الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 749/النظرية الحديثة في تفسير الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 749/النظرية الحديثة في تفسير الأحلام

مجلة الرسالة - العدد 749
النظرية الحديثة في تفسير الأحلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 11 - 1947


للأستاذ عبد العزيز جادو

إن آداب كل أمة توضح بجلاء رغبة الرجل الملحَّة، المستديمة، في تعليق بعض الأهمية على أحلامه وإلباسها بعض المعاني. فمن فجز التاريخ إلى بداية هذا القرن كانت الأحلام تعتبر في بعض الأحيان كأصوات للالهية الباطنية، وجولات للذات النجومية، وزيارات للروح، وتنبؤات بالمستقبل، أو نتيجة اضطرابات جسمية باطنية.

وفي عام 1900 حوّل الأستاذ سيجموند فرويد ما اعتبروه خرافات وأوهاماً خاطئة في تعليل الأحلام إلى (دراسة علمية). فلقد وجد، ككل العلماء، أن الالتجاء إلى الحدس والتخمين عمل محفوف بالمكارة.

وإن رجالاً من أمثال جوليان هكسلي، وهـ. ج. ويلز، وهافلوك أليس، ليدفعون إتاوة لفرويد. كما أن العالم أجمع يقدره حق قدره ويعده من أنبغ النابغين في جيله.

للأحلام وجهان:

لا يخفى أن لكل قطعة من العملة وجهين، لا نرى منهما إذا وضعت القطعة على نضد إلا الجانب الفوقي. كذلك لكل حلم وجهان؛ فالحلم الذي نعيه عند الاستيقاظ هو الرأس أو الوجه، ويعرف في الاصطلاح الفني بالمحتوى الظاهر؛ أما الحلم الحقيقي، الذي لا يفسره التحليل أو يوضحه فهو (الخلفي) أو المحتوى الباطن. ومشكلة تحليل الحلم هي أن نرجع إلى الحلم الحقيقي، وأي المادة المستترة.

ولكن لم هذه الضرورة لحلم حقيقي وحلم غير حقيقي؟

إن حلماً كهذا الذي تذكره عند استيقاظك من النوم إن هو إلا شيء باطل ملفق، وتمويه مطبق. وإنه لوسيلة لإخفاء القصة الحقيقية. قد تسأل: (لم هذا الإخفاء؛) ونحن لا يسعنا إلا أن ندلي برأينا كاشفين عن السر القناع.

إن للعقل (جزئين) كما هو معروف؛ الواعي والباطن. الأول كتاب قانون للجماعة، وهكذا نسميه، لأنه يحوي جميع النواهي وكل الأوامر، كما يحوي على قواعد حسن السير والسلوك. وإنه بمثابة مجموع أو حاصل لمبلغ تربيتنا وتهذيبنا من عهد الطفولة وما بعدها.

أما العقل الباطن فإنه يحتوي على نواة الرغبة. ويتبع نظام حفظ الأوراق بالترتيب مع الذات الفيزيقية، على نسق فهرس، يشتمل على فكر وتصورات في غاية الهمجية - تصورات تدل على الطبيعة الفجة (الخام).

ويمكنك أن ترى بين العقلين خلافاً جوهرياً؛ أحدهما يريد، والآخر لا يريد. . . أحدهما ذو الطبيعة الهمجية يلتقى بحاجيات الطبيعة؛ والأخر إنسان متمدن يوفق بين طلبات المدنية.

ومن تعارض هذين العقلين تنشأ الأحلام.

الحوار الداخلي:

قد يتوقع المرء أن يؤثر الحوار الداخلي في الفرد فيوقظه، ولكن آلية الحلم جعلت هذا الجدال الداخلي محرفاً في معناه، ومشوهاً في شكله، لكي يكون النوم باقياً مستمراً ومحفوظاً. والحلم إذ نذكره - أي في حالة المحتوى الظاهر - إنما يستخدم غرضاً واحداً، هو قيامه بمثابة حارس للنوم. وإنه ليلجأ إلى أنواع التزويق والخداع لكي يصادف هذا الغرض.

