مجلة الرسالة/العدد 76/بين فن التاريخ وفن الحرب
→ أسطورة حديثة | مجلة الرسالة - العدد 76 بين فن التاريخ وفن الحرب [[مؤلف:|]] |
إلى مؤتمر الفردوسي ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1934 |
12 - خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
الصفحة الثالثة
جرى القتال في هذه الصفحة حول الحديقة، والحديقة تشمل بساتين القرية المسورة بالجدران. وهذه البساتين كثيرة في قرى اليمامة. والكثير من قرى العارض والوشم والقصيم والسدير له بساتين. فبساتين القرية على ما يتراءى لنا واقعة في بطن الوادي، ولا يعقل أن تكون على صدفة لصعوبة استقاء الماء لأرواءها، لأن الآبار على ما نعلم في بطن الوادي تتصرف إليها مياه الأمطار
ويذكر المستر فلبي عندما يبحث في الجبيلة إنها واقعة على الضفة اليمنى من الوادي، وأن قبور الصحابة الذين قتلوا في عقرباء موجودة في الضفة المقابلة لقرية الجبيلة وعلى مسافة ربع ميل منها. وهذا مما يدل على أن الحديقة واقعة في الوادي تحيط بها الجدران المبنية بالحجر والطين وعلوها، أكثر من قامة كما هو شأن الجدران التي تحيط بالبساتين عندنا
ولبي الحنفيون نداء المحكم فهجروا ميدان القتال تاركين قتلاهم فيه لدخول الحديقة واعتصموا بها مؤملين المقاومة فيها
وطارد المسلمون بني حنيفة إلى الحديقة فأحاطوا بها وتوقفوا مدة من الزمن مترددين. وكان التجاء الحنفيين إلى الحديقة وبالاً عليهم
ويظهر من أخبار الرواة أن مسيلمة قتل في أثناء الهزيمة إلى الحديقة برمية حربة. وقد ادعى عدة أناس قتله. وكل فرقة من فرق المسلمين أرادت الاشتراك في قتله. وكان للحديقة باب أغلقه المنهزمون بعد أن دخلوها وقرروا المقاومة فيها إلى اللحظة الأخيرة وبعد أن تريث المسلمون ردحاً من الزمن، مترددين فيما يفعلون، صرخ فيهم البراء بن مالك قائلاً: (احملوني إلى الجدار حتى تطرحوني عليه). فساعدوه على التسلق ومع أن رواية ابن إسحاق تزعم أن البراء وحده تسلق الجدار فاقتحم الحديقة وقاتل الحنفيين على الباب حتى فتحه للمسلمين، إلا أننا نجزم أن رجالاً آخرين تسلقوا معه الجدار وكان بعضهم على الباب
وبعد أن دخل المسلمون الحديقة أوقعوا بالحنفيين إيقاعا ذريعاً، وكانت مذبحة لم يشهد المسلمون مثلها وقد سموها حديقة الموت، ومع أن روايات الطبري جميعاً تروي أن المسلمين قتلوا جميع الحنفيين في الحديقة، إلا أن رواية ينقلها ابن حبيش تزعم أن بعض الحنفيين فر من الحديقة بعد أن دخلها المسلمون
وفي رواية يذكرها ابن حبيش والبلاذري أن نساء المسلمين أيضا اشتركن في المعركة. ولقد كسب المسلمون المعركة بعد أن حاربوا من الصباح إلى العصر، ولم يعلموا بهول المصيبة إلا بعد أن توقفت رحى القتال وراحوا يكشفون عن القتلى في الميدان
