مجلة الرسالة/العدد 785/في آفاق حافظ إبراهيم
→ من وحي الصوم: | مجلة الرسالة - العدد 785 في آفاق حافظ إبراهيم [[مؤلف:|]] |
مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث ← |
بتاريخ: 19 - 07 - 1948 |
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ حسين مهدي الغنام
الشاعر الحق هو من ينظم في كل ما يوحي إليه ترجمة عواطفه، سواء كان ذلك عاقلاً أم جماداً.
ولقد يقتصر شاعر من الشعراء على غرض واحد من أغراض الشعر، ينظم فيه طبلة حياته، فيبلغ الذروة في هذا النمط الواحد وقد لا يستطيع أن ينظم في غرض آخر، ولكنك لن تستطيع إلا أن تعده شاعراً من أكابر الشعراء، وإن قصر في غير الناحية الواحدة.
وقد يحكم لشاعر بقصيدة واحدة!
وكثيرون من الشعراء ينظمون في مختلف الأغراض، ويعددون أنماط شعرهم ونظمهم، وقد يكونون رابع الشعراء الذين يقصدهم ابن رشيق في كتابه العمدة!
وقليلون من أجادوا في تلك النواحي والأغراض المختلفة. . .
ومن هذا النمط من الشعراء كان شاعرنا حافظ إبراهيم.
فلقد تعددت آفاقه في نظم الشعر، وأسهم في كل فن من فنونه، صادق القول، قوي التعبير، جميل الأداء، مرهف الإحساس، ومتدفق البيان.
ولم يكن حافظ شاعرا فحسب، ولكنه كان كاتبا أيضا، وإن لم يكن نثره في مرتبة شعره.
وهذه بعض آفاق حافظ التي حلق فيها شاعراً مرهفاً، وناثراً بليغاً.
1 - شاعر مصري:
كانت البيئة العربية التي نشأ فيها حافظ مليئة بما يؤز جوانب المخلصين من أبناء البلد ويقض مضاجعهم، فقد كان الانحطاط سائداً في كل ناحية من نواحيها.
فالجهل يخيم على الشعب كله تقريباً.
والاحتلال البغيض يقيد الشعب ورائديه، ويكم أفواه هؤلاء، ويلقي بهم في غيابات السجون.
وهنا ظهر حافظ.
ظهر حافظ فكان لسان الشعب الناطق، يصف شعور الجمهور ويذكيه، وأن يشعر أن لسان مقيد، وقلمه مراقب، وسيف الجلاد يلمع أمام ناظريه، ولكن هل يصمت، كما قال:
إذا نطقت فقاع السجن متكأي ... وأن سكت فإن النفس لم تطب
كان شعور حافظ في هذه الفترة ممثلاً في هذا البيت خير تمثيل. ولم يكن هذا شعور حافظ وحده، ولكنه كان شعور المصريين بل الشرقيين جميعاً!
من الواضح أن حافظاً تأثر بالبارودي تأثراً شديداً في حياته ومنهجه. . .
ويعتبرالبارودي أمام المدرسة الحديثة في الشعر المصري التي خرجت على أساليب المتزمتين في الجيل السابق له، فعاد البارودي ومن خلفوه بالشعر العربي إلى بعض عصوره الزاهية إبان النهضة العربية.
وقد قامت الثورة العرابية أيام البارودي، بل كان البارودي بطلاً من أبطالها المعدودين، ولكنه لم يساهم فيها بقلمه وشعره، بل ساهم فيها بسيفه ورأيه الفني. وهو الحد الفاصل بين مدارس الشعر القديمة، وفاتح أبواب المدارس الحديثة، بل إمامها ورائدها. . .
ولقد جاء حافظ من بعد البارودي فكان الحلقة المتوسطة بين المدرسة التي وضع أساسها البارودي، وبين المدارس التالية التي أنشأها شعراء الجيل الجديد.
إلا أن حافظ لم يسره سيرة البارودي في ثورته، فلقد أسهم حافظ في ثورات المصريين التالية بشعره، ولم يكن رائداً فيها بسيفه. . .
