مجلة الرسالة/العدد 785/مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث
→ في آفاق حافظ إبراهيم | مجلة الرسالة - العدد 785 مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 19 - 07 - 1948 |
للأستاذ سليمان دنيا
(تتمة)
انتهينا في مقالنا إلى أن ابن سينا يمكن اعتباره قائلاً بأن البعث روحي فقط؛ وأبنا أن المطاف حول نصوصه في هذا المقام - أخذا من الشفاء، والنجاه، والإشارات - ينتهي، رغم تضاربها إلى إنكار البعث الجسماني.
لكن في تأريخ الفكر الإسلامي، ما كان ليقنع ابن سينا في موضوع خطير كموضوع البعث، بادعاء قصاراه الإمكان والتجويز، أو الترجيح وغلبة الظن. ليس معه من الشواهد والأدلة - حتى في نظر صاحب الادعاء - ما يسمو به إلى مصاف النظريات العلمية.
وقد كان ابن سينا عند ظن العلم به، فلم يقنع هو من نفسه، كما لم يقنع منه العلم، بهذه الوقفة الحائرة، فراح يشرع قلمه ليديح عصارة فكره في هذا المقام.
وقد دلنا البحث والتنقيب على أن له في هذا الموضوع كتابين:
أحدهما يعرف ب (رسالة في المبدأ والمعاد).
وثانيهما يعرف ب (رسالة أضحوية في أمر المعاد)
وإذا كان ابن سينا قد أفرد كتابين لموضوع كهذا جرت عادة غيره بأن يتكلم عنه كلاماً، يعد وافياً في بابه، ضمن كتاب لا في كتاب مستقل ولا في كتابين، كان الأمل قوياً في أن يتكشف ابن سينا على حقيقته في هذه المسألة، وأن ينجلي الموقف عنده فيها انجلاء، لا يبقى معه مجال لهذه البلبلة الفكرية التي أوحت بها كتبه الأخرى، بما تحمل من أفكار متضاربة، وأراء متنافرة متعارضة.
رجعت إلى أول الكتابين فإذا هو يقول في مقدمته: (. . . وبعد فإني أريد أن أدل في هذه المقالة على حقيقة ما عند المشائين، بين المحصلين من حال المبدأ والمعاد، وتقربا به إلى الشيخ الجليل أبي أحمد بن إبراهيم الفارسي. . . الخ).
ولما كانت قد عرفت رأي ابن سينا في المشائين، وأنهم عنده من عامة المتفلسفة، لا من خاصتهم، وأنه كان ينجو نحوهم ويؤلف على غرارهم حين يكتب للعامة؛ أما الخاصة فإنه يدخر لهم أراء أخرى مخالفة لأراء المشائين كثيراً من المخالفة، يودعها كتباً يختصهم به - انظر المقال السابق، نص منطق المشرقيين -، فقد نزعت الثقة من هذا الكتاب كمصدر يؤرخ منه لأبن سينا، وأن صح اعتباره مصدراً يؤرخ منه للمشائين كما يفهمهم ابن سينا إذ ليس يكفي أن يوضع اسم المؤلف على لا لكتاب، ولا أن يكون صحيح النسبة إليه، ليتخذ مصدراً يؤرخ منه له، بل يجب أن يتحرى وراء التثبت من صحة النسبة، عن أمر آخر ليس دون صحة النسبة أهميه؛ ذلك هو قيمة المؤلف في نظر صاحبه، أعني لمن ألفه؟! هل ألفه ليصور به فكرته وعقيدته؟!. . . أم ألفه لأناس آخرين تنزل فيه إلى مستواهم؟! وفي ضوء هذا يمكن اعتبار الكتاب مصدراً يستمد منه التاريخ لمؤلفه، أو عدم اعتباره كذلك.
ولا شك أن إغفال هذه النظرة يوقع في خلط واضطراب شديدين، وقد تبينت ذلك واضحاً في دراستي للغزالي؛ إذ تضارب الكاتبون عنه تضارباً شديداً، وتأدوا في بحوثهم إلى أحكام متعارضة، واعتصم كل منهم في تأييد وجهة نظره، بكتاب من كتبه صحت نسبته إليه؛ مما حير العقول وبلبل الأفكار، ومن أجل هذا اعتبر شخص الغزالي مشكلة من مشاكل العلم التي تتطلب الحل والإيضاح، قال (ديبور): (إن أمثال الغزالي معضلة في نظر العلم، فأشخاصهم حقائق روحية تحتاج إلى توضيح).
