مجلة الرسالة/العدد 775/أمنية الشاعر!
→ بين الشيوخ والشباب | مجلة الرسالة - العدد 775 أمنية الشاعر! [[مؤلف:|]] |
طرائف من العصر المملوكي: ← |
بتاريخ: 10 - 05 - 1948 |
لشاعر الحب والجمال لا مرتين
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وكأنما عز على لا مرتين أن يتعب روحه ويضنيها في البحث عن الله، أو كأنما شعر أنه أوفى من بحثه على الغاية التي يحق للبشر أن يوفوا عليها - فآثر أن يستريح راضياً بأمنية يتمناها مخافة أن يلجئه طول البحث إلى الكفران والجحود، فتأوه مشتاقاً إلى الحقيقة، ثم تمنى خاصة واحدة من خواص الملائكة، فغض بصره عن حياتهم السرمدية، وعن سعادتهم الأبدية، ولم يرج سوى الإلهام له وللناس: لأن الإلهام هو الذي أرضي الملائكة بربها فسمعت وأطاعت، وحرية التفكير هي التي بعثت البشر على الانطلاق فخضعوا طوعاً أو كرهاً؛ ولكن الذين خضعوا كارهين ما برحوا يستغربون لماذا ألهم الله غيرهم الطاعة فأنشدوا لحن الخلود، ولم يلهمهم هم فعاشوا في شقاء من بعده جحيم؟. .
(9 - إن ما أتمناه من الملائكة ليس حياتهم السرمدية، لا، ولا سعادتهم الأبدية!
ولكنه الإلهام. هذه الحاسة التي يستطيع بها القلب الجحود، أن ينشد لحن الخلود!)
ويخيل إلى الشاعر أن الله أجابه إلى رجيّته، فأنار بصيرته بوميض من الإلهام؛ فإذا هو لا يكتم فرحه بما يجول في نفسه، ولكنه يقر بأنه لا يقدر على إبداء هذا المعنى السامي الذي انكشف له، فكان أعظم من الأمواج الصاخبة، ومن الصواعق الغاضبة، فيترك سره لليل ليظهر الناس عليه:
(10 - يساور نفسي شيء أرق من الصِّبا اللعوب، سيذيعه الليل ويُفشيه!
شيء أعظم من الموج، ومن الصاعقة الغضوب، وقلبي لا يستطيع أن يبديه!)
ويقارن لامرتين بين هذا الوميض الذي انكشف لبصيرته وبين أسرار الطبيعة التي احتجبت عن بصره، ويتسمّع إلى لحن الوجود النفاذة إلى أعماق النفوس، فيرى أنه لم يؤت من الإلهام إلا قليلا، ويرى أن لثَبَج البحر لحناً أوقع من لحنه، ولجذوع الغابات نَغَماً أروع من نَغمه، وللعواصف الهوج نشيداً أقوى من نشيده، وللأنهار الجارية أغاريد أحلى أغاريده: فالبحر لا يقذ إلى ضفافه أمواجَه إلا ليسمع شكواها، وجذوع الغابات لا ينحنى بعضها إلى بعض إلا لتلحن نجواها، والعاصفة لا تملأ صدر السحاب إلا لتضاعف صوتها في أعماقه، والأنهار لا تتنفس إلا لتعلم الناس موسيقاها؛ فلكل منها مزمار يطلق منه أنغاماً تسبح بحمد الله وتقجَّس له، وكلُّ قد علم صلاته وتسبيحه. . . أما الإنسان فإنه مهما صفت نفسه وراق قلبه يتمنى أن يحسن الغناء كما تُحسنه الأمواج، والجذوع، والعواصف، والأنهار، وكل مظهر من مظاهر الطبيعة البكر، ثم يجد أمنيته تصّاعد في عالم مجهول، ثم لا يدري أتعود عليه بالإخفاق أو النجاح. إلا أنه أخيراً يخفق فيعلم أن مزماره من صنع يده وهو لا يصنع إلا كاملا، وأن مزامير الطبيعة من صنع الله وهو لا يصنع إلا كاملا. . .
(11 - أيها الخضم الذي يقف إلى ضفافه أمواجه الشاكية! يا جذوع الغابات المتناجية!
