الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 749/الصدق في الأدب

مجلة الرسالة/العدد 749/الصدق في الأدب

بتاريخ: 10 - 11 - 1947


للأستاذ مهدي القزاز

في بعض الأوقات تكون قلوبنا عامرة بالعواطف، مثقلة بالاحساسات، تتدفق بألوان الشعور، وتحيا بفيض من الإشراق وتنبض بمختلف الأماني والأحلام. . . تحاول الانطلاق في أجواء فاتنة تضج بالأنغام والأضواء والشذى والعطر، لتنغمر في الوجود الذي يهيئ لها الإبداع والخلق والابتكار، إذا كان لها نصيب من حسن الذوق وبراعة الإنتاج. . .

يشعر القلب في مثل هذه الفترة أن الحياة تتفجر نوراً وجمالا وتتضوع أريجاً مسكراً، فيختلج ليلهم الأديب الفنان والشاعر الملهم والكاتب الموهوب أروع الصور الذهنية ويضفي على إنتاجهم روعة الصدق وحرارة الإخلاص وسمو العاطفة، فيحيا في كل أعمالهم وما يفكرون وينتجون ويبدعون، فيكون لأدبهم وكتاباتهم أثر في كل نفس وصدى في كل روح لأنها نتيجة شعور صادق وإيمان عميق بما يكتبون ويفكرون. . .

وفي بعض الأحيان قلوبنا وينتابها التبلد والخمول وتتيه في ظلمة قاسية من الجفاف والخواء ترقد فيها العواطف وتشيع الكآبة في النفس ويرين الحزن على القلب فلا يشعر بالنور ولا تتلاشى فيه الأضواء وتنعدم الأخيلة، فيحس أن الحياة مغمورة بالضباب فلا ترى العين ولا ينفذ الفكر ولا يومض الذهن وفي مثل هذا العدم يتوقف القلب عن الإيحاء الصادق ولا يوحي إلا بالتافه من الأمور والضحل من الأفكار.

في مثل هذه الحالات يجب على الأديب الصادق الذي يكتب بعاطفة وشعور يستمدهما من قلبه أن يريح قلمه إلى حين وإلا بدا عليه الإسفاف ظاهراً والاجترار ملموسا والتكلف واضحاً لأن نبضات قلبه يجب أن تبرز دائماً في كل عمل من أعماله الأدبية وإنتاجه الذهني فإذا فقدها خلت كتاباته من عنصرها الأساسي وهو (روح الكاتب).

يقول الأستاذ (توفيق الحكيم) في كتابه (زهرة العمر): (إن تربية ملكة العقل وحدها لا تكفي عند رجل الأدب والفن إن لم يصحبها إيحاء القلب وإلهام العاطفة وملكة التذوق. . .

وهو يشترط اشتراك القلب ووحيه في كل عمل من الأعمال الذهنية والإنتاج الفكري).

فالقلب ينبوع العواطف والأحاسيس منه تنبعث أحلى الأنغام وأسطع الأضواء وأعذب الألحان وأعمق الأفكار. وفيه تحيا كل القوى التي تسيطر على حياتنا واجعلها مشرقة ومضيئة حيناً وقاتمة مظلمة حيناً آخر. أما العقل فهو القوة التي تنظم ما يجول في القلب من تيارات وينبض فيه من عواطف وأحاسيس، وعمله كعمل الفنان أو المصور الذي يضفي بريشته وألوانه على الصور والألحان ما يزيدها عذوبة وجمالا ويعطيها جاذبية وإيحاء يكسبها الخلود.

يحسب بعض الناس أن الأدب لا يعدو كونه صناعة من الصناعات لا يحتاج إلى فهمه والنبوغ فيه كبير مشققة وعناء إلا ما يحتاجه صاحب المهنة لإتقان إحدى الصناعات اليدوية والبروز فيها والتفنن في إظهارها للناس بالمظهر الذي يجعلها أكثر اتقاناً وإغراء للشارين. كما يحسبه بعضهم تجارة تخضع لقاعدة العرض والطلب فيفهمون الأديب الناجح بمقدار ثروته وما تدر عليه كتاباته من مال وثراء فإذا أخفق في جلب الثروة ولم يتمكن من الربح المادي عدوه فاشلاً ونظروا إلى كتاباته نظرة عدم اهتمام كما ينظرون إلى بضاعة من البضاعات كسدت ولم يبق لها شار في السوق.

وبعضهم يرى الأديب الناجح من كثر إنتاجه وتعددت الصحف التي يكتب فيها والتي تنشر اسمه وتنوه بكتبه وآثاره غاضين النظر عن قيمة هذه الكتب والآثار الأدبية من وجهة الجمال والفن والإبداع، وما في أفكار صاحبها من ابتذال وفسولة.

