الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 76/عظمة الكون بسعة وأنظمة

مجلة الرسالة/العدد 76/عظمة الكون بسعة وأنظمة

مجلة الرسالة - العدد 76
عظمة الكون بسعة وأنظمة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 12 - 1934


ربنا ما خلقت هذا باطلاً!

للأستاذ قدري حافظ طوقان

قد يستغرب القارئ إذا قيل له إن شمسنا ما هي إلا واحدة من شموس لا عد لها، وقد يزيد استغرابه إذا قيل له أيضا إنه بتلسكوب جبل ولسون الذي قطر عدسته العاكس متران ونصف متر، وبالوسائل المتعددة للتصوير بالفوتغراف استطاع العلماء أن يكتشفوا أن مجرتنا تتكون من ألوف من الملايين من النجوم، وأن وراء ذلك مجرات وجزرا كونيه أخرى يربو عددها على ملايين عديدة

قد يظن البعض أن الكون على هذه الحال مزدحم وليس فيه فراغ، وأنه ملآن بالعوالم والأجرام، ولكن الثابت أن كل هذه العوالم والأكوان لا تشغل إلا حيزاً صغيراً جداً بالنسبة للكون الأعظم، وأننا في خضم من الفراغ، وأن الفضاء أفرغ من أي شيء نستطيع تصوره. ليتصور القارئ وجود ثلاث نحلات في قارة أوروبا وعندئذ يكون هواؤها لا يزال أكثر ازدحاماً بالنحل من ازدحام الفضاء بالنجوم في أجزائه التي نعرفها. إن الأمواج اللاسلكية التي تسير بأعظم سرعة نعرفها (سرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية)، هذه السرعة تصل المريخ في دقيقتين، ولكن قد يذهل البعض إذا علم أن هذه الإشارات تحتاج إلى سنين، بل إلى مئات وألوف منها لتصل إلى سيارات بعض النجوم الموجودة خارج مجرتنا؛ وقد لا يصدق البعض الآخر إذا قيل له إن أقصى السدائم التي نراها في الفضاء يبلغ بعدها (140) مليون سنة ضوئية، أي أن ضوءها يستغرق 140 مليون سنة في الوصول إلينا. وسيكشف لنا العلم بوسائله المتعددة عن سدم أبعد من هذه بكثير

يظهر مما مر أن المسافات التي تفصل بين الأجرام السماوية شاسعة جداً قد لا يستطيع العقل البشري تصورها، وأن الكون أعظم مما نتصور، وكلما تقدم الإنسان في ميدان المدنية على اختلاف مناحيها تتجلى له عظمة هذا العالم وروعة هذا الكون، وتتجلى له غرائبه بما يخلب اللب ويدهش العقل ويحير الفكر

ومن يبحث في هذا الكون العظيم ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر عليه يجد أن لا شيء فيه ألا ويسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن لكل شيء سبباً، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها. . . فالمادة تتألف من الجواهر الفردة، وهذه تتألف من كهربائية سالبة تسمى كهرباً، وكهربائية موجبة تسمى نواة؛ والكهارب تدور حول النوايا في أفلاك، وهذا التركيب وما فيه من نظام وما يسوده من قوانين يشبه النظام الشمسي، فهو مجموعة شمسية مصغرة، فالنواة تقابلها الشمس، والكهارب تقابلها السيارات دائرة في أفلاكها حول الشمس، وتصدق هذه المقارنة على حجوم الكهارب والنوايا وعلى المسافات؛ فلقد ثبت أن نسبة حجم الكهرب إلى النواة تقارب النسبة بين حجم أحد السيارات المتوسطة والشمس. مما تقدم ومن نتائج بحوث علماء الفلك يظهر أن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، والنظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد: في الكهارب وفي النوايا؛ والقوانين التي تسيطر على الأولى تسيطر على الأخيرة، أي أن الكون في أصغر موجوداته وأكبرها سار ويسير حسب نظام مخصوص وحسب قوانين ثابتة اكتشف الإنسان بعضها، وأن موجودات هذا العالم أيضا متصل بعضها ببعض لا يستغني أحدهما عن الآخر، وأنه ما من شيء خلق لنفسه أو يقدر أن يعمل شيئا بدون غيره، والجوهر الفرد بألكتروناته ونواياه هو أصل كل شيء في الوجود، في الأرض، في السيارات، في الشمس، في النجوم. . . . والعلاقة بين كل هذه متينة والرابطة أمتن، علاقة التشابه ورابطة التركيب؛ فمن الذرات الكهربائية تكونت الجواهر الفردة، ومن الجواهر الفردة تكونت الدقائق التي منها تتكون المادة، ومن ذلك أصل النظام الشمسي والأنظمة الشمسية الأخرى وما فيها من نجوم وسدم وسيارات ومذنبات وشهب الخ. . . .

