الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 749/حول جدل في الجامعة

مجلة الرسالة/العدد 749/حول جدل في الجامعة

بتاريخ: 10 - 11 - 1947


للأستاذ عبد الفتاح بدوي

منذ نشرت مجلة (الرسالة) تقرير الأستاذ أحمد أمين بك عن (الفن القصصي في القرآن)، والأستاذ محمد خلف الله يبعث بالمقال تلو المقال تارة يستجدي وتارة يستعدي، وليس العلم تناصراً ولا استصراخاً فليعلم أن الناس جميعاً علماءهم وفنانيهم لن يغنوا عنه من الحق شيئاً ولا من وقع الحجة وأصابتها مقتله فتيلا وليست شتائمه أساتذته غير أساتذته ولا خوضه في مقاماتهم بالكلم الخبيث ما نعته من صولة البرهان.

ولقد وجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة أولى أنه يجهل المقررات المنطقية التي تجمع عليها العقول؛ فهل هو مجيب عن هذه التهمة؟

ووجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة الكذب على الأستاذ الإمام محمد عبدة أنه يجري في تفسيره على اعتبار أن ما في القرآن من قصص لا يدل على أحداث وقعت وأقمنا البرهان على كذبه هذا بما نقلنا من نص عبارة المنار.

واليوم نقول للأستاذ خلف الله أنه جهل فهم كلام الأستاذ محمد عبدة في الفقرة التي نقلها في مقاله المنشور في ص1068 من مجلة (الرسالة) الغراء، وأنه جهل المنهج الذي يدرس عليه القرآن الكريم.

يدرس القرآن الكريم على منهجين: الأول منهج (الباطنية) وهم فرقة من الملاحدة يعطلون ألفاظ القرآن عن مدلولاتها، ويسلكون بها سبيلا تخيلية وهمية توصلا بذلك إلى تعطيل الشريعة الغراء فهم يدعون للألفاظ أو للجمل مراداً عاماً لا ينبني على أسس علمية وهؤلاء كفار والجري على طريقتهم كفر وجهالة.

لأن مذهبهم هذا مجرد دعاوى لا تنبني على شيء من العلم. فهم يقولون مثلا في تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) استقيموا لله وطهروا أنفسكم بالأخلاق الحسنة وكنوا خاضعين، وليست هناك صلاة شرعية ولا زكاة شرعية ولا سجود ولا ركوع.

والمنهج الثاني: في دراسة القرآن الكريم منهج المسلمين، وهو منهج العلم والعقل الذي تق عليه نواحي الحياة كلها وليس خاصاً بالقرآن الكريم وحده؛ ذلك أن الكلام يجب أن يكون لألفاظه مدلولات حقيقية تنصرف إليها تلك الألفاظ ولا يعدل عنها إلا إذا وجدت قرينة تمنع من إرادة تلك المدلولات الحقيقة فإنما هو في غير القرآن خبل وجهالة وإذا ادعى شيء من ذلك في مقام القرآن الكريم فهو خبل وجهالة وزندقة يخرج بها صاحبها من عداد المسلمين لأنها تعطيل لكلام الله تعالى الذي أنزل لهداية البشر أجمعين.

ومن المسلمين من يقف في تفسير القرآن الكريم عند هذا الحد لا يتعداه؛ بل يحمل الكلام على الحقيقة من أمكن ذلك ثم على المجاز الذي تدل عليه القرينة عند وجودها، ولا يقولون إن القرآن يشير من وراء هذه الحقيقة أو هذا المجاز إلى شيء من باب الإشارة والإيماء لأن هذه الإشارة وهذا الإيماء لا تدل الألفاظ عليه.

ويقول الصوفيون من المسلمين إن في القرآن إشارات وأسماء من وراء تلك الدلائل الحقيقية، وهذه الدلائل الإشارية الإيمائية ملحوظة عند هؤلاء الصوفيين مرعية لديهم حق رعايتها.

فمذهب الصوفية يخالف مذهب الباطنية كل المخالفة لأن الباطنية يعطلون الألفاظ عن مدلولاتها. فهم لا يعتبرون آدم شخصاً ولا الملائكة موجودات، ولا الجنة شيئاً، ولا لإبليس حقيقة؛ إنما يقولون في ذلك كله مل يقول الأستاذ خلف الله إن القرآن في ذلك لم يتشبث بالواقع، أما الصوفية فيقولون بأن كل هذه الألفاظ لها مدلولاتها الحقيقية ثم يشير مجموع القصة إلى أمور أخر كالتي ذكرها الأستاذ الإمام في قوله: وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: (إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خلفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه إلى آخر ما قال. فمحال أن يكون الإمام قد قصد إلى تعطيل الألفاظ والذهاب مذهب الباطنية.

وإني ناقل هنا عبارة الأستاذ الألوسي إذ تشرح هذا المنهج وترى الأستاذ خلف الله أنه كان على جهل حين زعم أن من المسلمين من يرى أن القصص القرآني لا يتصل بالواقع وكان على خطأ لم يفهم به كلام الأستاذ محمد عبدة؛ قال الألوسي: وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية، وحاشا سادتنا من ذلك؛ كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا: لا بد منه أولاً إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل أحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب.

