مجلة الرسالة/العدد 759/رسالة النقد
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 759 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1948 |
أدب المليم المزيف
للأستاذ حبيب الزحلاوي
إلى صدقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب:
يعسر على الكاتب في النقد الأدبي ما يسهل على الكاتب المنشئ في كتم خليقته وستر سريرة نفسه، لأن النقد بيان وتفصيل ولئلا محيد للناقد عن التجرد الذاتي لينطلق حرا، يقول الحق وبصور الحقيقة.
الناقد المتجرد تمام واش، يشي بنفسه على نفسه، ويعترف بما في قرارتها من اسرار، وينشر ما تتطور عليه ضلوعه من سجايا وخلائق ومن كوامن دفينة أيضا لأن طبيعة التجرد توجب ذلك ولان التجرد والانطلاق صفتان بعيدتان كل البعد عن خلال المواربة والختل والمداورة والنفاق التي تعسر كل العسر على الكاتب في النقد الأدبي
قرأت ما كتب النقاد في كتابي (أنات غريب) وأصخت بسمعي إلى ما ساقه البعض إلى من لوم وتجريح من ناحية، وثناء وإطراء ومغالاة في التقدير من البعض الآخر من ناحية ثانية، فلم اقف طويلا عند واحد من أولئك المسرفين في اللوم أو الإطراء، ولكني اشعر ألان بما يدفعني إلى الوقوف طويلا - وجها لوجه - من صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب، الكاتب الهادئ النفس، المنكر لذاته، القانع بالقليل القليل من الشهرة وذيوع الصيت، الدؤوب على المطالعة والدرس والتنقيب والتعقيب المثابر على نشر فصل في (الحياة الأدبية) مرة واحدة في كل أسبوع، في صحيفة يعبد أربابها المال، ويروجون للمضاربة في أسواق المال، وقد لا يقراها أديب واحد غير يوم الجمعة، لأنه ليس في الأدباء ممن اعرف غير يهودي واحد يضاربان ليكسبا المال في سهولة الكسول ومغامرة المقامر المضارب، في هذه الصحيفة المالية يختبئ صديق الكريم وراء حرفين متواضعين من حروف الهجاء (صاد شين) فبينا نراه في فصل من فصوله الأسبوعية يدرس كتابا في تاريخ قدماء المصرين أو الرومان واليونان، نجده في بوادي الجاهلية وصحاري الإسلام يقارن ويوازن وينسق ويعادل هؤلاء بأولئك. وبينا نسمعه يروى أسطورة أو خرافة نراه ينشر قصة تصويرية لواقعة حال أو بحثا تحليليا لأديب جرى عليه النسيان أو يلخص كتاب في الأدب الفرنسي أو رواية عصرية وهو بين هذا وذاك يكتب فصولا بارعة في دراسة الكتب التي تهدي اليه، فيقرظها تقريظ المشجع أو المحبذ تقريظ الأديب الغيور الذي يدفع بالمؤلف إلى الاستزادة والإجادة. ولكني ما قرأت في فصول في النقد كان يخص بها الأصدقاء والمعارف من المؤلفين ولعلي انصف صديقي شيبوب إذا قلت أن فصوله في النقد الأدبي هي المتفوقة في قيمتها والمتقدمة في شانها على بقية فصول يكتبها (في الحياة الأدبية).
على هذا الأساس إذن اقف من صديقي الناقد البارع أساجله مساجلة الراغب في بلوغ الحق، القاصد وجه الحقيقة: قال الأستاذ شيبوب في العدد السابق من الرسالة:
(. . . . ولا يقف أدب الأستاذ حبيب الزحلاوي عند التأليف القصصي، فانه نقادة ادبي، ولعل النقد الأدبي كان أول ما عالجه من فنون الأدب، إذ تقدم كتابه (أدباء معاصرون) غير هـ من الكتب وقد ظهرميله إلى النقد في أقصوصة (الدميم) لأنه عرض فيها للحبكة، والعرض والفكرة، والوحدة؛ وذكر انه (ليست قيمة القصة في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدي بها، وفي عرضها عرضا خاصا بمهارة فنية، بالتشويق والترغيب وفي صدق الرواية عن الحياة. . . .).
