الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 775/مذبحة الأبرياء

مجلة الرسالة/العدد 775/مذبحة الأبرياء

بتاريخ: 10 - 05 - 1948


في قرية دير ياسين

للأستاذ علي محمد سرطاوي

تقع قرية دير ياسين البالغ عدد سكانها (700) نسمة، غربي بيت المقدس، بين المستعمرات اليهودية، وكانت تعيش مع اليهود على أحسن ما تكون الصداقة، ولم يعتد أحد من سكانها على أحد من اليهود.

ويوم كانت البلاد تشيع ابنها البار، وبطلها العظيم، الشهيد عبد القادر الحسيني، بطل القسطل، إلى متواه الأخير، انقضت جموع غفيرة من اليهود المسلحين على تلك القرية وأمعنت في السكان الأمنين قتلا وذبحاً: فبلغ عدد القتلى (250) قتيلا. وكان من بينهم (25) امرأة حاملا، (50) امرأة مرضعا، و (60) امرأة أو فتاة ذبحن ذبح الخراف في أفظع مظاهر القسوة. ثم جمعوا (150) امرأة وبعد أن مزقوا ملابسهن، واعتدوا عليهن، أركبوهن سيارات مكشوفة، وطافوا بهن الأحياء اليهودية. وكان الجمهور الصهيوني المتمدن المهذب يرجمهن بالحجارة ويبصق عليهن، ويشتم دينهن، ونبيهن؛ والجلادون واقفون فوق رؤوسهن، يتباهون بهذه البطولة، والجمهور يهتف لهم، ويطيل التصفيق، حتى إذا ما أتعبهم الطواف بهن، أوصلوهن إلى طرف الأحياء العربية، وأخذوا يقذفونهن إلى الأرض، ويطلقون الرصاص فوق رؤرسهن كبرا وجبروتاً وإرهاباً!

والذي يتراءى أن الباعث النفسي الذي يحرك هؤلاء الناس، إلى أعمال وحشية من هذا النوع، لا يعود في أصله إلى وطنية صحيحة، ورغبة صادقة في العيش بسلام في جزء من الأرض، وإنما يعود إلى شعور هذه الطائفة، أفراداً وجماعات، بالعجز والجبن، والبعد عن الرجولة والشجاعة، لأن الرجل الشجاع لا يستبيح لنفسه أن يقتل طفلا أو امرأة في مثل هذه السهولة، ثم يتباهى بما عمل من بطولة، وبما صنع من معجزات.

والتاريخ الحافل بالاضطهاد الذي ذاق مرارته اليهود، في الزمن البعيد والقريب، كان كافياً ليترك في أعماق نفوسهم ثورة جامحة مدمرة، على أي عما يقترف على أيديهم، أو بسبهم، يتصل بالأساليب التي اضطهدوا بها، لو كانت لهم ضمائر تتمشى فيها الكرامة والإنسانية.

والذي ينشد الحرية والاستقلال لا يطلبهما عن طريق محاربة استقلال الآخرين وحريتهم.

وإنسان من هذا النوع خليق بأن يحرر نفسه من ذل الزمن، وأن يتحرر من القيود والنزعات الهمجية التي لا تسيطر إلا على الشعوب الساذجة التي لم تنل قسطاً من يقظة الضمير، قبل أن يرفع عينيه إلى مصادر النور!

وليس مقياس مدنية شعب من الشعوب، هو مقدار ما يملك من قوة مادية، وإنما هو مقدار ما يملك من قوة روحيه تدفعه إلى حب الخير، وإلى التمرد على الظلم في صوره ومظاهره! والعقبات الزمنية التي يقف أمامها شعب من الشعوب في طريق سيره نحو الأبد المجهول، ليست إلا اختياراً عملياً، يقدمه ذلك الشعب للحياة، لنرى مقدار ما في طبيعته من حب للشر أو الخير ليمنحه التاريخ الشادة التي يستحقها.

ولقد يخدع شعب من الشعوب نفسه، ويدور حول الحقائق ويتحلل من شخصيته الصحيحة في سيره مع تيار الحياة، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى قواعد نفسه مهزوماً مدحوراً، كما يعود إلى نفسه وطبيعته المجرم الأفاق الذي يتظاهر بالورع المزيف، والتقوى التي ليس لها في حسه وجود.