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري الذي اشترك في القتال أن خالداً أمر السقاة بعد صلاة العصر أن يسقوا الجرحى، وكان أبو عقيل بين الجرحى فيه خمسة عشر جرحاً. أما بشر بن عبد الله فكانت أمعاؤه خارجه من بطنه. وكل هذا يدل على شدة القتال
الخسائر
يبالغ المؤخرون في تقدير خسائر الحنفيين. فسيف بن عمر مثلاً يزعم أن قتلى بني حنيفة بلغوا عشرة آلاف في المعركة وفي القتال في حديقة الموت. وفي رواية أخرى يزعم أن عدد قتلى بني حنيفة بلغ واحداً وعشرين الفاً، سبعة آلاف منهم في المعركة وسبعة آلاف في حديقة الموت وسبعة آلاف في المطاردة
ولكننا نستبعد هذا العدد، إذ سبق أن ذكرنا أن قوة الحنفيين في معركة عقرباء بلغت عشرة آلاف مقاتل. والثابت أن بني حنيفة كابدوا خسائر فادحة سواء في ميدان المعركة لثباتهم في محلهم، أم في الحديقة لأنهم بالتجائهم إليها مكنوا المسلمين من أن يقطعوا عليهم خط الانسحاب فقضوا عليهم القضاء المبرم. ولعل عدد قتلاهم بلغ اكثر من ثلاثة آلاف. ومما يدل على كثرة القتلى في بني حنيفة اندثار اسمهم بعد هذه المعركة وعدم اشتراكهم في الفتوح. ويقول البرنس كاتياني في كتابه الآنف الذكر (إن محدثي المسلمين يبالغون في ذكر خسائر بني حنيفة. فانهم يذكرون أن كل ذكر بلغ سن الرشد قتل في المعركة. ومع ذلك فان أحد الأدلة التي تدل على أن الحنفيين كابدوا خسائر لا تتناسب مع عددهم هو أن هذه القبيلة التي كانت قبل الإسلام كثيرة النفوس مرفهة العيش إن لم يكن لديها شيء فان كثرة عددها وحده يجب أن يجعلها ذات حصة كبيرة في المعارك التي نشبت بعد ذلك. ولكننا نرى أن ذكر هذه القبيلة يكاد يدرس تماماً من تاريخ الإسلام، وأن اسم الحنفيين لا يذكر على الإطلاق حتى على انفراد)
أما خسائر المسلمين فكانت كثيرة بالنسبة إلى عددهم أو مقدار الخسائر التي كابدوها في المعارك السابقة. فالروايات في عدد قتلى المسلمين مختلفة، فهي متفاوتة بين. 500 و1700. ويروي عيسى بن سهل عن جده رافع أن قتلى المسلمين بلغ عددها نصف قتلى الحنفيين، وأن الأنصار وحدهم (وكان عددهم خمسمائة مقاتل) خسروا سبعين قتيلاً ومائتي جريح. أما أبو سعيد الخدري فيزعم أن عدد قتلى الأنصار بلغ سبعين، ويقول زيد بن طلحة أن قتلى المهاجرين بلغوا السبعين وقتلى الأنصار بلغوا السبعين أيضا وأن مجموع قتلى باقي المسلمين بلغ الخمسمائة.
أما سالم بن عبد الله بن عمر فيذكر أن مجموع قتلى المسلمين بلغ الستمائة. وأما البلاذري فيقول: (وقد اختلفوا في عدة من استشهد في اليمامة فأقل ما ذكروه من مبلغها سبعمائة وأكثر ذلك ألف وسبعمائة. وقال بعضهم إن عدتهم ألف ومائتان، والذي يلوح لنا أن هذا العدد الأخير هو الأصح. وهو يؤيد الرواية التي يرويها الطبري نقلاً عن سهل إذ يقول: (قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمئة وستون، ومن المهاجرين من أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ستمائة أو يزيدون.)
