مجلة الرسالة/العدد 759/البريد الأدبي
→ رسالة النقد | مجلة الرسالة - العدد 759 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1948 |
1 - أنطوان الجميل باشا:
رزئت الصحافة العربية هذا الأسبوع في ركن من أركانها، وخسر الأدب علما من أعلامه، وهو المغفور له الأستاذ أنطوان الجميل باشا. فكانت الفجيعة بفقده قاسية أليمة على ابنا العروبة عامة، وعلى رجال الصحافة والأدب خاصة.
ولقد زاد في هول الفجيعة به رحمه الله أن قضى بموت الفجاءة وهو في ميدان العمل يناضل ويجاهد في أداء واجبه، حتى لقد خرجت (الأهرام) إلى أيدي قرائها وفيها أثار قلمه وتوجيهه، ولكنها لم تدرك نعيه، لأنه كان قد أتم عمله فيها، وانصرف إلى داره متمتعا بالعافية التامة، وفي الصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي وافته المنية ولم يشعر بثر من مقدماتها إلا بضيق خفيف في التنفس، ثم كان السكون الأيدي، وهكذا نفض الرجل يده من الحياة في رفق وسهولة وهدوء، وقد كانت هذه هي اظهر خلاله في الحياة ودستوره في العمل وفي صلاته بالناس.
لقد أمضى أنطوان باشا في الحياة نيفا وستين عاما، أو قل على التحديد ثلاثة وستين عاما، ولكنه لم يأخذ من هذا العمر الطويل لنفسه وشخصيته شيئاً يذكر إلى جانب ما بذل في سبيل المصلحة العامة، وانفق للخير والإنسانية وضحى لخدمة الشرق العربي والوطن جميعه، وإنه ليخرج من الدنيا وليس من ورائه زوج تندبه أو ولد يبكيه ولكنه لا شك قد ترك من ورائه مئات من الإخوان والتلاميذ الذي أضفى عليهم من روحه وطبعهم بطابعه، وألوف بل ملايين من أبناء العروبة عاش ينشد لهم المجد والسعادة على مدى الأيام فهو في نفوسهم ذكرى باقية وأثر خالد على كر السنين والأعوام.
وفد أنطوان باشا وهو شاب في ريعان العمر من لبنان على مصر، ولقد خرج من وطنه الأول تبرما بالجبروت السياسي الذي كان مسلطاً على الأحرار في تلك البلاد، وجاء إلى مصر وطنه الثاني لعله يتنسم نسيم الحرية، وكان أديباً موهوبا، فحمل القلم ونزل إلى الميدان، فاصدر مجلة (الزهور) لتكون حلقة اتصال بين أدباء العروبة في جميع الأقطار والأمصار، وما هي إلا جولة حتى برز إلى الطليعة وظهر في الرعيل الأول وظل يصدر مجلته أربع سنوات ثم كان أن قامت الحرب العالمية الأولى، وكان من قيودها ما حمله على وقف إصدار المجلة والدخول في خدمة الحكومة، ولقد صعد في هذا المجال درجات وتبوأ مكانة مرموقة، ولكن هذا لم يغلبه على طبعه إذ اثر اعتزال الخدمة والعودة إلى ميدان الأدب والصحافة، وكان أن تولى رئاسة تحرير (الأهرام) واسهم بجهده وبقلمه في تشييد ذلك الصرح العظيم، وكان إلى جانب ذلك أن اختير عضوافي الشيوخ ثم عضوا في مجمع فؤاده الأول للغة العربية، كما هو معروف في الفترة الأخيرة من حياته. .
لقد كان أنطوان باشا صحفيا عف القلم، نزيه التعبير، يرعى آداب اللباقة دائما فيما يكتب، ويعرف كيف يسيطر على أعصابه في الموقف الحرج، وكان هذا سر عظمته الصحفية، قال لي في مرة حكم أخلاقك دائما فيما تكتبه عن الناس، وأسال نفسك وأنت تكتب عن غيرك، هل تحتمل أن يقال عنك هذا الذي تقوله عن غيرك وحذار من طغيان القلم وأنت في خلوتك بل تمثل أن أمامك من تكتب عنه وانك تقرا عليه ما تكتب.