وهؤلاء الذين فهموا الأدب والأديب هذا الفهم الخاطئ معذورون لأنهم لم يتوصلوا إلى فهم الحياة أو يتذوقوا ما في الوجود من أسرار وجمال وعواطف. لأنهم يكتبون ويفكرون ويحكمون، بعقولهم فقط تاركين قلوبهم هملاً لا تحيا في أعمالهم الأدبية وما يصدرونه من أحكام. كالآلات الميكانيكية تعمل وتنتج في كل وقت وفق خطة مرسومة لا تحيد عنها قيد شعرة.

وبسبب هذا الفهم المغلوط وانتشاره في الأدب العربي والأدباء العرب نشاهد كثيراً من الذين يكتبون ويؤلفون تبدو آثار الصنعة والتقليد وبرودة الموت في إنتاجهم لأنهم يكتبون بدون عاطفة وإحساس بهذا الخارق العظيم في الحياة وهو القلب ولزوم اشتراكه أو ظهوره في إنتاجهم وكل أعمالهم. وذلك لأنهم تعلموا الأدب ودرسوه كصنعة من الصناعات ومهنة من المهن لذلك جمد إحساسهم وماتت عواطفهم فجاء أدبهم صورة تنطق بالفقر من الإحساس والتصوير والابتكار.

وإني أطالع أحياناً ما يكتبه الكاتبون والأدباء، وخاصة في الأدب الوجداني، فأرى في آثارهم صدق الإحساس وحرارة التعبير وشبوب العاطفة، وهذه هي صفات الأدب الصادر في صدقه وحرارته وشبوبه عن وجدان حساس تهزه العاطفة فينتفض وتمسه الأزمة فيرتعش. وأطالع أحياناً أخرى آثار بعض الأحباء الآخرين فأرى التكلف فيها واضحاً والاجترار ملموساً والصنعة ظاهرة وهذه هي صفات أدب التصنع الذي لا يثير في النفس إحساساً ولا يحرك عاطفة ولا يعالج عقدة، وذلك لأنهم يكتبون كتابة آلية لا تدعوهم إليها دواعي الوجدان أو تثيرهم إحدى الأزمات النفسية فتلهب عواطفهم وتحرك قلوبهم.

وإني امرؤ أقرأ الأدب بقلبي وعاطفتي وأحكم على صدقه بما يثيره في نفسي من اهتزازات وأحاسيس تجعلني أشارك كاتبه في الشعور والإحساس رغماً عني لأنه صادر عن قلب حساس يتألم أو ينتشي، ويصور بصدق ما ينتفض في القلب من اختلاجات وما يجول في الذهن من أماني وآراء. أما الأدب الكاذب فهو الذي لا يثير أدنى شعور ولا يحرك خلجة فؤاد لأنه صادر عن عقل جامد صدئ يتصنع الشعور ويتكلف الإحساس.

إن القلب يجب أن يحيا في كل ما يكتبه الكاتب والأديب وإلا جاء إنتاجه ممسوخاً وخالياً من كل شعور أو إحساس، لأنه يكتشف بذلك عوالم مليئة بالجمال حافة بالمتع والمباهج. حتى الألم عنده له لذة غريبة تكسب أدبه جمالاً فنياً رائعاً كجمال تماثيل الفواجع الخالدة. وعندها يكون تفكيره وإنتاجه صادقاُ ينقل الصور ويسجل الحوادث ويزيد في ذخيرة الأدب لوناً يكسبه الخلود. . .

لذلك يجب على الأديب الحق الذي يحاول أن يكون في أدبه خالقاً وفي آرائه مبدعاً وفي تفكيره ناضجاً، أن تكون هناك صلة وثيقة دائمة بين عقله وقلبه وقلمه وبما يفكر ويكتب ويصور، لن جميع الأعمال الأدبية والفنية لا يكتب لها الخلود إلا إذا كانت صادرة من قلب ينبض وعقل ينظم وقلم يكتب ويصور.

أما هؤلاء الذين نراهم، في كل يوم، يسودون الورق بهزيل الأفكار وتنميق الألفاظ وبهرجة العبارات بدون أن يكون لإنتاجهم صدى يبعث فينا الروعة التي نشعر بها أو نحسها عندما نطالع أثراً أدبياً أو نرى عملا فنياً اشترك فيه القلب العقل. أما هؤلاء فسيظلون على الهامش وستذهب كتاباتهم مع الريح.

(بغداد)

مهدي القزاز