ومن هنا كان حافظ بحق أول شاعر مصري حديث ينطق بلسان شعبه، وبلسان الأمم الشرقية الشقيقة.
فهو يستحث الشعب على مقاومة الغاصب، ومحاربته، ويستنهض الهمم، ويستنفر النفوس، ولم يقتصر على السياسة فحسب، وأن كان له في السياسة والوطنيات ديوان ضخم قائم برأسه، ولهذا لا أريد أن أنقل منه شيئاً هنا، فقصائده عديدة ومشهورة.
ولكن حافظاً طرق أبواب الإصلاح كلها، وحث المصريين على إصلاح عيوبهم الداخلية، وحياتهم الاجتماعية المتأخرة، ونعى عليهم عاداتهم السخيفة، وتقاليدهم المزرية، وشتى نواحي حياتهم، المظلمة الراكدة، وتكاسلهم وتوانيهم وقعودهم عن العمل والهجرة في طلب الرزق، فهو ينقد الألقاب، والتكاسل، وغيرها، إذ يقول:
وهل في مصر مفخرة ... سوى الألقاب والرتب وذي إرث يكاثرنا ... بمال غير مكتسب
وفي الرومي موعظة ... لشعب جد في اللعب
أمة قد فت في ساعدها ... بغضها الأهل وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدي بالنفوس الرتبا
وهو والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعباً
ثم هو يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي الشامل في كل شيء، فأقرأ قصائده في جمعيات رعاية الأطفال، وقصيدته في مدرسة بور سعيد للبنات:
لا تهملوا في الصالحات فإنكم ... لا تجهلون عواقب الإهمال
من لي بتربية النساء فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
ربوا البنات على الفضيلة أنها ... في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعلى الحياء الباقي
لو وفى بالزكاة من جمع الدنيا ... وأهوى على اقتناء الحطام
ما شكا الجوع معدم أو تصدى ... لركوب الشرور والآثام
راكباً رأسه طريداً شريداً ... لا يبالي بشرعة أو زمام
سائلاً عن وصيه الله فيه ... آخذاً قوته بحد الحسام
فهؤلاء هم الذين ينشئون لصوصاً!
ثم يقول في الجامعة المصرية القديمة:
حياكم الله حيوا العلم والأدبا ... أن تنشروا العلم ينشر فيكم العربا
ولا حياة لكم إلا بجامعة ... تكون أماً لطلاب العلا وأبا
وهو ينعى انحلالنا الاقتصادي كانحلالنا السياسي، فيقول في الشركات وفي اليهود:
وما الشركات السود في كل بلدة ... سوى شرك يلقي به من تصيداً
لقد سعدت بغفلتنا إذا احتواها ... بنو التاميز، واحسر اللثام
وفرج أزمة الأموال عنا ... بما أوتيت من رأي سديد وسل عنها اليهود ولا تسلنا ... فقد ضاقت بها حيل اليهود
ارحمونا بني اليهود كفاكم ... ما جمعتم بحذقكم من نقود
فمصر هي في نظره وفي خلده:
لا مصر تنصفني ولا ... أنا عن مودتها أريم
وإذا تحول بائس ... عن ربعها فأنا المقيم
ولا تظن أبياته القادمة إلا أنها ستظل خالدة يرددها المصريون ما داموا في نكباتهم السياسية والاقتصادية يتخبطون، لأنها تصور أحوالنا الحاضرة خير تصوير، وتنطق بلسان كل مصري مخلص:
متى أرى النيل لا تحلو موارده ... لغير مرتهب لله مرتقب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
كأنني عند ذكرى ما ألم بها ... قرم تردد بين الموت والهرب
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
والقوم في مصر كالأسفنج قد ظفرت ... بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب
2 - شاعر شوقي:
ولم تقف آفاق حافظ عند مصر فحسب، ولكنها شملت الشرق كله، قاصيه ودانيه
فكان يتوجع للأمم الشرقية السليبة، كما قال شوقي: كلنا في الهمم شرق!.
ومن هذا قصائده في الترك، والمغرب، وسوريا. . .
