مجلة الرسالة/العدد 775/بين الشيوخ والشباب
→ مذبحة الأبرياء | مجلة الرسالة - العدد 775 بين الشيوخ والشباب [[مؤلف:|]] |
أمنية الشاعر! ← |
بتاريخ: 10 - 05 - 1948 |
للأستاذ عباس خضر
تجري بين الحين والحين مناوشات أدباء الشباب وشيوخ الأدب، تتمثل في نقدات خفيفة من الشباب للشيوخ، قليلها في أعمال أدبية معينة، وأكثرها تفنيد لمسلك بعضهم في الإنتاج التافه المسف الذي يختلف عن سابق جدهم وإبداعهم، ولبعد أكثرهم عن ملابسة الحياة وواقع الناس فيما يكتبون، فهم - في رأي الشباب وبعض الشيوخ - إما هاذرون مسغون، أو معتصمون بالقباب الذهبية. . ولا أقول الأبراج العاجية.
وتتمثل تلك المناوشات أيضاً في حملات بعض الشيوخ على الشباب ورميهم بالقصور في التحصيل واستكمال الأداة، وأنهم يحاولون هدمهم، ويقولون إن عليهم أن يجدوا ويكدوا ليصلوا إلى ما يبتغون ويظفروا بما يأملون. وقد كتب الأستاذ المازني مرة يتساءل: هل يحفر الشيوخ قبورهم بأيديهم؟ ماذا يريد هؤلاء الشباب؟ وضرب مثلا للشباب ما بذله من جهود في التحصيل وما عاناه في مقتبل حياته الأدبية.
وأخيراً كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالا في (أخبار اليوم) بعنوان (آمال الجيل) أشهد أنه كان لبقاً فيه، إذ بث في أوله وفي وسطه روحا طيبا في معالجة العلاقة بين الجيلين. ومما قاله (ما الذي سيحدث في العشرة أو الخمسة عشر عاماً المقبلة؟ هل الأمل معقود على طائفة من الأدباء يمكن أن تبرز بنوبتها في الصف الأول، لتمضي في رفع مشعل الأدب والفكر في هذا البلد؟! أو أنه كما يقال ليس في الإمكان أبدع مما كان؟!) وقال: (ونحن إذا جلنا اليوم في حديقة الأدب المصري لوجدنا أشجارا مملوءة بعصير الحياة، مونعة بأزهار الفن. . لا ينقصها إلا أن ننظر إليها بعين الرضا، وأن تتخيل ما ستكون عليه غدا من سموق وارتفاع. .) ومضى يتساءل عن واجبهم نحو أعلام الغد ويعترف بانصرافهم عنهم إلى أن ختم المقال بقوله: (غير أن المشكلة التي تحيرنا دائماً هي: وسيلة المعونة!. . أهي في تجنيب الجيل الجديد أخطاءنا، أم هي في إشعاره بأخطائه؟ أهي في إعداده قبل الظهور، أم في إظهاره قبل الإعداد؟! ثم أولئك الذين قطعوا في فنهم شوطا وظهروا بعض الظهور، وبدت مواهبهم متألقة كقطع النور، أعلينا إزاءهم واجب؟ ما هو؟ وما السبيل إلى الوفاء به؟. . . إنا جميعاً لعلى استعداد أن نؤدي واجبنا ولن نحجم عنه أبداً، إذا عرف الوسائل وملكنا الأسباب!)
ولا أراني في حاجة إلى قدر كبير من الأولمعية لأدرك أن المقصود من المقال هو هذا الختام الذي انحسرت عنه تلك الروح الطيبة. . وقد استعان على إبراز هذا المقصود بعبارات التهكم من مثل (أم في إظهاره قبل الإعداد؟!) كما استعان على ذلك بنقط التعجب وعلاماته التي حرصت على إثباتها في مواضعها. وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن هذا المقال من أسلحة كتلة الشيوخ. فهو يشبه (مشروع مارشال) من حيث أن كلا منهما يرمي إلى مكافحة الكتلة الأخرى. . فكأنه يقول: هؤلاء الشباب الذين يتطاولون علينا - ماذا يريدون منا؟ وماذا نصنع لهم؟
ولكي أثبت للأستاذ الحكيم حيادي وبراءة هذا الذي أكتبه من تلك الناوشات التي لن تفضي إلى حرب ذرية على أي حال - أسارع فأقره على حيرته وحيرة الشيوخ فيما يصنعون لهؤلاء الشباب) وإن في هذه الثروة الأدبية الضخمة التي كونها أدباء الجيل، لمدرسة الشباب، وقد تخرجوا فيها فعلا، فما هو الإعداد إن لم يكن هذا؟ أيعقدون لهم فصولا في النصح والإرشاد؟ ولا أخفي أنني أبتسم عندما أسمع أن كبار الأدباء قصروا نحو الجيل الجديد وأن عليهم أن يأخذوا بيدهم. . إلى آخر هذا الكلام الذي لا أرجعه إلا إلى العي. . .