(وقد اضطر لبيان ذلك، إلى حشر أقصوصتين في أقصوصة واحدة، وهما لا رابط بينهما غير فكرة العرض بمهارة وبغير مهارة).
يعلم صديقي ولا شك أن مجال القصة واسع سعة الفضاء الذي يضم الكون، وأن القاص إذا قصر في تجواله بأجوائه، إنما يكون تقصيره نتيجة لضعف في خوافيه وقوادمه، وفقر إلى الخيال المنسرح والذهن المبتدع. وأن المجالات الضيقة التي رسمها نقاد القصة ليست في الضيق إلى الحد الذي يصد المبتكر عن شرح درس في بناء القصة وتعليم من لا يعلمون إنها تسع كل ضرب من ضروب العلوم والفنون، وكل رسم وصورة للحياة بكامل ظواهرها وبواطنها فكيف تضيق القصة إذن بالنقد الأدبي؟.)
أقول القاص المبتكر تمييزا له عن أولئك (الهلافيت) الذين يملئون الصحف (السوقية) بقصص فاجرة يضل القارئ في مبتداها ومنتهاها، ويتيه قاص الأثر البارع في تتبع معالم وأغراض كاتبيها، هذه إذا كانت لهم أغراض ومقاصد ثم أي حرج على القاص وقد جعل بطل قصته معلما حكيما يعلم تلاميذه الأصول والقواعد ويهديهم سواء السبيل؟ أيعاب عليه إبراز مثل ناطق يشهد على العشرات من القصصيين الذين يرتجلون القصة ارتجالا ولا غاية لهم سوى الغرائز والهاب الشهوات! كيف، بل لم يؤاخذني يا صديقي على بيان (يميز بين قصة معروضة بمهارة، وقصة لا مهارة في عرضها؟.)
على هذا الأساس كتبت قصتي (الدميم) وبهذا الرباط ربطت بين القصتين، قصة مرتجلة لا ضوابط لها ولا قواعد، مرماها إثارة الشهوات الجنسية، وقصة تتفاعل فيها عوامل الحياة الزاخرة بالصدق، ويه معلومة الحدود والمعالم، واضحة الطريقة والمذهب والغرض والأسلوب أيجوز لك يا صديقي بعد هذا أن تقول أن القصة مفتعلة لبيان فضل الأقصوصة الثانية على الأقصوصة الأولى)؟؟
لا أحسب أن هذه التجني من صديق الكريم جاء عفوا، بل اعتقد انه كان وسيلة لغالية، لأن المقال الذي تفضل بكتابته عني، إنما كتب بروح من النقد، والناقد كما علمنا نمام واش يشي على نفسه بنفسه: قال الأستاذ شيبوب:
(تناول الأستاذ حبيب الزحلاوي النقد الأدبي في شئ من الجراة، وكثير من العنف، مما جعل له خصومات أدبية قديمة وحديثة كانت إحداها مع أديب له مقامة المرموق في عالم البحث والأدب والشعر، والتجديد الذي يحاوله هذا الأديب الفاضل لا يروق الأستاذ الزحلاوي، وهو حر في رأيه، وكنت اعتقد أن هذه الخصومة تقف عند حد النقد الأدبي ولا تتعداه إلى التعريض في إحدى القصص بذلك الأديب. والحق إني كنت اجل صديقي الأستاذ الزحلاوي عن أن يستعمل مثل هذه الوسيلة لينال من أديب نابه لا يرضى هو عن أدبه).
هنا مربط الفرس كما يقولون، هنا يتجرد الناقد الذاتي المنطلق حرا في القول والتصوير، هنا تظهر وشاية النفس بالنفس، هنا تبدو الكوامن وتطفو مخبآت السرائر وهنا اقف من صديقي الناقد وجها لوجه أساله، من هو ذلك الأديب صاحب المقام المرموق في البحث والأدب والشعر والتجديد؟ ما قيمة أدبه وشعره وتجديده، وكيف صح لصديقي الأستاذ شيبوب السكوت عن الإشادة بهذه الفضائل المطمورة تحت الأطلال والملقاة في الدمن؟ هل استحي صديقي الناقد من ذكر اسم ذلك الأديب الشاعر المرموق؟ أيرضى صديقي الناقد أن أشفق على صاحبه فلا اذكر اسمه بل ارمز إليه بالإشارة؟ أليس ذلك الأديب المرموق هو الذي مات مختنقا عند وصيد باب مجلة (المقتطف) ولم يرثه زجال ماجور؟ اليس هو الذي أضناني شعره فرصدت مبلغا من المال أغرى به أصحاب العقول السليمة على شرح شعره المضني فلم يظفر بمالي أحد؟
قد يعوزك الدليل يا صديقي تدحض به ما رميت به أديبك المرموق، أما أنا فلا اعدم الحجة استمدها من شاعرك المجدد لأزيد الطين بلة.
