الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 76/من أدب الزراعة

مجلة الرسالة/العدد 76/من أدب الزراعة

بتاريخ: 17 - 12 - 1934

2 - من أدب الزراعة

للأستاذ محمد محمود جلال

تمر اليوم بالحقل فتقر عيناك ببساط سندسي وقد نبت البريسم فحلى عاطل الأرض بعد أن كان حباً ميتاً يوم جيء به من المحزن فبذر في ظل الذرة نامية السوق ناضرة اللون فتتمثل بقول الصانع الحكيم (يخرج الحي من الميت). . . ولكل نبت من شعرات البساط مهما دق روح وخصائص للنمو والتزاوج والأزهار والأثمار

يروقك المنظر بعد أن انجلى عنه ما كان يشوبه منذ أيام من سوق يبست فثقلت على النفس، وهانت على الزمن، فناداها أجلها فانتهت أشبه ما تكون بعهد الظلم أو بالظلام عفي ضياء العدل أو ضوء الشمس آثاره

حبذا الحدود تضع لكل مخلوق دوراً، وحبذا التزامها، وما أنكر الطغيان!

قال رسول الله ﷺ (من أخذ من الدنيا فوق حاجته أخذ حتفه وهو لا يشعر)

ولكن الخير المحض لا وجود له في الدنيا، وكذلك لم يخل الله مخلوقا من نفع، فذاك اليبس في السوق، وتلك الضآلة في منظر الذرة حين تجف، إنما تحمل مادة الحياة وغذاء الغالبية العظمى

تلك الأمطار المثقلة أشبه بثمار التجارب وعميق الفكر، لا تنضج إلا في استواء العمر وأواخر الحياة، فيكثر الإطراق والإغضاء اتساعاً للناس على علم من الحياة، ورحمة بالعاني والخاطئ، وتحبب إلى النفس العزلة والانزواء، فيسعى إلى أهل الرأي والتجربة رائدو الحكمة وطالبو العلم كما يسعى الناس إلى التمون من تلك الثمار الجافة حيثما وجدت

وفي مظاهر الهدوء والإطراق سمة الاتعاظ والبعد عن الزهو والصلف، وهي مظاهر لا تلقاها إلا حيث تلقى الفضل والنبل، بل هي سياجهما وشارتهما كما يقول المرحوم شوقي بك:

ومن لمّ يجمل فضله بتواضع ... يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر

على أن هذا البساط الذي يأخذ بالأبصار، ويضفي اليوم على الوادي ثوباً قشيباً حبيباً، إنما نبت في كنف غيره، وإنما كفله واخذ بيده سواه ففي دفء (الذرة) يوم كانت حلية الأرض تغذى، وفي حمى سوقها التي تزدري اليوم ازدهر. فكانت له الأب البار، أو الوصي الأمين، حتى تم الدور فتخلت ناعمة لسعيها راضية. قدمت الخير واطمأنت، وما خلفته إلا حين رأت فيه القدرة على بدء دوره

معان للتعاون وربط أدوار الحياة ببعضها. (وفي الأرض آيات للموقنين). ومنذ آلاف السنين تمر قوافل الأجيال منا في كنف الوادي الأمين بتلك العظات، وتتصفح أخراها تاريخ أولاها، وتتبين العز يكلل جبين القوم متحداً، وسيف الذل مسلطاً على رقابه متفرقاً:

عظة قومي بها أولى وإن ... بعد العهد فهل يعتبرون

أجل، لا يعتبرون ولو تكررت العظة في كل موسم. .!!

فإذا أشحنا عن منظر لا يروق، ردنا إليه الذكر حين ندرك يده فيما يروق، وفاء للغابر، وعرفاناً للجميل:

ومن شكر المناجم محسنات ... إذا التبر انجلى شكر الترابا

والحياة مزيج، فهنا تلقى بقعة من منضور النبت حالية، وهناك تلقى قطعة من بهجة الأرض عاطلة، بل قد ينفر سمعك من الاسم الذي يطلقه عليها (أدب الزراعة) فهي تسمى في العرف بوراً

هذا (البوار) مقدمة الخطبة، وهذه (البائرة) كثيرة الخاطبين فعطلها اليوم مؤقت، وخلوها قصير الأمد (وبورها) فأل الخير الدافق في المستقبل القريب

هذه القطع الخالية هي المعدة لزراعة القطن في الموسم القادم، فهي اليوم رهن التهيؤ والأعداد

(وبورها) كيوم الجمعة عندنا، تستجم فيه العافية، وكيوم الأحد عند غيرنا، جعلوه للراحة والتسلية، فإذا أقبل يوم السبت أو الاثنين فنشاط يفوق نشاط الأيام الأخرى

عاطلها اليوم كذوي النفع والخير المستخفين، أو الذين تقصيهم الأوضاع السقيمة وطغيان المتحكمين في البيئة كما قسمت الأرض لمحض فكرة الزارع في الكسب - حتى يأتي عدل الله، فيقيم المعوج، ويقصي الضار، ويظهر الحق، ولكل أجل كتاب

هذه القطع (البور) غمرها ماء النيل رجاء إخصابها، ولتجدن من بينها اليوم ما يأنس بالمحراث أنس الطروس بالأقلام، تسيل علماً وحكمةً وأدباً مروحاً، حتى إذا نظرت إليها نظرت إلى سطور خير في أسرع الصحف تلبية وإنتاجا

ولقد شاد بتلك الروعة الضابط العيوف (محمد توفيق علي) حين اضطر إلى ترك الصفوف وخدمة الجيش، وعكف في مزرعته يغذي ميداني الأدب والزراعة فقال:

ويا سطوراً بمحراثي أدبجها ... لا يستقل بها القرطاس والقلم

أما (المحراث) الذي يشق لنا الأرض اليوم ليفتح سيل الخير غداً فقد جاءنا بأكثر من احتلال واحد

فإذا ذكرت (قصر النيل) ومآله، (وقشلاق العباسية) وعاره، فإنك واجد في أعماق الريف وأينما سرت فوق التربة المصرية (فوردسن) و (لانس) و (هوفر) من معادن غريبة عنا، وبائعين لا يذكرون لنا من حسنة الاسداد (القسط)، فإذا أردنا للمحراث حركة، فلا بد من (البنزين) من أمريكا، (والقار) من رومانيا، والزيوت من أصقاع نائية

وأما تلك الأوراق التي يوقعها الزارع. فغذاء للمحاكم المختلطة، وجن يحمل المال من مصر إلى أوربا، وآفة من آفات الإهمال قضت على إحدى صناعات الزراعة، وهي تربية الماشية، ودهورت أسعار الحبوب والزروع من فول وشعير وعلف، كانت تحمل من أرضنا إلى موانينا، ونؤدي الثمن في المنيا والخرطوم، فلا تعدو خيراته الإسكندرية، ثم يعود في أبواب أخرى إلى المدينتين وسواهما من مدن القطر المصري السوداني وبلاده وقراه!

محمد محمود جلال المحامي