مجلة الرسالة/العدد 759/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 759 القصص المؤلف: غي دو موباسان المترجم: جمال الدين الحجازي |
إنه ضوء القمر Clair de lune هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 759 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 19 يناير 1948 |
إنه ضوء القمر
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ جمال الدين الحجازي
كانت مدام جولي روبير تنتظر أختها مدام هنرييت ليتور التي عادت من سويسرا منذ خمسة أسابيع، بعد أن سمحت لزوجها بالبقاء وحده في كالفادوس لإنجاز بعض الأعمال التي تطلب وجوده، واتت لتقضي بعض أيام مع أختها في باريس للترويح عن نفسها، وفي الصالون الهادئ، جلست مدام روبير تقرأ وهي شارة الذهن، ترفع عينيها بين وقت وأخر كلما سمعت صوتا. وأخيراً سمعت دقا على الباب، فظهرت أختها حالا وكانت تلبس معطف السفر، وفجأة وقبل التحية تعانقتا بشدة ثم بدا الحديث عن الصحة والعائلة وأشياء أخرى تجيدها النساء. . .
كان الوقت مساء. فأضاءت مدام روبير المصباح، ولما رأت وجه أختها رغبت في عناقها مرة ثانية، فاقتربت منها، ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت ضفيرتي أختها الطويلتين قد ابيضتا، بينما كان القسم الآخر من شعرها اسود لامعا وظهر شعرها الأبيض كالفضة تحوطه هالة من السواد.
كانت مدام هنرييت شابة لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، فما هو السر في ابيضاض شعرها! إنها لم تره هكذا إلا بعد عودة أختها من سويسرا.
نظرت مدام روبير إلى أختها بدهشة والدمع يترقرق في ما فيها لأنها اعتقدت بان حادثا مخيفا ألم بأختها فسألتها بابتسامة حزينة:
- ماذا حصل لك يا هنرييت؟
- لا شئ يا شقيقتي. . . أكنت تنظرين إلى شعري الأبيض؟
ولكن مدام روبير قبضت على ذراعيها بشدة وكررت عليها السؤال:
أخبريني ماذا حصل لك. . . أخبريني بالحقيقة وإياك والكذب: ومكثتا برهة تنظر إحداهما إلى الأخرى وقد امتقع وجه هنرييت وكان دمعتان تبللان وجنتيها فسألتها أختها بلطف: ألا تودين إخباري بما ألم بك؟
وفي صوت خافت قالت بعد أن أخفت جبهتها بين ذراعي شقيقتها:
لي. . . لي حبيب!
وهناك الكنبة جلست الأختان في أحد أركان الغرفة تتحادثان وقد وضعت الأخت الصغرى ذراعها على عنق أختها الكبرى بدلال وأخذت تنصت إلى حديثها:
إنك تعرفين زوجي وتعرفين كم احبه! فهو رقيق الشعور طيب، باسم الثغر، لطيف ومستقيم إلا أن به عيبا واحدا وهو انه لا يستطيع أن يطرى محاسن المرآة! ولست ادري لماذا؟ آه كم كنت أتمنى أن يضمني بين ذراعية بشدة، ويقبلني قبلات حارة تمتزج بها أنفاسنا! وكم تمنيت أن يكون ضعيفا بين يدي فيحتاج إلى رقتي وعطفي ودموعي! قد يظهر أن ما قلته لك تافه ولكننا نحن النساء جبلنا على هذا فما العمل! ومع ذلك لم أفكر لحظة في خيانته حتى على شاطئ بحيرة لوكيرن!
هناك على شاطئ البحيرة، كان القمر يرسل أشعته الفضية على الكون فيملأ بهجة وحبورا، وشعرت حينئذ بشيء لست اعرف كيف أفسره! ففي الشهر الذي قضيناه نتنزه في سويسرا ونمتع أنفسنا بجمال تلك البلاد، أثار زوجي احساساتي بهدوئه وصمته وتركني وحدي سابحة أهيم في الحسن والجمال! إلا يثير الجمال النفوس ويبعث فيها الحب إلا تثير ممرات الجبال الضيقة والأودية العميقة والغابات الواسعة والجداول الرقراقة والقرى الصغيرة الجميلة كل حب للجمال!