وكان ذلك من غير شك نتيجة لإهمالهم هذا المبدأ الذي هو الطريق الوحيد، لإضافة الفكرة إلى المؤلف مع الوثوق من أنها تصور رأيه وتعبر عن عقيدته؛ فلما أخذت في دراستي له بهذا المبدأ، أبرزته في كتابي عنه (الحقيقة في نظر الغزالي) شخصية واضحة مفهومة، لا تضارب فيها ولا تعارض.
ومن حسن حظ العلم أن المؤلفين الذين لهم جوانب متعددة ومظاهر متباينة قد عنوا بالدلالة على الكتب التي تصور آراءهم التي يرتضونها لأنفسهم، تمييزاً لها من غيرها التي تصور أفكاراً أخرى لا يدينون بها.
فمثلاً نجد الغزالي يقول في كتابه (الأربعين في أصول الدين) ط الكردي ص25:
(ومعرفة أدلة العقيدة قد أوردناها في الرسالة القدسية في قدر عشرين ورقة، وهي أحد فصول كتاب قواعد العقائد من كتاب الإحياء.
وأما أدلتها مع زيادة تحقيق وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات، فقد أودعناها كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في مقدار مائة ورقة، فهو كتاب مفرد رأسه يحوي لباب علم المتكلمين، ولكنه أبلغ في التحقيق، وأقرب إلى قرع أبواب المعرفة، من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين.
وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد، لا إلى المعرفة، فإن المتكلم لا يفارق العامي معتقداً، بل هو أيضاً معتقد، عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد، ليؤكد الاعتقاد ويستمده، ويحرسه من تشويش المبتدعة، ولا تنحل عقدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة.
فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة، صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في كتاب الصبر والشكر، وكتاب المحبة، وباب التوحيد، ومن أول كتاب التوكل؛ وكل ذلك من كتاب الإحياء.
وتصادف منها مقداراً صالحاً يعرفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) لا سيما في الأسماء المشتقة من الأفعال.
وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة، من غير محجمة ولا مراقبة، فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها. وإياك أن تغتر وتحدث نفسك بأهليته فتستهدف للمشافهة بصريح الرد، إلا أن تجمع ثلاث خصال:
الأولى: الاستقلال في العلوم الظاهرة، ونيل رتبة الإمامة فيها.
والثانية: إقلاع القلب عن الدنيا بالكلية. . .
والثالثة: أن يكون قد أتيح لك السعادة في أصل الفطرة الخ.
وهذا هو ابن سينا يقرر في مقدمة كتابه (رسالة في المبدأ والمعاد) أنه ألفه على مذهب المشائين، فيجب - قبل الحكم بأن ما جاء في الكتاب يصور رأي ابن سينا أو لا يصوره - أن يعرف رأيه في المشائين، وهل هو يوافقهم؟ أو يخالفهم؟! وهذا هو نصه في مقدمة منطق الشرقيين صريح في أنه لا يدين بكل ما يدين به المشاءون، ومن المحتمل أن يكون أمر البعث من المسائل التي اختلف فيها معهم، فلا بد إذن من البحث عن مصدر آخر.
وفضلاً عن ذلك فقد جاء في عبارات الكتاب ما يدل على أن للمسألة عنده غورا، وأن لها سراً لم يفض به في هذا الكتاب كقوله (وهذا كلام مغلق، تحته معان كثيرة، في شرحه على الحقيقة تكون النجاة).
أصبح الأمل بعد هذا معقوداً بالكتاب الثاني - رسالة أضحوية في أمر المعاد -، فلندرسه لنرى قيمته في نظر ابن سينا، بعد ما أجمع الباحثون على صحة نسبته إليه.