وكان رحمه الله أديبا قلبه وعاطفته، وكان في بيانه يؤثر الأسلوب الأنيق، والتعبير المشرق، والديباجة الموسيقية، وكان رواية يحفظ كثير من الشعر القديم، كما كان يحفظ جميع شعر الشعراء المحدثين، أمثال شوقي وحافظ ومطران وإسماعيل صبري وولى الدين يكن، وكان لا يطرب لشيء مثل ما يطرب لسماع الشعر الجيد، وكان لا يسر بشيء مثل ما يسر بشاب أديب يظهر في أدبه مخايل النجابة والنبوغ فيتعهده كأنه ولده. قابلته رحمه الله قبل وفاته بيوم واحد وهو منصرف من احتفال المجمع اللغوي، فسألته لماذا لم يتكلم في الحفل؟ فقال وكأنه كان ينعى نفسه: وماذا تريد أن اقول، وقد أنهكتنا الأيام ومتاعب الحياة؟ لقد قلنا كثيرا فقولوا انتم فو الله انه ليس أطيب إلى نفوسنا من أن نراكم تقولون. . . .
وبعد، فليس اليوم مجال القول في شخصية ذلك الرجل العظيم، ولكنها كلمة يجري بها القلم من خلال الدمع، فإلى فرصة أخرى حتى نؤدي واجب الوفاء نحو فقيد الوفاء، نضر الله قبره، اكرم مثواه
2 - أدوار لامبير:
نعت الأنباء البرقية في هذا الأسبوع العالم الفرنسي الأستاذ أدوار لامبير، وإن في مصر لكثيراً من رجال القانون وأعلام السياسة لا يزالون يحملون بين جوانحهم أطيب الذكرى لذلك الرجل الذي كان أستاذا لهم والذي وقف فيوجه الطاغية (دنلوب) منتصرا للعلم والكرامة حتى لقد ضحى بمنصبه في هذا السبيل، وضيع على دولته فرنسا مركزا علميا كانت تستأثر به في مصر.
ذلك أن مدرسة الحقوق في مصر كان يتولى نظارتها عالم من أبناء فرنسا، وكانت فرنسا تعتز بهذا المركز وتعتبره مظهر شرف لها إلى جانب ما كان قائما من تسلط الإنجليز على التعليم في مصر، وحدث أن أسندت نظارة هذه المدرسة إلى رجل فرنسي يدعى (تستو) وكان هذا الرجل ينزع إلى حب السيطرة والتغلب، وكان المسيطر على شئون التعليم في مصر يومذاك الطاغية (دنلوب) ونزعته الاستعمارية معروفه مشهورة، فتلاقى الرجلان في اتجاه واحد، وكان كل منهما أداة طغيان وبهتان. ومما يذكر أن (تستو) هذا هو الذي فصل الزعيم مصطفى كامل من مدرسة الحقوق فاضطر إلى السفرلإتمام دراسته في فرنسا، وحدث في عام 1896 أن اجتمع فريق من طلاب المعاهد العالية والثانوية في مطعم بالأزبكية واحتفلوا بعيد جلوس الخديوي عباس الثاني. وصادف أن دخل (تستو) ليتناول العشاء فنقل أسماءهم إلى دنلوب ففصلهم جميعا من مدارسهم.
ثم تولى (أدوار لامبير) نظارة مدرسة الحقوق وكان رجلا يعرف للعلم كرامته ويرتفع به عن تلك الأساليب الغاشمة، فكان من الطبيعي أن يتصدى (دنلوب) لهذا الرجل لا يجاريه في إذلال المصريين ومسخ روحهم وتشويه ثقافتهم ولكن (لامبير) لم يخنع ولم يطأطئ رأسه وظل دائما عند عقيدته واتجاهه، فلما أعياه الأمر استقال وضحى بمنصبه وضيع نظارة مدرسة الحقوق المصرية على فرنسا، إذ تولاها من بعده رجل إنجليزي يدعى (هيل) وكان رجلا لا يدري من الحقوق شيئا، ولكن السياسة الإنجليزية شاءت ذلك في تلك الأيام
إنها ذكريات تحتل جانبا من تاريخنا الوطني، وهو جانب يجب أن يكتب ويروى، ولعل نعي الأستاذ لامبير قد أثار ألواناً من هذه الذكريات في نفوس أبناء الجيل السابق ممن كانوا من تلاميذه ومريديه. . .
محمد فهمي عبد اللطيف