أجل لقد سحرتني هذه المناظر بجمالها فقلت لزوجي وقد ارتميت بين أحضانه ما اجمل هذه المناظر يا حبيبي. . . انظر إلى القمر المنير والبحيرة الجميلة. . . . إلا تدعو هذه المناظر الساحرة المحبين للقبل!! قبلني الآن وفي هذا المكان قبلة حارة وامزج أنفاسك بقلبي المذاب! ولكنه أجابني بابتسامة لطيفة باهته: (لا يوجد سبب يدعو إلى القبل) فتأثرت جدا من كلماته.
غاظني زوجي بمسلكه هذا، فقد منع تلك الخيالات الشعرية والسبحات الفكرية من أن تخرج إلى دنيا الجمال وأبقاها مكنونة في نفسي عديمة الجدوى.
وفي إحدى الأمسيات ذهب روبير إلى فراشه بعد العشاء، وكان قد أصابه صداع، فذهبت في نزهة على البحيرة وهل لي غير البحيرة وشاطئها الجميل؟
كانت الليلة مقمرة كتلك الليالي التي نقرأ عنها في أساطير الخيال؛ وكان القمر يزهو باكتماله في كبد السماء ويحي الأرض بأنواره الفضية، فيكسبها جمالا وبهاء. وظهرت الجبال العالية بثلوجها البيضاء كملوك تلبس تيجانا فضية، ولمعت مياه البحيرة لمعانا أخاذاً في ضوء القمر الجميل، وكان النسيم عليلا يهيج الذكريات ويبعث الشوق في القلوب.
جلست على العشب، ونظرت إلى البحيرة وقد استولى علي سحرها، فمر بي طيف عابر، وأحسست أن الحب قد تملكني وأصبحت في حاجة اليه، فتذكرت حياتي الأولى وما بها من سآمة ويأس فحزنت وتساءلت: ترى هل يبسم لي الزمان فأجد نفسي على شاطئ البحيرة ف ضوء القمر الساطع بين أحضان حبيب يلهبني بقبلاته فأنتعش بتلك القبلات الحارة التي ينعم بها العشاق!! وعندها شعرت بحبات لؤلؤية تتساقط على وجنتي لم ادر بسببها وسمعت من يقول: (لم هذا البكاء يا سيدتي؟ خففي عنك ما تجدين. . . فعلا الحزم وعلام البكاء) وكنت مضطربة فقلت إني مريضة فسار إلى جانبي وكان طيب القلب وبدا يحدثني عما رأيناه في رحلتنا من المناظر الجميلة، وترجم كل ما أحسست به إلى كلمات جذابة وشعرت بأنه فهم احساساتي وشعوري كل الفهم، وفجأة اسمعني بعض الأبيات الشعرية لألفرد دي موسيه فشعرت كأنني في عالم غير عالمنا وخيل إلي إن الجبال والبحيرة وضوء القمر تغني وتسبح مبدع هذه المناظر الجميلة الساحرة.
وفي الصباح بينما أنا غارقة في هذه النشوة تركني هذا الحبيب واختفى بعد أن قدم إلي بطاقته! وهنا تأوهت مدام ليتور وكادت تصيح. . .
فقالت مدام روبير وقد سرها ما سمعت:
(لتعلمي يا شقيقتي العزيزة إننا لا نحب الرجل دائما ولا يستطيع أن يثير أشواقنا؛ فلا غرور أن حبيبك الحقيقي وأنيسك الذي سحرك بحلو ألفاظه ورقة شمائله وأثارك وبعث فيك الحب والغرام في تلك الليلة وأنار لك السبيل هو ضوء القمر. . . أجل إنه ضوء القمر!)
جمال الدين الحجازي