مجلة الرسالة/العدد 775/لا أثر للمغازلة في روسيا
→ تولستوي الحائر | مجلة الرسالة - العدد 775 لا أثر للمغازلة في روسيا [[مؤلف:|]] |
مذبحة الأبرياء ← |
بتاريخ: 10 - 05 - 1948 |
مترجمة عن مجلة انترنايشونال دايدجست
بقلم الأستاذ توفيق ضعون
هذا ما بدا لأحد سكان غربي أوروبا عندما زار موسكو، وقد عاد منها مقتنعاً أن (الرفيق كوبيد) أصبح شيئاً غير مرغوب فيه في وطن ستالين. أم روايته في هذا الصدد فهي ما يلي:
لقد ألف سكان غربي أوربا مشاهدة المطارحات الغرامية على أنواعها، وفي جملتها تبادل القبَل في الشوارع والمتنزهات، والتشجيع على المغامرة الذي يلقاه الرجال من الغواني. فلا بدع إذن أن يعجب الباريسيون أو سكان أي مدينة من كبريات المدن الأمريكية للمحافظة التامة على الآداب العمومية التي يلقونها في موسكو.
مما لا ريب فيه أن هذه المدينة التي تعج بضعفي عدد سكان باريس هي واحدة من (أنظف) بلدان العالم؛ إذ أن العلاقات اليومية بين الرجال والنساء خاضعة لقواعد التعفف والصون التي جرى عليها الأقدمون. فلا عواهر يخطرن في الأسواق، والرجال والنساء، شباباً وكهولا، لا يتبادلون القبل علانية، ولا يسيرون متشابكي الأذرع ولا متضامّين لكي يثبتوا للملأ ما يضمره أحد الفريقين للآخر من حب وإعزاز. وجل ما يراه الزائر محبان يتنزهان، وقد أخذ كل منهما بذراع الآخر في احتشام كلي، فيخيل إليه أنهما زوجان انقضى على قرانهما عقد من السنين.
ومما استرعى انتباهي بنوع خاص أنني بينما أنا واقف في مطار كاليننغراد في انتظار طائرة تقلني إلى موسكو، تجلى أمامي مشهد وداع مدهش جرى بين جندي مبتور الذراع وخطيبته الحسناء المسافرة؛ فعند ما أزف الموعد أخرجت الفتاة من محفظتها تفاحة قدمتها للجندي قتناولها مبتسما، وبادلها بدوره إهداءها بضعة من أزهار كان قد اقتطفها من حقل مجاور. والظاهر أن تعرضهما للأنظار ربكهما إلى حد أنهما افترقا دون عناق. وصعدت الفتاة إلى الطائرة حيث لبثت مستغرقة في تفكيرها لاهية عن كل ما حولها باستثناء لحظات خاطفة كانت تلقي فيها نظرة أسى من النافذة، أو تصوبها إلى طاقة الزهر الصغيرة التي زوَّدها بها خطيبها الجندي، وعبثاً حاولت الترفيه عنها، فقد رفضت بأدب وحزم ك عرضته عليها من سكائر وحلوى.
وفي غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما في موسكو تكررت أمامي المشاهد الدالة على المحافظة إلى أقصى حدودها. ولم يتفق لي ألبتة أن رأيت مطارحة من المطارحات الغزلية الشائعة المألوفة في المدن الأوروبية والأمريكية. فان تلك النظرات الخاطفة التي يتبادلها المارة عادة في باريس أو نيويورك، والتي تعبر عن التناهي بالجمال أو الأناقة أو الإعجاب بهما مفقودة تماماً في موسكو. والذي وثقت منه أن الفتاة أو المرأة في العاصمة الروسية لا تدرك معنى لأدلة الحب والإعجاب، أو هي تأخذ نفسها بواجب تجاهلها فإن أنت أطلت النظر إليها عزَت ذلك منك إلى تبينك لطخة علقت بأنفها فتحاول إزالتها بمنديلها.
وإذا رأيت مرأة جالسة على مقعد في حديقة عامة فلا تخش إذا أنت جاورتها أن تحدجك بغضب، أو تخلي مكانها؛ إذ هي لا ترى في صنيعك ما يريب أو يدعو إلى الاستهجان. وإذا جرؤت على سؤالها عن الوقت أو استطلعتها رأيها في الطقس أجابتك بكل بساطة معينة لك الساعة ومعربة عن شعورها بنقص الحر أو اشتداده بالنسبة إلى ما كان عليه في الأحد الفائت.
ولا يصح أن يُعزَى ما يبديه الذكور في موسكو من الفتور أو التحفظ إلى نقص في جاذبية إناثها، فهن على العكس من ذلك بارعات الحسن، وجمال بعضهن رائع فتان. فهناك الموسكوفيات الذهبيات الشعور السمهريات القوام، والشماليات ذوات البشرة العاجية والأعين الزرق، والقوقازيات الفاتنات اللحاظ المفترات الثغور. ولكن برغم كل هذه المغويات يندر أن يعيرهن الرجال التفاتاً. وحتى اليوم لا أعلم سبباً لهذا الفتور وعدم المبالاة يبديهما الرجال نحو أبرع النساء جمالا سوى اعتبارهم الاحتفال بالجمال إلى حد التدله، إخلالا بالآداب العامة.
