مجلة الرسالة/العدد 76/إلى مؤتمر الفردوسي
→ بين فن التاريخ وفن الحرب | مجلة الرسالة - العدد 76 إلى مؤتمر الفردوسي [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1934 |
2 - بين القاهرة وطوس
من قصر شيرين إلى همذان
للدكتور عبد الوهاب عزام
سرنا من قصر شيرين تلقاء كرمانشاهان، فمررنا بعد خمسين دقيقة بقرية ذهاب، ثم أصعدنا في جبل شامخ فسيح، فلبثنا بين قممه ووهاده نصف ساعة. وذلكم (كوة باطاق) أي الجبل ذو الطاق. سمي بطاق قديم قائم في منتصف هذه الطريق الجبلية (ثم انبسط بنا السهل نصف ساعة إلى قرية كرند، وهي قرية خضراء مشجرة، وبعد أربعين دقيقة وقفنا في شاه آباد، وهي قرية ذات بساتين فيها ضياع لجلالة الشاه، وباسمه سميت) وله بها دار صغيرة نزلنا بها، فاسترحنا قليلاً وشربنا الشاي، وأكلنا فاكهة طيبة، فيها عنب صغير جيد، وكان ذلك أول ما طعمنا من فاكهة إيران
ثم استمر بنا المسير فاجتزنا جبالاً أخرى إلى كرمانشاهان بعد ساعة وثلث من شاه آباد
وكرمانشاهان (قريسين) مدينة عامرة فيها شوارع جديدة واسعة، وأسواق كبيرة. وموقعها على درجة 34 من العرض، و47 من الطول، في بقعة طيبة الهواء يسقيها نهر قره صو. وهي على الجادة الكبرى من بغداد إلى همذان، تبعد عن كل منهما خمسا وستين ومائة كيلو. أنشأها الملوك الساسانيون، وكانوا يقيمون بها أحيانا. ونزلها في العصر الإسلامي الخليفة هارون الرشيد، وعضد الدولة البويهي، ولم تبلغ مكانة عظيمة إلا في القرن العاشر حين اتخذها الملوك الصفويون قاعدة لمحاربة الدولة العثمانية
والمدينة في وسط والية كرمانشاه. وهي الأرض التي قامت عليها الدولة الميدية القديمة، وفيها من المدن والقرى قصر شيرين وكرند وأسد آبار وكنكاور أو كنكور (وكانت تسمى في العصور الإسلامية الأولى قصر اللصوص) وبيستون ونهاوند وخرائب الدينور. وبها آثار عن الأكمينيين والساسانيين. وهي من أغنى ولايات إيران
نزلنا من المدينة في دار أحد كبرائها - معتمد الدولة. وهي دار جميلة ذات حديقة كبيرة. وفيها بناء على يسار الداخل استرحنا به وغسلنا عن وجوهنا غبار الطريق. ثم سرن الحديقة في مستوى به حوض كبير فصعدنا درجات كثيرة إلى مستوى آخر فيه حوض يسيل الماء منه إلى المستوى الأسفل مترقرقاً على درجات السلم فيملأ العين رواء. وعلى المستوى العالي بناء آخر صعدنا إليه درجات، فاجتمعنا للغداء وخطب معتمد الدولة مرحباً بنا، وأجابه أستاذنا سير دنسن رس. ثم أخذت صورتنا على الدرجات التي بين المستويين (وقد نشرت هذه الصورة في جريدة البلاغ). وانتقلنا من بعد إلى دار أخرى في أقصى المدينة لأحد الأعيان - أمير الكل، وهي دار واسعة بها حديقة جميلة، فيها أحواض ونافورات كثيرة، فتقسمنا حجراتها للمبيت. وهاتان الداران تشهدان بما لأهل إيران من كلف بالحدائق والمياه، وبراعة في تنسيقها
وخرجنا في المساء لنرى الآثار (طاق بستان) على أربعة كيلات من المدينة في لحف جبل شاهق مشرف على الجادة. وهو طاق من آثار الساسانيين يقابل داخله تمثال فارسي منحوت في الصخر، وهو فيما يظن تمثال كسرى برويز على فرسه شبديز، وبجانبه تمثال شيرين زوجه، وعلى جانبي الطاق نقش كثير يمثل الصيد في اليبس والماء وغير ذلك. وفي أعلى الجانب الأيسر صورة فتحعلي شاه وجماعة من رجاله منحوتة في الحجر. أراد ذلك الملك أن يزاحم كسرى برويز في داره والجبل فسيح، وأرض الله واسعة. وشبديز ومعناه (هادي الليل) فرس لكسرى برويز مشهور في