مجلة الرسالة/العدد 76/أسطورة حديثة
→ آخر طلق من بندقيتي | مجلة الرسالة - العدد 76 أسطورة حديثة [[مؤلف:|]] |
بين فن التاريخ وفن الحرب ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1934 |
قلب الشاعر
للأديب حسين شوقي
لما فرغ الآلهة من خلق العالم السفلي، دعوا إلى حضرتهم الشاعر الذي كان قد سئم الإقامة بجوارهم وقالوا له: (إن الحياة هنا كما نرى عابسة لا تسرك أيها الشاعر، إنك في حاجة إلى التسلية. . إذهب إلى العالم السفلي الذي فرغنا من خلقه عساك تسر بما تشاهد هنالك من مناظر وملاه، ولسوف تدهشك أخلاق الذين أسكناهم إياه. . إنما يجب أن نحذرك تعاطي مخدر يتناوله بنو البشر يدعى الحب، لأن هذا المخدر قتال وإن كان لذيذاً، وبخاصة لقلب شاعر رقيق. .)
انصرف الشاعر من حضرة الآلهة بعد أن سجد لهم شكراً على هذا العطف، ثم تناول مظلة ففتحها ثم هوى بها في الفضاء آخذاً طريقة إلى الأرض. . ما كاد شاعرنا يهبط حتى عرف أن البشر مقسمون إلى ثلاث طبقات: العظماء، والأوساط، والفقراء. . قصد الشاعر طبقة العظماء على ظن أن هذه الطبقة تجمع ولا شك خلاصة الناس وأرقاهم. . وهنالك وجد الشاعر قصوراً فخمة حليت جدرانها بالذهب وكسيت بالحرير، ولكن اشتدت دهشته حينما وجد حجرات هذه القصور قد انقلبت إلى معامل للدسائس يديرها الحقد، والطمع والغرور. . كما أنه شاهد في هذه القصور أناساً تبهر ثيابهم الأنظار بوشيها الفاخر العجيب، ولكن قلوبهم ويا للأسف! صيغت من النحاس. . أنصرف الشاعر عن هؤلاء العظماء وهو خانق لما شاهد فيهم من أخلاق لا تتفق ومثله العليا. . ثم قصد الطبقة الوسطى. . فوجد قوماً يجدون ويكدون في جمع المال، فإذا حصلوا عليه أخذوا يحاكون طبقة العظماء محاكاة القرد للإنسان. . عاف الشاعر هذا المنظر أيضا فانصرف إلى عالم الفقراء عساه يجد في النهاية مثله العليا لدى هذه الطبقة القانعة المتواضعة. . فوجد الشاعر قلوبا تحاكي الماس صفاء، ولكن وجد بجانبها ويا للأسف! بؤساً وانحطاطاً وأموراً لا تتفق وروح الشاعر الأرستقراطية. .
ضاق الشاعر بالبشر ذرعاً فقصد الخلاء، فرأى فيه أودية ناضرة، وأنهاراً زاخرة، وزهوراً بهيجة الألوان، وبلابل تكاد تنفجر حناجرها الصغيرة من كثرة الألحان. . حقا، ً كلها مناظ جميلة، ولكن أين هذه الطبيعة المتواضعة من حدائق الآلهة الغناء حيث كان مباحاً للشاعر النزهة والتروض في أي وقت شاء؟. . يئس الشاعر من العالم السفلي وكاد يعود إلى السماء، إلا أنه فكر في اللحظة الأخيرة في تناول مخدر الحب الذي حذرته منه الآلهة، لأن النفس تواقة بطبيعتها إلى استيعاب المحظور وكشف المستور
كان الشاعر كلما قصد صيدلية يسألها هذا المخدر شبعه أصحابها إما بالسخرية، وذلك إذا ظنوه مجنوناً، وإما بالغضب، وذلك إذا ظنوه عابثاً. . . ولما يئس من الحصول عليه، رجع إلى الخلاء فجلس هناك فوق ربوة في مكان تظلله شجرة صفصاف متهدلة الأغصان، وهو مطرق الرأس، فأطل عليه حينئذ ررزور فضولي من فوق غصن وقال: فيم تفكر أيها الشاعر الصديق؟ فقص عليه الشاعر قصته لعل هذا العصفور يهديه إلى ما يريد، فهو دائم الحركة والتنقل في حدائق البشر وحقولهم، فلا شك أنه يعرف عنهم أشياء كثيرة. . .
أغرب العصفور في الضحك من قول الشاعر حتى كاد يسقط من فوق غصنه وقال: تبحث عن الحب؟ هاكه! ثم أشار إلى مكان آخر من الربوة ظلله كذلك الشجر الكثيف، فنظر الشاعر حيث أشار فوجد فتاة آية في الحسن، تجلس وحدها تغزل الصوف. . أخذ الشاعر لجمالها الرائع وأدرك معنى الحب من نفسه حينما حل هذا الإكسير العجيب في قلبه. .
ثم أخذشاعرنا يتدفق في إنشاد الشعر فعجب من السهولة التي صار ينشده بها، ومن أن هذا الشعر أصبح أرق وأعذب من قبل. . ودهش من أمر هؤلاء الآلهة الذين يحرمون مثل هذا المخدر العجيب. .
ولما كانت الفتاة تختلف كل يوم إلى هذا المكان تقضي فيه ساعة أو ساعتين في غزل الصوف كان الشاعر يأتي لينظر إليها متأملا ملامح وجهها الفتانة في خشوع وإجلال، فإذا انصرفت أخذ ينشد هذه المحاسن في صوت جميل أيضاً، لأن أوتار صوته صارت ذات رنين كرنين الذهب من جراء الحب، حتى أن بلابل الوادي كانت تسكت إذا مر بها الشاعر لتصغي إلى قلب الشاعر وهو يبوح بأول حب له. .
ونقل الآلهة صوت الشاعر بواسطة الراديو وأخذوا يستمعون إليه وأخذوا يستمعون إليه في سرور عظيم. .
ثم انقطعت الفتاة عن المجيء إلى الربوة، فانقطع الشاعر عن الإنشاد. .
قلق الآلهة حينما انقطع إنشاد الشاعر، فأرسلوا رسولاً إلى الأرض يأتيهم بالخبر، وقد خيل إليهم لأول وهلة أن الانقطاع نشأ عن عطب في محطة الإذاعة. . فعاد الرسول بعد قليل من الزمن يقول: إن المحطة لم يصبها عطب، وإنما العطب وا أسفاه أصاب قلب الشاعر قتمزق قطعاً تحت شجرة الصفصاف!
كرمة ابن هاني
حسين شوقي