ومما يلفت النظر بنوع خاص هو أنه بين زهاء الألفين من اللوحات المصرية المعروضة في المتحف الفني لا يوجد رسم واحد عار. وفي أثناء إقامتي في المدينة أعرت مديرة المنزل دفتراً أودعته ما أوحاهإليَّ خيالي من رسم عارية لآدم وحواء في الفردوس. فلم يكد يقع نظرها على الرسم الأول حتى أعادت إليَّ دفتري قائلة: (اسمح لي أن أعيد إليك بضاعتك إذ لا سوق في روسيا للرسوم البذيئة!)، ولا يتوهمن القارئ أن بين تلك الرسوم ما يريب أو يخدش العفاف؛ فإنني لو كنت في باريس لما تحرجت أن أطلع عليها راهبة في دير سان سوبليس فلا ترى فيها ما يوجب الإغصاء. والأغرب من ذلك أن الكثيرين من أصدقائي في موسكو أكدوا لي أن تلك المديرة لا تعد من المتطرفات في التصون.
وربما كان أشد ما حيرني سلوك الرجال؛ فهم متطرفون في كتمان عواطفهم الجنسية. ومما أذكره في هذا الصدد أنني بينما كنت مسافراً في طائرة أخذت أسلي نفسي بمطالعة عدد من مجلة (ليف) حتى إذا ما استوعبت جل ما يهمني من مواده دفعته إلى ضابطين روسيين مجاورين لي، فراحا يقلبان صفحاته دون أن يستوقفهما ما حفل به من رسول الفتيات ذوات الجمال الرائع والنهدام البارع، شأنهما في ما مرا هـ دون مبالاة من صفحات المواد لجهلهما اللغة الإنكليزية. أما الصفحة الوحيدة التي أطالا فيها التحديق فهي تلك التي تضمنت إعلاناً عن معمل دراجات آلية.
ولا يزال ذلك الاحتشام المحسوس الملموس في روسيا سراً مغلقاً عليّ، وربما كان من أول الأسباب الداعية إليه هو أن النساء في الاتحاد السوفياتي، باستثناء أقلية لا يؤبه لها، أصبحن على قدم المساواة مع الرجال، ففي كل مكان تقوم المرأة بأعمال كانت وقفاً على الرجال، كقيادة الحوافل، وبيع تذاكر السفر في محطات السكك الحديدية؛ حتى أن تنظيف المجاري تقوم به النساء. وكثيراً ما تبصر إحداهم خارجة من الأعماق وقد علت وجهها وثوبها الأقذار بعد أن غاصت فيها بحذائها الساقي الضخم.
ومن الجهة الثانية نرى أن الروسيين قد أعياهم إدراك مفهوم الغربيين للأسلوب الأصلح في العلاقات بين الجنسين. ومن الأمثلة الطريفة على تقصيرهم في هذا المضمار هو ما شاهدته في (فيانا)، فقد دُعي عدد من الفتيات الفرنسيات المجندات إلى حفلة اجتماعية أقامها ضابط روسيون. ومما لا ريب فيه أن الفرنسيات لم يجاوزن في سلوكهن الحد الذي ألفنه مع أبناء جنسهن. وكان الروسيون الذين تجنبوا كل أنواع المنازلة أن رافقوا بكل أدب مدعواتهن إلى منازلهن، ولكنهم لم يتمالكوا أن أبدوا منتهى الاستغراب عندما رأوا الفتيات يودعنهن عند الباب ولم تدع واحدة منهن رفيقها للدخول وتناول فنجان من الشاي أو كأس من الشراب.
وهذا لا يعني أن الغريب المقيم على سفر في موسكو لا يستطيع. أن يصادق فتاة روسية، على أن علاقته بها تختلف كثيراً عما لو كان في باريس أو لندن أو نيويورك. مثال ذلك أن الفتاة الموسكوفية تستاء إذا حاول رفيقها أن يدفع ثمن ما تتناوله من طعام أو شراب؛ فهي تصر على دفع حصتها من النفقة، ولا تقبل هدية إلا إذا كان في استطاعتها أن تقدم ما يضارعها في أول فرصة تسنح.
وقد اتفق لي أن قدمت يوماً لفتاة عرفتها هدية صغيرة فردت عليها في الحال بطاقةٍ من الأزهار. وفي ظرف آخر قدمت لفتاة موسكوفية زجاجة عطر أتيت بها من باريس فما كان منها إلا أن قدمت إلى على الأثر كيساً من البرتقال.
وها أنا قد عدت من روسيا مندهشاً لتحرر الروسيات من سلطان الحب. ولابد لي من الاعتراف بأن العلاقات الجارية بين الجنسين في العاصمة الروسية تدهش إلى أقصى حد الرحالة الذي تتالت أمامه في كل مكان المشاهد الدالة عل ما كان للحرب من الأثر في تداعي الأخلاق، وما عقبها من الفوضى الأدبية في البلدان الأوروبية دون استثناء.
توفيق ضعون