وكان يفخر بالأمة الشرقية الناهضة، كفخره باليابان الفتية المتجددة، وقصائده فيه معروفة. فليته حي ليقول فيها اليوم قولاً. . .
ثم إنه يجب أن يرى الوئام سائداً بن الشرقيين جميعاً، ولا يتخذ الغاصبون من تنابذ الشرقيين بالأديان سبيلاً إلى التفرقة بينهم. قال في عيد الدستور العثماني:
تحالف في ظل الهلال إمامه ... وحاخامه - بعد الخلاف - وراهبه
خذوا بيد الإصلاح والأمر مقبل ... فإني أرى الإصلاح قد طر شاربه
وقال في غزو الطليان لطرابلس:
بارك المطران في أعمالهم ... فسلوه بارك القوم على ما أبهذا جاء إنجيلهمو ... آمراً، يلقي على الأرض سلاماً
كشفوا عن نية الغرب لنا ... وجلو عن أفق الشرق الظلاما
وقال في تحية العام الهجري 1327هـ:
سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى ... وما بدلوا في المشرقين وغيروا
وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور) ... فقد ملأ الدنيا (نيازي) و (أنور)
في هذه القصيدة وحدها سجل ما مر على الشرق كله في عام، فقد جمع ما قامت به دولة من نهضات، وما لمح فيها من بوارق نهضات وتقدم، وفيها إهابه بالشرق أن يسير دائماً إلى الأمام، وفيها أمان بعيدة عالية، إذ يقول:
مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى ... وفي مصر أيقاظ على مصر تسهر
وقد كان (مرفين) الدهاء مخدراً ... فأصبح في أعصابنا يتخدر
ثم يناشدهم فيقول:
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى قادة تبني وشعب يعمر
ويمضر في هذه المناجاة والإهابة حتى يبلغ قوله:
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... ولا ناله في العالمين مقصر
لقد ظفر الأتراك عدلاً بسؤلهم ... ونحن على الآثار لا شك نظفر
وكذلك قصيدته في العام الذي يليه. . .
وإنك بمقارنتك بين هاتين القصيدتين تدرك آمال حافظ التي ظل يتغنى بها في مصر والشرق جميعاً طيلة حياته.
ففي الأولى تسجيل للأمل الذي بدا بنهضة الأمم الشرقية، وفي القصيدة الثانية ثورة، لأن كل ما أمل حافظ في تحقيقه لم يتحقق!
يقول في الثانية:
أشرق علينا بالسعود ولا تكن ... كأخيك مشؤوم المنازل اخرقا
قد كان جراح النفوس فداوها ... مما بها وكن الطبيب موفقاً
هللت حين لمحت نور جبينه ... ورجوت فيه الخير حين تألقا
وهززته بقصيدة لو أنها ... تليت على الصخر الأصم لأغدقا فنأي بجانبه وخص بنحسه ... مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا
لو كنت أعلم ما يخبئه لنا ... لسألت ربي ضارعاً أن يمحقا
ولكنه يعود فلا ييأس، ويخاطب شباب البلاد:
أهلاً بنابتة البلاد ومرحبا ... جددتمو العهد الذي قد أخلقاً
لا تيئسوا أن تستردوا مجدكم ... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
ولقد كان حافظ يريد أن يرى الشرق ناهضاً حياً، ذا قوة ترهب الغرب. . .
ولكن. .!
إلا إنه يتفاخر بأية أمة شرقية قوية، ناهضة، تطاول الغرب وتهزمه.
قال في حرب طرابلس ما قال، كما تقدم، ولكن قف عند هذا البيت من تلك القصيدة:
أيها الحائر في البحر اقترب ... من حمى (البسفور) أن كنت هماما
إن هذا البيت من شعر حافظ يصور لي حافظاً كالأسد السجين في قفص!
فبمن يتفاخر حافظ؟
إنه لا يجد أمامه غير تركيا، فيتحدى بسفورها أسطول الطليان، ويطلب أن يقترب من حماه أن كان شجاعاً، فسيضربه الترك، وأن عجز عن ضربه المغاربة. . .