والآن. . . نأتي إلى الإنسان. . . . ما علاقته بهذا الكون؟ ما مقامه؟ بينما نرى الإنسان كبيراً جداً جدا بالنسبة إلى الجواهر الفردة، إذ وزنه يعدل ألف مليون مليون مليون مليون جوهر فرد، نراه في الوقت ذاته صغيراً جداً جداً بالنسبة إلى أحد الكواكب المتوسطة القدر التي وزنها يعدل عشرة آلاف مليون مليون مليون مليون رجل. . . . . . . . . .

من هنا نرى أن الإنسان يكاد يكون متوسطاً بين الجواهر الفردة والكواكب، ومن هذه النقطة المتوسطة يستطيع (الإنسان) أن يكشف عن طبيعة الأشياء الصغيرة من جهة، والأشياء الكبيرة من جهة أخرى بفضل ما وهبه الله من الصفات العقلية والروحية

قد يقول البعض إن الإنسان استطاع أن يصل إلى نقطة قد تساعده على فهم أسرار هذا الوجود، وعلى الكشف عن غوامضه والوقوف على حقيقته

ولكن مهلاً. . . . كلما تقدم الإنسان في الكشف عن قوانين الطبيعة وفي تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضالته وجهله وبأنه لم يكتشف شيئاً بعد، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية، وفي أول مراحل التفكير الجدي في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به، شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة العليا من التواضع وسمو الخلق؛ ولا عجب في ذلك، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعا كذرة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة

وفوق ذلك فأجزاء هذا العالم مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يستطيع أي جزء أن يسير بدون غيره، والإنسان مرتبط بأخيه الإنسان، وهذه كرته التي يعيش عليها وما فيها من حيوان وجماد ونبات، لها علاقات مباشرة وغير مباشرة مع غيرها من الكواكب والنجوم؛ فلولا الشمس لما عاش النبات والحيوان والإنسان، ولولا القمر لأختل نظام التجارة، ولولا الكواكب والنجوم وجذب بعضها لبعض لما استطاع أن يحفظ كل نجم أو كوكب مركزه في هذا الوجود، ولسادت الفوضى وعم البلاء. وعلى هذه الحال، فالعالم مترابطة أجزاؤه، تسيطر عليها أنظمة وتتولاها قوانين لا تتعداها ولا تشذ عنها. والذي لا ريب فيه أن هذا الكون لم يوجد من تلقاء نفسه، إذ لو كان كذلك لما رأينا فيه (أي في الكون) هذا النظام وهذا التنسيق، بل إن هناك قوة خارقة منسقة منظمة، لا يحيط بها عقلنا، بل هي تحيط بنا وبهذا الوجود من كل نواحيه. أوجدت هذا الكون الأعظم وجعلته يسير ضمن نواميس ثابتة. ومهمتنا نحن البشر أن نزيد معارفنا عن هذه النواميس ونبحث في أصولها، وكلما زدنا معرفة بها زدنا اعتقاداً بقدرة الله الخارقة المنظمة، وأيماناً بعظمته وقوة إبداعه، وظهر لنا بجلاء مقام الإنسان في هذا الكون الذي لم يخلق باطلا

هذا الاعتقاد، وذاك الإيمان إذ رسخا عن طريق الدرس والبحث فانهما يسموان بصاحبهما إلى عالم أسمى من عالمنا، وفي هذا لذة روحية هي أسمى أنواع الملذات. . .

(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك. . .)

قدري حافظ طوقان