والألوسي في تفسيره ينهج هذا المنهج أبداً فهو يفسر الأسلوب القرآني على حقائقه اللغوية فإن قامت قرينة على غير الحقائق انصرف إلى المجاز الذي تدل عليه اللغة؛ ثم يعقب على ذلك كله بتفسير الصوفية فيقول: ومن باب الإشارة. . . ويذكر الإشارات الصوفية في ذلك المقام.

والأستاذ محمد عبدة نهج هذا المنهج نفسه، واختار لنفسه في المتشابه منهج السلف والأخذ برأي الخلف فيه عند الإمكان وعند الداعية إليه في فهم الكلام ثم يذكر مذهب الصوفية وهم من الخلف ويقرر مذهبهم الإشاري كذلك ويصرح في كثير من كلامه بكلمة الإشارة وبكلمة الإيماء؛ فقال في ص269 من الجزء الأول من المنار: فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون (الإشارة) في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها؛ وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف بجميع هذه القوى. . .

وقال صاحب المنار في تلك الصفحة نفسها: (وأقول إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم. وكان مساق هذا الكلام كله بعد عبارة طويلة نقلها من كلام الغزالي في الإحياء. فهو إذن بيان لمذهب الصوفيين.

فمن الافتيات على الأستاذ محمد عبدة افتياتاً جريئاً فيه عدم الاستحياء من الحق ما قاله الأستاذ محمد خلف الله عن الإمام محمد عبدة إذ ينسب إليه أنه يرى أن القصص القرآني لا يلتزم الواقع أو أنه جرى مع أحد هذا المجرى وذهب معه هذا المذهب الذي يدعيه.

ولقد حاولت أن ألتمس للأستاذ خلف الله بعض المعاذير، ولو أوهاها في التورط فيما تورط فيه فمنعني سلوكه، وحالت بيني وبين ذلك خلائقه؛ ذلك أنني وجدته مدلساً في النقل خائناً للأمانة العلمية فهو يكذب في النقل أو يبتر المنقول ولا يتمه بل يخفي منه ما يبين المراد تمويهاً للحقيقة وإلباساً على الناس.

لقد قال في ص1122 من مجلة (الرسالة) الغراء: ويؤكد الرازي هذا المر في مناسبات أخرى حين يجعل أحياناً كلمة (بالحق) التي ترد كثيراً في القرآن بعد القصص وصفاً لما في القصة من توجيهات دينية فهو مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ما يأتي: (أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة).

وإني ناقل عبارة الفخر الرازي بنصها شاهداً على تدليس الأستاذ محمد خلف اله فيما ينقل من عبارات العلماء قال الفخر قوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة أولهما تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك أن الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تتحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. والفائدة الثانية قوله: وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وفي قوله (في هذه) وجوه أحدها في هذه السورة. وثانيهما في هذه الآية. وثالثها في هذه الدنيا، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع، واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى فاستقم كما أمرت لكان الأمر كما ذكرنا، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى.

أما الحق، فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة؛ وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة؛ وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير عن الدنيا. . . اهـ.

فالفخر الرازي ليس فيه شيء مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد مما نسبه إليه الأستاذ محمد خلف الله فرية واختلاقاً، فالفخر يجعل اسم الإشارة راجعاً إلى السورة، يعنى سورة هود، ويجعل الحق الذي فيها هو الدلائل الدالة على التوحيد، ولعل عند الأستاذ خلف الله، أو الذي كان يشرف معه على رسالته نسخة خطية خاصة من كتاب الفخر الرازي عملت لهما فقط وخط لهما فيها ما يشاءان؟ ما هذا يا أستاذ؟ وما هذه الخيانة في العلم؟!

ومثال البتر في النقل ما قاله الأستاذ خلف الله في نفس الصفحة إذ نقل قول الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعمله ولما يأتهم تأويله) الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها).

والفخر الرازي قال ذلك ولكنه أتم كلامه فقال في شرح تلك الأمور (فأولها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم. وثانيهما أنها تدل على العبرة. . . وثالثهما أنه (ص) لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله. . . الخ.

فكلام الرازي صريح في أن القرآن لا يذكر القصة لأنه كتاب تاريخ بل يذكرها لما في ذكرها من الفوائد التي ذكرها وكلام الفخر الرازي صريح في أن القرآن لم يحرف في القصص ولم يغير وكان ذلك دليلا على أنه بوحي من الله.

أما دعوى الأستاذ خلف الله فهي أن القصص القرآني لا يتشبث بالواقع وإذن فلا بد له من التدليس في النقل ليتوهم القارئ أن الكلام الذي يقوله الأستاذ خلف الله أصلا في كلام السابقين صارت الصفات التي يتمتع بها الأستاذ خلف الله في مقاليه في الرسالة ثلاث صفات الجهل والكذب والخيانة.

وإذا كان للكانون عند العرب ثلاث أثافي فإن كانون الأستاذ خلف الله له أربع أثافي تلك الثلاث التي مضت وسنرميه بالرابعة.

ولقد كان يمكننا أن نرميه بها بادئ ذي بدء بعد أن حصلنا على ما حصلنا عليه ولكنا آثرنا أن تقدم بين يدي ذلك جهله وكذبه وخيانته، ثم نقيم عليه الحجة والدعوى معاً.

لقد وقعت الرسالة في أيدينا وقرأناها كما قرأها سوانا ولكم الويل مما تصفون. لكم الويل فانتظروه في الأعداد القوادم وفي ساحات القضاء.

عبد الفتاح بدوي

كلية اللغة العربية