مجلة الرسالة/العدد 76/أين انتم يا أحبائي؟
→ الدعوة إلى القصص | مجلة الرسالة - العدد 76 أين انتم يا أحبائي؟ [[مؤلف:|]] |
عظمة الكون بسعة وأنظمة ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1934 |
للأستاذ محمد سعيد العريان
الغد. . . . إن الغد ليتراءى لي خلف ضباب المنى كأني من توهمه أستعيد تاريخا غبر لا يفصلني منه إلا ما فات من أيامي: وإني لأرى من خلفه ثلاثة أحباب كأنما كنا معاً ثم افترقنا إلى ميعاد!
هأنذا في الفلك مرتفق إلى حافته، والموج من حولي يعج ويصخب، والنسيم يصافح خدي فأسمع في دمدمته أصداء ذكرى بعيدة، طوفت ما طوفت ثم عادت تترامى إلى أذني خافتة من طول ما أعيت في مجاهل الزمان. . .!
وهاهي ذي إلى جانبي في الفلك مرتفقة إلى ذراعي، قد عطفها علي خوف البحر لتلتمس الأمان من قربي، فما ركبت البحر من قبل ولا كان لها بهدهدة الفلك عهد
قلت لها: (أتخشين البحر؟)
قالت: (بل أخشى الفراق!)
قلت: (فإنني إلى جانبك فما يفزعك؟)
قالت: (حبذا أن يكون هذا حقيقة! أهذا هو البحر، وتلك هي السماء، وهذا أنت؟ فما بي خوف البحر وإنك إلى جانبي، ولكني أريد لك أن تعيش!)
وهدأ البحر واملست صفحته، وراح الفلك يشق الماء في لين وخفة، وإن له لموسيقى هادئة فيها عذوبة الأمل الواثق ونشوة السعادة الراضية
وثابت إلى نفسها، فراحت تنقل الطرف من هنا إلى هناك وفي ابتسامتها معان من الغبطة وفي عينيها نظرات. . .
قالت: (أتسمع إلى هذه الموسيقى؟ فإنها لمن نفسي وفي نفسي!)
قلت: (ما أحب إلي أن أبقى إلى جانبك الدهر نستمع إلى أغاني الحب في خرير الماء وهمس النسيم، ونمتد في أحلام السعادة ما امتدت بنا الحياة!)
قالت: (أئنك لتقرأ ما في نفسي، فما أعدل بما نحن فيه أن يكون لي الملك! أرأيت في الحياة ملكاً يعدل قلبين يؤلف بينهما الحب؟)
ورأيت على الشاطئ القريب قصراً قائماً، تلوح النعمة من شرفاته ويستعلن الغنى قلت: (أفلا تودين أن يكون لنا هذا القصر، نعيش للحب في افيائه ونستظل منه بوارف السعادة؟)
قالت: (ما أتمنى لهذا الحب أن يتعلق من أوهام الأرض بمثل ذاك! ليتني وإياك على رمث في البحر ليس لنا إلا البحر، أو في كوخ من قش على حدود الدنيا ليس لنا إلا حدود الدنيا، أو كهف من جبل في طريق الصحراء ليس لنا إلا الصحراء، فهناك سمو الحب لا حيث ترى الآن. .! ما لنا وللناس يا حبيبي نطاولهم بالطين والتراب؟ وإنما الحب قلب لقلب، ودنيا من وراء الدنيا. أنا وأنت هما كل الناس، ويومنا هو الزمان، ومجلسنا العين في العين، والجنب إلى الجنب، هو الدنيا كلها ما تتسع لغيره، ولا تمتد لسواه؟
ورسا بنا الفلك على خضراء مزهرة، فانسابت هي في الطريق على حذر ورقبة، وخلفتني هناك أنتظر. . .
باويح الشباب من أحلامه! متى تعود إلى جانبي، فنعيش الروح للروح، والنفس للنفس؟ لقد طالت بها النوى وما آبت
ومضيت أتوكأ على نفسي في ظلال الروض، أتمثلها في كل منعطف وكل ثنية، وإن عيني لتأخذان الطريق، وإن الزهرة لتهمس في أذن أختها: (لقد كانت هنا ثم لم تكن!)، وإن الغصن الناضر ليشير بإصبعه إلى هناك؛ وكل شيء من حوله قد مسته الحياة، ونفخ فيه الحب روحا من روحه، إلا. . . إلا قلبي؟
وتهاويت على مقعد بين ملتف الحدائق، فأغمضت عيني وإنني ليقظان، وسمعت من خلل الغصون حمامة تقول لأختها (انظري! هل يعرف السلام من عرف الحب؟)
ودقت بجناحيها فطرفت عيني، ثم علت فأمعنت في الجو تصعيدا، وإن عبارتها لترن في آذني؛ وفتحت عيني فإذا هي إلى جانبي. .!
قلت: (أهذا أنت يا حبيبي! ما أصبرك على البعاد!)
قالت: (فانك ما تزال هنا، لقد كنت على يقين بأنك تنتظر!)