على أن هناك جانبا عمليا لا يملك كل الكبار فيه شيئاً، وهو النشر والتشجيع على الإنتاج. ومن الحق أن أقرر أن من بيدهم شيء من ذلك نراهم يشجعون كثيراً من الشبان الناضجين ويقومونهم، وإن كان بعضهم يقصر عنايته على بطانته والسائرين في ركابه. .
ولا أريد أن أسترسل في ذلك الذي جرتني إليه دعوى ذوي العي والراغبين في الوصول دون عناء. أما ذوو الكفاية والكرامة من الشباب فما تلك دعواهم، إنما هم يشقون طريقهم بأقلامهم، لا ينتظرون من أحد معونة ولا يداً، وهم إزاء ما يشاهدون من إسعاف الكبار، يرون أنهم أقدر على تلبية روح عصرهم الجديد، فإن لم يتيسر لهم ذلك الآن فهم في الطريق إليه.
أما النقد الأدبي، وقد تخلى عنه الكبار لأسباب منها: المجاملات الشخصية، والرغبة في الدعة الذهنية؟ فإن الشاب يحاولونه. وتعوقهم عوائق كثيراً ما تأتي من الشخصيات التي يتناولها النقد؛ فما يكاد يظهر نقد في صحيفة حتى يصيح المنقود: هؤلاء الشباب الذين لم يقرؤا كما كنا نقرأ. . . الخ - يريدون أن يهدمونا. . . ولا أجد غضاضة في أن أصرح بأن مجاملات المشرفين على النشر من أكبر عوائق النقد الأدبي، وهم يقولون لك: ترفق، ولا تكن عنيفاً. أكان أساتذتنا أدباء الجيل مترفقين في نقد من كان قبلهم. .؟ أو في نقد بعضهم بعضاً أيام الحماس والفتوة. . .؟ لقد كانوا يتبادلون شتائم يخرجون فيها عن حدود الذوق والفن والأدب. ولا شك أن لغة النقد الآن - على قلته - قد ارتقت وهذبت. بل هي قت إلى حد أفسدها. . . وهو حد التقارض والمصانعة.
فكيف يفزع من هذا النقد الرفيق من ذلك ماضية في النقد؟ أما الأستاذ توفيق الحكيم خاصة فليس له ماض في النقد الأدبي، وهو لا يميل إلى الاشتباك في المعارك الأدبية، ولذلك نراه يتخذ أسلوباً (حكيما) في الفزع من النقد. . يقرأ ما يكتب عنه، ثم يعقد فصلا في أخبار اليوم يتظاهر فيه بأنه يعالج موضوعاً مستقلا، وما هو في الواقع إلا تبرير لما يؤخذ عليه. . . وأستطيع أن أرجع دافع كل مقالة كتبها في ذلك إلى شيء كتب عنه. ثم جاء أخيراً يسأل: ماذا نصنع؟ تناقش يا سيدي وجهاً لوجه، وتدفع الحجة بالحجة، أو تسكت إن أخذتك العزة بالإثم. . .
والحق الصريح أن أكثر نتاج الكبار في هذه الأيام لا يعجب الشباب، ولا يعجب كثيراً من الكبار أنفسهم، ويعز على الجيل الجديد أن يفجع في أساتذته، وأن مما يمكن أن يصنعه هؤلاء الأساتذة أن ينفضوا الغبار عن تماثيلهم القديمة المقدسة لدى الشباب. .