ولقد كلف الطموح الجنوني، في الأمس القريب، ألمانيا والعالم أجمع، ضحايا، وآلاما، ومتاعب، كانت نهايتها انهيار هتلر ونظامه، ومن ورائهما ألمانيا العظيمة، تلك الأمة التي دمرها ذلك الطموح، وجرعها مرارة الذل والخضوع.

واليهود، وهم حفنة في حساب العدد، يطمحون إلى السيطرة. على سبعين مليوناً من العرب، بانتزاعهم فلسطين، وهي قلبهم الخفاق، غير مقدرين النتائج الوخيمة التي ينطوي عليها هذا الاندفاع الجنوبي.

والفظاعة المتناهية، في صور القسوة والبربرية والهمجية، التي يعتدون بها على النساء والأطفال والشيوخ، حتى على جثث الشهداء، سياسة يحسبون أن اتباعها يرهب العرب ويوصلهم إلى ما يريدون منهم. وقد نسوا أو تناسوا، أن العرب أمة عريقة في المجد، شديدة البأس، لا تلين لأساليب العنف، ولا يزيدها ذلك إلا عنفواناً وصبراً وجلداً وتصميما على الأخذ بالثأر، مهما تطاول الزمن، ومهما جسمت التضحيات.

ولقد سبق للغرب أن شن هجومه على الشرق باسم الدين، في الحرب الصليبية، وفي فلسطين نفسها، فلم يهن العرب، وبقيت الحرب بينهم وبين أوربا سجالاً قرابة قرنين من الزمن القاسي، تمكنت في نهايته من طردهم منها. وها هو التاريخ يعيد نفسه، ويحمل إلى شواطىء فلسطين جماعات مشردة، أفاقة، مجرمة، من الهوان على أنفسهم وعلى الحقيقة، أن يحسب لهم العرب حساباً، مهما امتلأت أيديهم من أدوات الفتك والتدمير والغدر والنذالة التي يطفح بها تاريخهم القديم والحديث، إن جاز أن يكون لجماعات من هذا النوع تاريخ أو ما يشبه قصة تفوح منها روائح القبور والجيف.

إن العرب وهم شعب عريق في المجد، لن يقابل أعمال اليهود البربرية بمثلها، بل يمضي وراء أولئك الأنذال أشباه الرجال، يعلمهم درساً قاسياً، ويهدم على رؤوسهم المجرمة، صروح الأوهام، متبعاً في ذلك وصية أبي بكر، أول خليفة، لأول جيش يفيض على أطراف الهلال الخصيب من الجزيرة الجبارة، من عدم الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ. وحينما احتل الصليبيون بيت المقدس، تباهوا بأن خيولهم كانت تسبح في دماء النساء والأطفال والشيوخ الذين استجاروا برحاب المسجد الأقصى فذبحوهم فيه. ولكن صلاح الدين الأيوبي حقن دماء أولئك القساة، وسمح لهم بالخروج من بيت المقدس حين ثم له طردهم منها

ولو عقل اليهود، وقدر لهم، أن ينظروا إلى قلوب العرب الكريمة الرحيمة، قبل هذه البربرية، لوجدوها تفيض بالحنان والرحمة، ولتأكدوا من أنها أبر بهم وأحنى عليهم من تلك القلوب المستعمرة التي تتخذهم الآن وسيلة للاعتداء على حرية العرب الذين طالما أغدقوا عليهم العطف في كل عصور التاريخ.

والعرب في كافة أقطارهم، مصممون على سحق الصهيونية المجرمة، في فلسطين، لا حباً في سفك الدماء، ولكن دفاعاً عن الشرف العربي الذي استباحوه في رعونة جنونية. والويل لهم حينما تدنو ساعة الانتقام والثأر لشرف المسلمات في دير ياسين، اللائي طالما صرخن، وا معتصماه! وللعرب سبعة معتصمين الآن يثأرون للشرف المشباح. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

علي محمد سرطاوي