والقرائن المحيطة بالكتاب تدل على أن ابن سينا صور فيه رأيه، وأبان معتقده:
أما أولا: فلأن ابن سينا وهو يتحدث في الإشارات عن البعث، أحال استكمال القول فيه على كتاب آخر فيه سعة من القول؛ والإشارات كما هو معلوم للباحثين يصور آراء ابن سينا التي يدين بها ويعتقدها، فإذا أحال فيه على كتاب كانت قيمة الكتاب المحول عليه، خصوصاً بالنسبة للبحث المشترك بين الكتابين، من قيمة الكتاب المحول فيه، وقد علمنا أنه نفض يده من الشفاء والنجاة ورسالة في المبدأ والمعاد، فلم يبق من الكتب التي تصلح أن تكون مرجعاً استوفى البحث واستكمله حتى يصلح للإحالة عليه إلا كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وهاك نصه في الإشارات ط ليدن ص197 (ثم أبسط هذا، واستغن - وفي نسخة: واستعن - بما تجده في موضع آخر لنا).
وأما ثانياً: فلأن الغزالي قد استمد رأي ابن سينا في البعث من هذا الكتاب، والغزالي دارس متعمق، وقريب عهد بابن سينا وبكتبه، فهو أعرف بما يصور رأيه وبما لا يصوره واتهام الغزالي بأن خصومته لابن سينا من التعويل على رأيه فيه؛ يدفعه أن المدافعين عن ابن سينا ضد الغزالي أمثال ابن رشد - بأنه استقى معلماته عنها من مصادر لا تعبر عن وجهة نظر ابن سينا التي يدين بها.
وأما ثالثاً: فلأن الكتاب نفسه، ليس فيه شيء مطلقاً، يدل على أن لبن سينا لم يعبر فيه عن رأيه، ولم يصدر فيه عن معتقده؛ والأصل في الكتاب - متى صحت نسبته لصاحبه - أنه يصور رأيه، إلا إذا وجد من القرائن والدلائل ما يصرف عن ذلك.
وفضلاً عن هذا فالكتاب يتلخص في مرحلتين:
إحداهما: التعريف بكل الآراء التي قيلت في المسألة.
والثانية: نقد كل هذه الآراء، إلا رأياً واحداً استبقاه واستصفاه، وساق على صحته كثيراً من الأدلة. ويحس قارئ الكتاب أن ابن سينا أفرغ في هاتين المرحلتين كل قواه، فلم يدخر جهداً في هدم ما هدم، ولم يدخر وسعاً في تأييد ما أيد.
وعملية النفي والإثبات على هذا النحو من التتبع والتقصي ناطقة بأنها المنهج الصحيح للإبانة عن مذهب المؤلف ورأيه الشخصي.
وفي كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) هذا، نجد ما حكى الغزالي عن ابن سينا من أدلة إنكار البعث الجسماني، وعند ذاك نجد ما نسد به تلك الثغرة التي كانت شاغرة في تأريخ الفكر الإسلامي. وكنا قد أبنا في مقالنا السابق أن لهذه الثغرة جانبين:
أحدهما: يتصل بابن سينا، أعني هل قال ما نسبه إليه الغزالي في كتابه التهافت من أدلة إنكار البعث الجسماني، أم لا؟!، ضرورة أنه أن كان قائلاً بها، يكون قائلاً بإنكار البعث الجسماني على سبيل القطع، دون أن يفسح المجال لشك أو تردد. وقد ثبت أنه قائل بها.
وثانيها: يتصل بالغزالي، أعني هل هو ثقة حين يتحدث عن فرق خاصمهم ورد عليهم، ممن طال لعهد بهم بحيث لا يتيسر لنا الرجوع إلى مصادرهم الأصلية؟! أم هو في موضوع الشك والاتهام؟!، وقد ثبت أنه ثقة خصوصاً في تلك المسألة التي أجرينا امتحانه فيها.
وبعد فلعلنا أيها القارئ الكريم قد شوقناك إلى كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وما وراء كمن سمع، وقريباً أن شاء الله يكون في يدك، فلقد تفضل مشكوراً الأستاذ البحاثة مدير المعهد الفرنسي باستحضار صور لجميع مخطوطاته الموجودة في مكتبات العالم، ليستعان بها على إخراج نص صحيح، وقد راجعنا هذه الأصول كلها، وعلقنا عليها، وقدمنا الكتاب للطبع، وهو الآن بالمعهد ينتظر دوره.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين