذلك دارون وعلماء الطبيعة الآخرون إلا إذا اعتبرنا التأنيث هنا لفظياً قال في المنجد الحمام طائر معروف والواحدة حمامة ويقال حمامة للذكر والأنثى لأن الهاء هنا ليس للتأنيث بل للدلالة على أنه واحد من جنس وربما قالوا حمام للواحد جمعه حمائم وحمامات.
وقال بعض الأندلسيين:
انظر إلى النهر فيها ... ينساب كالأفعوان والطير تخطب شكراً ... على ذرا الأغصان
والقضب تلتف سكراً ... بمائس القضبان
والروض يفتر زهواً ... عن مبسم الأقحوان
والنرجس الغض يرنو ... لو جنة النعمان
وقال الشرقي من قصيدة احتفال الطيور:
ما ترى أيها الحمام الكئيب؟ ... كل شئ حتى الحجارة باسم
كل آن هزيمة وهروب ... أحياة الطيور ملأى هزائم
قال لي وهو خائف مستريب ... الخوافي تهيب بى والقوادم
عجباً كيف يطمئن الأريب ... لأناس تخاف منها البهائم؟
قال السيد علي خان في كتابه (أنوار الربيع في علم البديع) في فصل الاستعارة وكان شديد التهور كثير البطش ذاهباً بنفسه كل مذهب قال ابن سعيد صاحب القدح المعلى سمعته مرة وهو في محفل يقول يقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي، وفى عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال: يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك ما أضنك تعنى إلا نفسك. قال نعم ولم لا؟ وأنا الذي أقول ما لم يتنبه له متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر.
يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلّد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصة كل قضيب وريق
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق
فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه من الغيظ إلى أضيق مكان. فقلت له ياسيدى هذا هو السحر الحلال فبالله إلا مازدتنى من هذا النمط فأنشد:
أدرها فالسماء بدت عروساً ... مضمحة الملابس بالغوالي
وخد الروض أحمره صقيل ... وجفن النهر كحل بالظلال
وجيد الغصن يشرق في لآل ... تضئ بهن أكناف الليالي
فقلت زد وعد، فعاد والارتياح قد ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، وأنشد:
لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال إذ أصبح الظل به ليلة ... وجال فيه الغصن شبه الخيال
فقلت زد فأنشد:
فلما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكرا
أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسرا
فقلت إيه! فقال:
ولما أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخد منه غريق ماء
أقام له العذار عليه جسراً ... كما مد الظلام على الضياء
فقلت أعد، فأعاد وقال حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها ثم أنشد:
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير شبيه
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه
(بغداد)
ضياء الدخيلي