يا عاصفة يمتليء بها السحاب، ويا أنهاراً أنفاسها خرير! آه! لو أُوتيت هذه المزامير!)
ويلتفت الشاعر إلى نفسه، ثم يخاطب روحه التي تمنَّتْ كثيراً ولم تجب إلا قليلا، ويعجب كيف يصبر نفسه مع الحب الذي يضطرم في أحشائه كأنه نار لا ينطفيء لها لهيب، أو إعصار ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ويتألم لهذه الروح التي جعلت حب الله صلاتها وتسبيحها، وتقربت إليه بخفي ندائها، ولم تَرْجُهُ إلا أن يشرق عليها بنور معرفته، لينقذها من حماسة كلها لهيب، ومن ذهول كله وحشة، ثم لم يستجب لها بشيء. ولو شاء أن يستجيب، لأسر في أعماقها اسمه الحبيب؛ ولو أسر اسمه لرضيت روح الشاعر، واطمأن قلبه، واهتدى عقله.
(12 - وا روحاه! هذا الإله الذي يضرمك حبه كأنه نار. . . أو تحترقين به كأنه إعصار!
لو استجاب - وأنت مشدوهة ذاهلة - لحماسنك الجياشة اللافحة، لأسر اسمه في لفظة واحدة!)
وهنا يهتف بلامرتين صوت خفي: لا تعجل فإن الله يسر اسمه، وما عليك إلا تلتمس زمانه ومكانه فتسمعه: يسر اسمه في أُدن الطبيعة فتهمس به شفتاها وهي مختلية في صومعتها، بعيدة عن الدنيا وضجتها، قريبة من السماء ورحمتها. . . حينئذ تجلس الطبيعة إلى السماء جلسة المستعلم إلى العليم، فتحفظ منها اسم الله وتناجيه معها، ثم تنتظران كلتاهما تنفُّسَ الصبح ليفضي إليهما بأسرار الملأ الأعلى، أو ترقبان عسعسة الليل لتتسمعا سمر الكواكب، فما يسمر منها كوكبان، إلا على ذكر الخالق الرحمان.
(13 - إن هذا الإسم لسرُّ تهمس به الطبيعة في الخلوات، كما تحفظه السموات!
وكلما طلع الفجر أفضى بهذا السر، وكلما تسامر كوكبان، كان صداهما الشجي الفتان!)
ويفرح الشاعر بما ألقى إليه الهاتف، ويظن أنه وقف منه على السر المنشود، وأنه قد وصل به إلى اسم المعبود، فما عليه إلا أن يسهر ليله فيسمع الكواكب السامرة، أو يثب مع الفجر ليعي أسراره الباهرة. . وفي هذين الوقتين السعيدين يريد أن تمسي كلها حواسه أُذناً تسمع وقلباً يعي؛ بل يريد أن تمسي العواصف والأعصار، والأرض والنيران والبحار كلها آذاناً صاغية، لأن من سكت في هذين الوقتين فإنما يسكت لنفسه، ومن ضج فإنما يضج عليها. ويريد من الرياح أن تقف لتتعلم هذا الإسم بعد أن طربت بألحانه، ومن السموات أن تسترجعه وتردده بعد أن ثَملت بخمرة عرفانه: فقد (خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً).
(14 - إن العواصف والإعصار، والأرض والنيران والبحار، خليقة أن تسكن لسماعه!
وإن الرياح الطَّروبَ بألحانه، حرَّيةٌ أن تقف لعرفانه، والسموات لاسترجاعه!)
وما أحوج المتألم إلى ذكر هذا الإسم العظيم وترداده، لأن لموسيقاه رنة تشفي السقيم؛ ومن أجد من لامرتين بالراحة وهو تعب، وبالشفاء وهو عليل، وبالسرور وهو حزين؟
لقد كان في الأثناء مضطرب الفكر، موزع النفس، متزايل المشاعر، حتى أنه نظم قصيدته المعروفة (ما لورحي حزينة فلم يكن أحب إلى قلبه من وسيلة يتحول بها من أزمات نفسه الحادة إلى السكينة والاستقرار
ألا وإنه قد وجد هذه الوسيلة، وهي التي ستأسو ما جرحته يد الحياة، وهي التي ستحيل وادي أزاحه جنة أفراح. فليقذف بحزنه بعيداً، وليلق بأسأه ظهرياً، وليستدبر كل ما يعكر عين قلبه، وليستقبل الحياة من جديد برضا وارتياح!