نشر الشاعر المجدد قطعة عنوانها (نهار وليل) قال فيها:
(بودي لو انهض والنهار باسم، فالمح إلى عجائب فاستملي، ولكني أخو العجز، لا أزال ظلا للنعاس المتثائب.
(ذات مساء إلى وليجة نفسي تحدرت - بدوه من بدوات - هل أردت تصفح البستان لا ثمر فيه ولا زهر؟ تحدرت وما استطعت الصعود، لوجهي صرعني هول ما دريت ما يكون.
(الحب وحده كان يقوى أن يسعفني فاصعد، لكنه جاء من بعد، من على، من مغيب البعد، اقبل علاجا مترعا بالضوء فيضئ غير مستحق شد ما فتنني فذو بته في خاطري وفي الخاطر ظللنا روحا لصق روح كلانا جاثم مخفق.
(هل كان في وسعي أن أدرك قبل أن اغفوا واذهب في الغفوة - يا له من سبات لطيف في ضميره خصب ونشاط - هل كان في وسعي أن احلم باليقظة الناعمة، بالأعجوبة يعانقها النور؟.
(في البدء داخل الليل نهاري وأسرف فغلظت العتمة، ولكني أصررت على التبصر، أحر، وألان الآن اذكر كيف لفت العتمة خاطري، يا لله! يا ظلمة تجري الحذارق في وليجة نفسي يا ظلمة أصبحت منبت مصير محير مصيري الوهاج). هاهي ذي قطعة كتبها الأديب المرموق الذي تطوع للدفاع عنه صديقي الأستاذ صديق شيبوب أقدمها له راجيا منه أن يتفضل علينا بترجمتها إلى اللغة العربية التي يفهمها أمثالي من عباد الله المتواضعين.
ليسمح لي صديقي الأستاذ شيبوب أن اذهب معه في التسامح كل مذهب في الافتراض الجدلي فأساله هل إذا استطاع تذليل الصعاب، وحل الطلاسم، وفك الرموز، هل في مقدوره أن يرسم لنا صورة واضحة لمعاني هذه الكلام الذي قاله صديقه الشاعر المرموق؟ هب أن المعاني كانت سامية حقا، ولكن ما هي قيمة المعاني إذا صيغت صياغة متشابكة متضاربة متنافرة؟ لنفرض جدلا أن لكلمات هذه القطعة الفنية بمفردها وبمجموعها معان طيبة ودلالات إنسانية ولكن ما هو آثرها الفعال في النفس هل هزتها وأسرت الرعشة فيها، وهل علق معنى واحد في ذهن قارئها؟ لنفرض جدلا انه قدم المتأخر من الكلمات وأخر المتقدم ووضعها في وضعها الصحيح وأقحمها على الذهن إقحاماً وحشرها فيه حشرا فما هن قيمة هذا الأدب وما هو قدر هذا الكاتب؟ ولم هذا العناء المضني؟
أردت يا صديقي خصومة بين الأدباء لا عداوة، ورفعت لواء هذه الخصومة عاليا في كتابي (أدباء معاصرون) وما برح علمي يخفق فوق سيارته ليراه كل كاتب أو شاعر طمل يفاتك بالكذب والشر على الأدب والفن فيسمى الهرف تجديدا واللوثة حصافة وأعيذك يا صديقي أن تكون طبيبا في مصحة الأمراض العقلية.
تستوي عندي خصومة وعداوة من يعتدي على كرامة الأدب أو يحاول الدنس الأدبي بنهضتنا التي لم يعرف تاريخ الأدب العربي لها ضريباً في كل عصره.
وليعلم صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب أن أدب صديقه الشاعر المرموق لا يساوي في سوق الناقدين المتجردين غير المتحيزين مليماً زيفه مراب خسيس.
حبيب الزحلاوي