قلت: (وأين لي أن ألتمس السعادة في غير دنياك، وكيف لي أن أمل الثواء هنا، ومعي خيالك، وأنا منك على ميعاد؟)
وذهبنا نخطر جنبا إلى جنب، وإن قلبي ليتحدث، وإن قلبها ليجيب، وإن المنى لتبتسم! وطوينا الطريق في خطوات، وإذا نحن في بيت يجمع من أمرنا ما تفرق، نطل من شرفاته على ذلك النهر الذي شهد بكرة هذا الحب ووعى ذكريات هذا الغرام، وإن له لحديقة تزهر فيها الأماني وتتفتح الأحلام
ورحنا نمرح في جنبات الدار كأسعد عاشقين أتم عليهما الحب نعمته وأسبغ أمنه. فإذا دنا المساء فذراعها إلى ذراعي في الحدائق الفينانة والملاعب الساهرة؛ فما في الناس إلا من يعرفنا فيتمنى ويرانا فيغبطنا!
وكنا في البيت فجاءت تسعى إلي ضاحكة مزهوة
قالت: (كيف ترى هذا الثوب يا حبيبي؟)
قلت: (إنك به لأكثر فتنة!)
قالت: (إنما صنعته بيدي، ولقد أدمت الإبرة إصبعي، ولكني بما أصابها لسعيدة! أرأيت يا حبيبي إنني لا أشتري جمالي من السوق، ولا ألتمسه عند الخياطة؟)
قلت: (إنني بك فخور!)
قالت: (بل قل بربك إنك تحبني، وأترك لي وحدي نعمة الفخر بحبك!)
ثم لوت لتهيئ لنا الطعام. ما أشهى ما أكل من صنع يديها الجميلتين!
ومضيت في سبيلي إلى المجد اقتحم الصعب وهي من ورائي تدفعني إلى الجهاد وتضاعف في الأمل. فإذا أعياني الجهد ونالني التعب وتكاءدتني عقبات الطريق - مالت علي تهمس في أذني عاتبة:
(كيف تضيق بنفسك يا حبيبي وأنا إلى جانبك!)
يا الله! أكان هذا كله خيالاً من تلفيق الأحلام، تجمع من صورة إلى صورة دنيا تموج، ومن جزء إلى جزء عالماً مصوراً من المنى التي نلتمسها في اليقظة فلا نراها. . .؟
لا أكاد أصدق من طول ما تتراءى لي هذه الصور أنها غير حقيقية! فهأنذا ما أزال أفتش عنها. . . عنها هي، واثقاً أنني سأجد عندها تعبير أحلامي. . .!
ويحي؟ أين هي الآن مني؟ أتراني ألقاها في الخيال على غفلة منها، أم أنا من فكرها في مثل موضعها من فكري فنحن نلتقي على ميعاد؟
ألا كم يفعل الحب من معجزات! أنه ليضاعف وجود العاشقين إذ يلتقيان على البعاد في دنيا الوهم، فهي معي هنا، وأنا معها هناك. . .!
ومضيت على وجهي أتنفس في الحقول المبسوطة مد البصر وهرول إلي صبي ضاحك مبسوط اليدين
قال: (أبي! أنت هنا؟ لقد نشدتك طويلاً فما بلغت إليك نفسي!)
قلت: (أهذا أنت يا ولدي؛ ما بيدك؟)
قال: (هي زهرة جميلة، سأغرسها في حديقة الدار تنفح العطر وتبعث البهجة والجمال؛ سيسر أمي أن تراها. . . أين أمي، لماذا لا أراها هنا؟)
قلت: (أمك؟ حسبتها معك، أتعرف أين ألقاها؟ فقد نشدتكما طويلاً؛ إن الدار من دونكما خلاء!)
قال: (آه، سأذهب لأدعوها فأنها في انتظارك من زمان. . .!)
ويلي! هي هناك تنتظر وأنا هنا؛ فما لنا لم نلتق من زمان؟
ومضى الصبي يبحث عن أمه، وإن عينيه لتنظران إلى الخلف يستوقفني إلى أن يعود!
إن الولد لأبويه هو الجب والحنان والرحمة؛ هذا هو يسعى ليجمع الحبيبين وما التقيا قبلها مرة، فإذا تم له أن يخرج إلى الحياة يمرح بين أبويه فانه لعقدة الحب ووثائق الأبد
أرأيت إلى الزوجين إذ ينفث الشيطان نفثته فتفترق أجسادهما؛ أتراهما يفترقان حقيقة وبينهما غلام؟ ألا إن خواطرهما لتلتقي عنده على طواعية ورضى في كل لحظة مرات، وإن لم يتراءيا وجها لوجه. . .!
مضى الصبي يبحث. . . وأنا لا أزال أبحث
أنا إلى الآن رجل عزب يحلم. . . وابني إلى الآن لا يزال في الغيب، يستجديني الحياة مني ومن أمه التي لم أعرفها بعد، ولا أزال أبحث عنها، وهي لا تزال تبحث عني. . .!
أين أنت يا ولدي؟
أتراك تعود إليّ حياً كأولاد الدنيا، أم كنت ومضة أمل برقت لعيني خاطفة في الحلم، ثم توارت كلمحة البرق في ظلال السماء!
أي زوجتي التي لم أعرفها لأني لم أرها بعد!
أي زوجتي التي تنتظر وراء الستر حالمةً ترقب الميعاد! أي ولدي الذي يتوارى خلف الغيب ينادي أباه وأمه!
يا أحبائي الذين يبحثون عني كما أبحث عنهم منذ سنين وسنين وسنين؛ أما آن لنا أن نلتقي حتى ألقى النعم الثلاث في زوجتي وولدي وفتاتي؟
أين أنتم يا أحبائي. . .؟
طنطا
محمد سعيد العريان