وذكر المؤرخون أسماء الشهداء من المهاجرين والأنصار ونظموا قائمات بذلك. ويتضح من مطالعتها أن بين القتلى زيد بن الخطاب قائد القلب، وأبا حذيفة بن عتبة قائد الميمنة وشجاع بن وهب قائد الميسرة وقيس بن ثابت قائد الأنصار، ويدل كل ذلك على شدة القتال في المعركة يقول ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ... عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ... حجارته فيها من القوم بالدم
بعد المعركة:
بدأت المعركة صباحاً على ما ذكرناه فيما تقدم وانتهت عصراً ولم يبق وقت للمطاردة. وقد نهك التعب قوى المسلمين وأضاعوا خيرة رجالهم، واستشهد اكثر حفظة القرآن. لذلك نجزم أن المسلمين قضوا ليلتهم في جوار الحديقة للترويح عن أنفسهم من عناء الحرب، تأهباً للمطاردة في اليوم التالي. ومع أن نتيجة المعركة كانت فاصلة لم تزل أرياف اليمامة في الخلف (وفيها المؤن والذخائر والقسم الذي لم يشترك في القتال من بني حنيفة)، والقرى في الأرياف جميعاً منيعة وفيها الحصون والأبراج
ويذكر الطبري نقلاً عن سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن إبي بكر طلبا من خالد أن ينزل بالناس على الحصون. وكانا يقصدان بذلك ألا يترك مجالا للبقية الباقية من بني حنيفة لتستعد للمقاومة. أما خالد فلم يشأ محاصرة الحصون، بل رجح أن يوفد سريا الخيالة إلى الأطراف لتلتقط من ليس في الحصون، وكان يعلم أن منازلة الحصون تكبد المسلمين ولا سيما انهم اطلعوا على كبر المصيبة بعد أن تفقدوا القتلى. وكان من رأيه أن يلقي الرعب في قلوب بني حنيفة ويدهشهم بسرايا الخيالة التي تتجول في حيهم وتقبض على كل من تلقته. وشأنه في ذلك شأن القواد الذين لا يريدون أن يضيعوا الوقت في الحصار، ويتركوا فلول أعدائهم يفلتون من يدهم.
ولقد أصاب خالد في رأيه، لأن سريا الخيالة أصابت فحوت ما وجدت من مال ورجال ونساء وصبيان، فضمها إلى الغنائم في المعسكر
الصلح
اثبت خالد في عقده الصلح مع أهل اليمامة أنه سياسي حازم بقدر ما كان قائداً محنكاً
انتهت المعركة وقد خسر المسلمون خيرة رجالهم من الصحابة
أما القبائل فقد قتل منها رجال كثير. فالعراك من الصباح إلى العصر بتلك الشدة والمقاومة التي أبدأها الحنفيون، مما زاد في حنق المسلمين عليهم. وكانت القبائل تريد غنماً يوازي التضحية التي تحملتها. أما الصحابة فأقل ما أرادوه العمل بوصية الخليفة وهي (ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان) والداعية الأذان - فإذا آذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن آذنوا سألوهم ما عليهم، فان أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم)
فبنوا حنيفة لم يجيبوا الداعية، بل قاتلوا المسلمين وقتلوا نخبة الصحابة وقضوا على حفظة القرآن. فكان عقابهم القتل عملاً بوصية الخليفة، فالروايات جميعاً تدل على أن الأنصار والمهاجرين كانوا يلحون على خالد بمعاملة بني حنيفة بصرامة
أما خالد بن الوليد فنظر في الصعوبات التي لقيها في التغلب على الحنفيين وتأمل عاقبة الشدة التي يظهرها نحوهم إن هم أبوا وقاوموا في حصونهم فامتنعوا بها. وقد دلت المعركة على انهم متفانون في التضحية. ولا بد من أنه علم أن حزباً من الحنفيين وعلى رأسه سليمة بن عمير يريد المقاومة حتى الموت. لذلك لم يتردد قط لما عرض مجاعة بن مرارة توسطه لعقد الصلح. وكان هذا أسيراً عند المسلمين وقد احتفظ به خالد ليستفيد منه. وكانت الشروط التي فرضها على مجاعة ثقيلة وهي تتلخص في أن يعطي الحنفيون كل ذهبهم وفضتهم وسلاحهم وخيلهم، وان يسبي جميع الأسرى
حمل مجاعة هذه الشروط وهو يضمر الخير لبني قومه ويريد أن يخفف حملهم بعد أن أصابهم ما أصابهم، لذلك أقام النساء والشيوخ على الحصون ليحمل المسلمين على الاعتقاد انهم يريدون الدفاع عن حصونهم. فرجع مجاعة وأخبر أن القوم لا يقبلون بهذه الشروط الثقيلة، وانهم عازمون على الدفاع حتى الموت. وبعد ذهاب وجيئة استطاع مجاعة أن يستميل الحزب المخالف إلى جانبه من جهة ويخفف من شدة الشروط من جهة أخرى
يتبع
طه الهاشمي