والمحتوى الكامن أو الباطن للحلم، أي الحلم الحقيقي، يخدم غاية تختلف تمام الاختلاف عما سبق. فهو يرضى رغبة عقلية داخلية، تحرك عاطفة خاصة وتحثها لإنشاء تحوّل كيمي وفزيقي، أو أصوات متعددة ذات وتيرة واحدة منسجية أي إنها تسبب قيام غدد معينة بالإفراز وتحدث تغيرات كيمائية مختلفة، أكثر مما لو كان الشخص قد تناول علاجاً منعشاً عند النوم. وإلى هذا يرجع السبب في شعور المرء بالراحة عند استيقاظه.

الآن وقد كونا فكرة صحيحة بل صورة ذهنية حية لهذين العقلين المتناقضين، نستعرضهما وكأنهما غرفتان متلاصقتان ونتخيل حارساً يقف عند المدخل كديدبان ولنسمه (الرقيب). وهذا مهمته كمهمة الرقباء أثناء الحرب سواء بسواء - يصرحون بنشر أخبار معينة ويمنعون من النشر أخرى. وهذا الرقيب هو الذي جعل للحلم وجهين بطائفة من الحيل كالرمزية، والتحريف، والتكاثف، والعواطف المزيفة، والاستبدال. وكل هذه، بطبيعة الحال، معلومات فنية عالية، وهي مع ذلك يمكن شرحها بسهولة.

إن المرء لفي حاجة ماسة للتعرف على كيفية عمل الرقيب، وإنا لذلك سنمضي في متابعة الطرائق المختلفة، ونعرض أحلاماً رمزية بطريقة التصوير.

الرموز: الرمز عبارة عن علامة تعني شيئاً ما. فالدوائر الثلاث المتداخلة معناها التضامن أو التعاون. والبولدوج رمز للمتانة أو التشبث. كما أن الأسد رمز للشجاعة والإقدام. والثعلب رمز للمكر والدهاء. وهذا قليل من كثير لا حصر له ولا عد. وثمة شيء غريب آخر عن الرموز، هو أنها تحرك العواطف وتستفز الشعور على الفور بأسرع ما يمكن. يقول الشارع أو الناثر أو الخطيب (زمجر كالأسد). كم يكون وقع هذه الجملة في السامع! وكم تكون حيويتها وتأثيرها! أليست أشد وقعاً في النفس مما لو قال (زمجر عالياً!). . . ومن ذا الذي لا تهزه الأريحية ولا تأخذه النخوة عند سماع النشيد القومي أو السلام الملكي!

ثم أليس هناك آلاف ممن جندوا أنفسهم واستعدوا للدخول في غمار المهالك، واستنفاد آخر قطرة من دمائهم من أجل حقوق قطعة من قماش مصبوغة باللون الأخضر ومرسوم عليها هلال وثلاثة أنجم؟ لا لأنها تقوم على نصرة المملكة المصرية فحسب، ولكن لأنها رمز يحرك العواطف ويذكيها حماسة.

وعلى ذلك يمكننا أن نرى أن الرمز ليس إلا مؤثراً آلياً أو ميكانيكياً في الأحلام لا يقدّر بثمن، لأنه يحرك العاطفة لسعادة جسمية.

أما رموز الأحلام فهي غالباً ما تكون سرية (أو خاصة بالحالم ذاته) ومن ثم فإنك، أنت نفسك، عندما تستيقظ من النوم، ولا تفهم شيئاً من معاني ما رأيت في حلمك.

دراسة الأحلام:

إن الرموز التي أسلفنا القول فيها هي في الواقع معروفة وليس هناك من يجهلها. ولكن لرموز الأحلام ميزة الخصوصية والسرية. فمن ذا الذي يعرف تلك الرموز؟

الخبرة في تحليل الحلم تعرفنا بالقليل من معاني الرموز، ولكن أفضل طريقة لدراستها هي دراسة الحالم. والطريقة المتبعة في ذلك من السهولة بمكان، وهي أن تستقصي ما يذكر بالأشياء. مثال ذلك أني حلمت بامرأة ذات أسمال بالية تقوم بعمل أشياء مختلفة، فتساءلت عما يذكرنيه امرأة ذات ثوب خلق. وذكرت أني منذ سنين قليلة كنت في حفلة رقص تنكرية حيث كانت فتاة ترتدي ثوباً خلقاً ممثلة الفاقة. فكان من الواضح إذن أن الفتاة التي رأيتها في الحلم تعني الفاقة. بيد أني لم أحلم بالفاقة، لأن هذا قد لا أستسيغه فيزعجني ويوقظني من النوم. فيتكرم (الرقيب) مشكوراً ويريني تلك الفتاة الجميلة، الرشيقة، بهيئة مريضة، ليستدرجني في دروبه كيف شاء له الهوى تاركا إياي أغط في نوم عميق مريح.