وتغمره السعادة وتلابس روحه، ويضع في كفه ميزان ما نال من لذتها الحاضرة وفي كفة أخرى ما لازمه من ألم التعاسة الماضية، فيجد نعيمه أرجح، ويلقي التذاذه أغلب، فلا يقيم لطول الزمن وقصره وزناً، ويرى أن لحظة إيمانه تعادل إعدام حياته، ويخشى أن تفارقه هذه السعادة التي لا يمكن أن تدوم لأنها بسعادة الملائكة أشبه، وهي بين البشر كالنسيم المعطِر يضوع بنقحاته، ثم يعود من حيث أقبل تاركاً هذا المأخوذ برائحته للأعاصير والعواصف، وللرياح والأنواء، يغالبها وتغالبه ويصارعها فتصرعه.
خاف أن تزايله هذه السعادة إذا بقى على قيد الحياة، فتمنى أن تكون ختام حياته، وآخر لحظاته، ليلقى الحقيقة التي سعى إليها بوجه ناضر، وليقف في أول شاطئ ما لخضمه من آخر: فأرسل هذه الأبيات الأخيرة بحرارة الشاعر، وحماسة المؤمن:
(15 - هذا الإسم وحده معاداً غير ممنون قمينٌ أن يأسو سقامي في هذا الوادي من الآلام!
فجدير بي أن أهتف غير محزون: لينصرمْ آخرُ أيامي، فقد مجدت الإله، ومرحى بالحمام!)
وإنك لتجس في هذه القصيدة روحاً متصوفة تذكرك بالذين سلفوا من أصحاب النزعة الروحية المجردة، فمن أين لهذا الشاعر مثل هذه الروح؟
ويزول عجلك متى علمت أن لامرتين - وإن لم يتلق التصوف علماً، أو يذقه مسلكا - كان صوفي المزاج، مستعداً للترهب لو تهيأت له الظروف لنشأته في بيت يقدس التقى والزهد والعفاف.
وإني لشاعر في قرارة نفسي بأن هذا المقال موجه إلى طائفة من الناس تتذوقه، وقد يقرؤه غيرهم فلا يجدون الحلاوة التي وجدوها. ولقد أحسن لامرتين إذ وجه هذه القصيدة مع قصائد أخرى من نوها تجاوز الأربعين في ديوانه (أنغام شعرية ودينية طائفة خاصة وصفها في مقدمة الطبعة الأولى بقوله:
(في هذه الدنيا قلوب حطمها الألم، ونبذها المجتمع، تنزع إلى عالم أفكارها وإلى عزلة أرواحها لتبكي او تنظر أو تعبد. فهل أطمع أن يدعو أصحابها أشعارٌ تقدس العزلة كما يقدسونها إلى الشعور بالارتياح نحو أنغامها، وأن يقولوا أحياناً إذا أصاخوا إليها: (إننا لندعو بأقوالك، ونبكي بدموعك، ونبتهل بأناشيدك؟).
لو أن بعض هذه الأرواح التي ليست في هذا العالم مطلقاً تستجيب في سرها لأصواتي الخافتة الضعيفة. ولو أن بعض القلوب التي ما زالت قاسية تتفتح وتذرف دمعة جديدة؛ ولو أن بعض هاتيك الأرواح الحساسة التقية تفهمني وتعرفني وتبلغ سويداء قلبي وتُتِمُّ بينها وبين نفسها ألحاناً لم أزد على أن ضربت على بعض أوتارها فإن هذا حسبي، وإن هذا لغاية متمناي، بل إن هذا لأبعد من أن أرجوه!) وإني لأتمثل بهذه الكلمة الجياشة بأنبل العواطف الإنسانية في توجيه هذا المقال الذي أرجو مخلصاً أن يكون فاتحة لهذه الموضوعات.
وبعد. . . فهذه أمنية الشاعر كما صورها لامرتين: روح تسبح، وخيال يحلق، وقلب يؤمن، وسعادة تغمر، ورضا واطمئنان يجملان الحياة.
صبحي إبراهيم الصالح