قصص الفرس وشعرهم، وفي الشعر العربي أيضاً. ومما يقص عنه ما رواه ياقوت في المعجم: (وكان سبب صورته في هذه القرية انه كان أذكى الدواب، وأعظمها خلقة، وأظهرها خلقا، وأصبرها على طول الركض. وكان ملك الهند أهداه إلى الملك ابرويز. فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه؛ ولا ينحز ولا يزبد، وكانت استدارة حافره ستة أشبار. فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه، وعرف ابرويز ذلك، وقال لئن اخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدا من أخباره بموته فيقتله، فجاء إلى البلهبذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود، والغناء - قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز، وسريته شيرين، ومغنيته بلهبذ - وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات، وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبر بموته. فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا؛ فوعدها الحيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه غناء وورى عن القصة، إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك مات شبديز، فقال: الملك يقوله، فقال له: (زه) ما أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك! وجزع عليه جزعا عظيما، فأمر تنطوس بن سنمآر بتصويره، فصوره على احسن وأتم تمثال، حتى لا يكاد يفرق بينهما إلا بإدارة الروح في جسدهما. وجاء الملك فرآه فاستعبر باكياً عند تأمله إياه الخ) - ومما رواه ياقوت عن الهمذاني، أن بعض فقهاء المعتزلة قال: لو أن رجلاً خرج من فرعانة القصوى، وأخر من سوس الأبعد قاصدين النظر إلى صورة شبديز ما عنفا على ذلك -
وأما أنا فلم أر التمثال من الإتقان والأحكام على النحو الذي وصفوا. ولا ريب أن الزمان قد ذهب بروائه، وقد كسر رأس الفرس وبقي سائره
وقد نظم خالد الفياض قصة شبديز التي تقدمت. ومما قيل في شبديز من الشعر قول أبي عمران الكردي:
وهم نقروا شبديز في الصخر عبرة ... وراكبه يرويز كالبدر طالع
عليه بهاء الملك والوفد عكّف ... يخال به فجر من الأفق ساطع
تلاحظه شيرين واللحظ فاتن ... وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع
يدوم على كرّ الجديدين شخصه ... ويُلفى قويم الجسم واللون ناصع
وعلى الجبل إلى اليسار الطاق صور أخرى ساسانية، منها صورة تمثل أردشير بن بابك مقيم الدولة الساسانية، وقد داس عدوه أردوان، وصورة أخرى تمثل الملك سابور، وأمامه أسيرة الإمبراطور فلريان جاثياً
برحنا كرمانشاهان صباح الثلاثاء، فنزلنا عند طاق بستان مرة أخرى لنعيد النظر إلى برويز وشبديز وما هنالك من الصور، ثم استأنفنا المسير والساعة ثمان ونصف، فوقفنا بعد نصف ساعة على آثار الملك دارا في جبل بيستون. وهو جبل شاهق يكاد يعيا الطرف دون قمته. وقد سويت فيه على ارتفاع عظيم صفحة صور فيها الملك دارا وأمامه وفود الأمم المغلوبة. وتحت الصورة نقوش كثيرة بالفارسية القديمة، والآشورية. وكانت هذه النقوش مفتاح اللغة الفارسية القديمة كما كان حجر رشيد مفتاح اللغة المصرية. وعلى مقربة من هذه الآثار موضع في الجبل منحوت يظن انه أريد تسويته للنقش عليه ثم عدل عنه. ولكن الروايات الفارسية تقص في ذلك قصة عجيبة عن فرهاد عاشق شيرين الذي ذكرته آنفاً. وسأعود إلى هذه القصة حين الكلام عن مرورنا بجبل بيتسون ليلاً ونحن قافلون من طهران
يتبع
عبد الوهاب عزام