ولنأت بحلم رمزي بسيط:

كان الحالم طفلا في الثامنة من عمره. رأى أن كلباً وقطاً يتشاجران. كان الكلب أسمر اللون، وكان القط أحمر اللون. ورأى فجأة أن الكلب والقط قد دخل كلاهما في الآخر وتكون منهما حيوان فرد فيه شبه من القط، وفيه شبه من الكلب، فاستيقظ من نومه باسماً. ولما سئل عن أقرب شجار شاهده أمامه كانت النتيجة أن أمه وأباه كانا يتشاجران دائماً شجار الكلاب والقطط. وفي ذلك اليوم على الأخص كان عراكهما فظيعاً. وكانت هذه آخر معركة رآها قل ان يرى في الحلم كلباً وقطاً يتشاجران. . .

لقد كان أبوه أسمر اللون، وكانت أمه شقراء. فمن الواضح أن الكلب كان أباه، وكانت القطة أمه. ولقد كان انزعاجه من رؤية حيوانين يتشاجران لا يقاس بجانب انزعاجه من عراك والديه. إنه يريد أن يقف عراكهما عند حد، وأن يتصافيا، لأنه تصورهما وقد امتزجا معاً وصارا واحدة. وإن هذا ليسره فيستيقظ باسماً. وهكذا نرى أن تفسير الحلم بسيط غاية البساطة. ولكني أرجو أن تدرك تماماً أيها القارئ العزيز أن الحلم لا يوضح ولا يشير إلى ما سوف يفعله أناسه أو ما قد يفعلونه، ولكنه يبين ما يفكر الطفل فيه. بيد أن هناك ما هو جدير بكل اعتبار ألا وهو أنه ما من حلم إلا ويبين اتجاه الحالم نفسه لا اتجاه أحد غيره. وعلى كل من اشتغل بدراسة الأحلام أن يذكر أن هذه النقطة من الأهمية بمكان.

وبما أنه لا يجود للان أي حلم يبين بوضوح لأي شخص تركيباً آليا، بل تراكيب من مختلف الأساليب، فإننا نخطو إلى أحلام أكثر تعقيداً. وقبل أن نقدم على هذا، علينا أن نتعرف السبب الذي يجعل الأحلام أو فيها شيء من التعقيد. ذلك لأنها ذات تحريم جنسي.

التحريمات الجنسية:

لقد هاجم رجال الدين فرويد بسبب اعتماد على الجنس. فرد عليهم مازحاً، ولكنه أظهر الناس على بعض الحقائق السافرة وأظهر بالتحليل تسلط الجنس على النفس الداخلية، وأزال كثيراً من أوهام المتصوفين.

على أن فرويد لم يقل أن كل الأحلام جنسية، أو إنها يجب أن تكون جنسية، وكل ما في الأمر أنه دون في بيانات صحيحة وأن السواد الأعظم ذو طبيعة جنسية. وقبلما نحاول تحريم أو نبذ هذه النظرية التي تحاول الكشف عن الطبيعة الجنسية في الناس يستحسن أن نرفع النقاب عن المعلومات الجنسية. ولنكن صرحاء للغاية القصوى بدل أن نخفي أنفسنا على طريقة النعامة، إذ نضع رؤوسنا في رمال الزمن المرتحل.

إن البيولوجيا تبين بوضوح وجلاء أن هدف الحياة ما هو إلا حفظ الحياة والتكاثر فيها. فبدون النشاط الجنسي، وبدون الحافز للحياة، يموت كل شيء، ولا يبقى شيء.

وإذا كان هذا هو أهم شيء في العالم، وهو بالفعل كذلك، فلم ندعى أنه يقوم بدور بسيط تافه لا يعتد به في ذواتنا الفيزيقية؟

إن الحقائق الجنسية أصعب من أن تواجه في حالة طبيعية. فهي اختيار قاس. ولا داعي لبيان أهمية الجنس ولا للتعريف بأنه أعظم شيء في الحياة، إذ أن كثيراً من العقول المفكرة قد أقامت البرهان القاطع على أنها نواة كل سلوك.

عبد العزيز جادو