وشيء خير من لا شيء. . .
ولكنه حافظ السجين الطليق، الذي يأمل ويتمنى ويريد، ولكن الأقدار لم تسعده فتسعفه بما أراد!
ويظل حافظ بين عاملي الأمل والياٍ والتفاخر والاستنهاض فإذ تسمعه يقول:
يا ليتني لم أعاجل ... بالموت قبل الأوان
حتى أرى الشرق يسمو ... رغم اعتداء الزمان
ويسترد جلالاً ... له ورفعة شأن
وليعلم الغرب أنا ... كأمة اليابان
لا نرتضي العيش يجري ... في ذله أو هوان
تراه يقول أيضاً:
فاطمئني أمم الشرق ولا ... تقنطي اليوم فإن الجد قاما إن في أضلاعنا أفئدة ... تعشق المجد وتأبى أن تضاما
- شاعر ساخر:
3 - شاعر ساخر:
ومن النواحي البارزة في شعر حافظ سخريتة اللاذعة، فقد كان يصب غضبه وثوته في أبيات من الشعر ساخرة شديدة المرارة، وأن جاءت في معرض النصح والجد والوطنية!
قال في قصيدة (آلامنا وآمالنا) المرفوعة إلى البرنس حسين كامل باشا:
فلا تثقوا بوعد القوم يوماً فإن سحاب ساستهم جهام
وخافوهم إذا لانوا فإني ... أرى السواس ليسلهم ذمامفكم ضحك العميد على لحانا=وغر
سراتنا منه ابتسام
وقال إلى روزفلت في زيارته لمصر:
يا نصير الضعيف مالك تطري=خطة القوم بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم ... في حماكم من دونهم ألف سور
أنت تطريهمو وتثني عليهم ... نائياً آمناً وراء البحور
وعجيب يفوز هذا بانطلاق ... وهذا في ذله المأسور
يا نصير الضعيف حبب إليهم ... هجر مصر تفز بأجر كبير
أن يهجروا وعلى المصري ... ذكر المتيم المهجور
والأبيات الآتية من قصيدته في استقبال السير جورست:
قتيل الشمس أورثنا حياة ... وأيقظ هاجع القوم الرقود
\ فليت كرومرا قد دام قفينا ... يطوق بالسلاسل كل جيد
ويتحف مصر بعد آن ... بمجلود ومقتول شهيد
لتنزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد
بحمد الله ملككم كبير ... وأنتم أهل مرحمة وجود
خذوه فأمتعوا شعباً سوانا ... بهذا الفضل والعلم المفيد
إذا استوزت فاستوزر علينا ... فتى كالفضل أو كابن العميد
لحي بيضاء يوم الرأي هانت ... على حمر الملابس والخدود وفرج أزمة الأموال عنا ... بما أوتيت من رأي سديد
وسل عنها اليهود ولا تسلنا ... فقد ضاقت بها حيل اليهود
كما قال ساخراً من سكوت المصريين على الضيم:
فيا ليت لي وجدان قومي! فأرتضي=حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه
وقوله:
وإذا سئلت عن الكنانة قل لهم ... هي أمة تلهو وشعب يلعب
واقرأ كذلك قصيدته في وداع اللورد كرومر، فإن فيها من السخرية ما ينم عن روح حافظ في هذا الضرب.
ومن سخريته القاتلة قوله في حرب طرابلس:
قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما
خبروا (فكتور) عنا إنه ... أدهش العالم حرباً ونظاما
أدهش العالم لما أن رأوا ... جيشه يسبق في الجري النعاما
لم يقف بالبر إلا ريثما ... يسلم الأرواح أو يلقي الزماما
حلتم الطليان قد قلدتنا ... منه نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عدة ... ولباسا وشرابا وطعاما
وسلاحا كان في أيديكمو ... ذا كلال فغدا يفرى العظاما
ففي هذه الأبيات يصف حافظ الطليان على حقيقتهم، كما عرفناهم، حتى في الحروب الأخيرة!
(البقية في العدد القادم)
حسين مهدي الغنام