مجلة الرسالة/العدد 738/مكتبة الأطفال العربية
→ حجة تاريخية | مجلة الرسالة - العدد 738 مكتبة الأطفال العربية [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 25 - 08 - 1947 |
بعض الاختبارات الشخصية والملاحظات التوجيهية
للأستاذ كامل كيلاني
زعموا أن ثلاثة أمراء اخوة أشقاء، خرجوا يتنافسون في مهر بنت عمهم السلطان، بعد أن تواعدوا على الاجتماع آخر العام في مكان بعينه ليروا: أيهم ظفر بأنفس هدية للأميرة. فلما التقوا رأوا أحدهم قد ظفر بمنظار سحري يرى فيه الناظر كل ما يدور بخلده، ولو كان في أقاصي الدنيا. وظفر ثانيهم ببساط سحري يحمل راكبه محلقاً به في كل جو من الأجواء فيبلغه غايته في لحظات يسيرة وظفر ثالثهم بتفاحة شافية تبرئ من السم وتعيد الحياة إلى من أشرف على التلف. ونظروا في المنظار فإذا الأميرة على فراش الموت تحتضر. فأسرعوا إلى البساط، فإذا بهم عندها في الحال. وأدنوا التفاحة منها، فشفيت على الفور. وحاولوا أن يعرفوا: أيهم صاحب الفضل في شفائها فلم يهتدوا إليه. فلولا المنظار لما عرفوا مرضها الخطير، ولولا البساط لهلكت قبل أن يصلوا إليها، ولولا التفاحة الشافية لما كان لوصولهم فائدة. فإذا نقصت واحدة من هدايا الأسطورة ضاع كل أمل في شفاء الأميرة. ولعل في هذه القصة مثلاً دقيقاً يوضح ما يجب على من يتصدى للكتابة للأطفال أن يهدف إليه ويجعله نصب عينيه وحفل أذنيه.
إن تحبيب الكتاب إلى نفس الطفل هو أول الوسائل لتمكينه من القراءة. ومتى ظفر بهذه الغاية ظفر بالمنظار السحري الذي يرى صاحبه كل ما يريد أن يراه. أما الأسلوب القصصي الساحر فهو بساط الريح الذي يتناقل بالقارئ إلى أبعد الآفاق الفكرية في لحظات يسيرة، ويطير به على أجنحة الخيال البديع محلقاً به في سماء الحقائق، دون أن يلحق به كلالاً ولا جهداً. أما التفاحة الشافية فتتمثل فيما تتركه القراءة النافعة من آثار نفسية رائعة، تشفي سموم الجهالة وتبرئ من النزعات العارمة التي نعجل بصاحبها إلى الهلاك وتقذف به إلى الهاوية. ولنقف عند لأول هذه الأهداف الجليلة لحظة قصيرة، فما تتسع هذه الوجازة الخاطفة لغيرها لنقف عند الخطوة الأولى، وهي تحبيب القراءة إلى الطفل، وتمكين الفصحى من نفسه، وحمايته مما كان يغمرنا من البيان المشوه المضطرب، وتجنيبه ذلك الشر المستطير من سيل العامية الجارف الذي كان يفرقنا في مستهل نشأتها الثقافية، و يزال يغمر الكثيرين من ناشئة اليوم ورجال الغد، فيقضي على مواهبهم البيانية - أو يكاد - في زمن حداثتهم. ولنعد لهم بياناً عربياً خالصاً يطبع الطفل على الفصحى منذ طفولته الباكرة، حتى إذا كبرت سنه صارت له الفصحى - كما كانت لغيره من أسلافه العرب في عصور الفتوة الأولى - سليقة وطبعاً، وأصبح البيان العربي متأصلاً في نفسه عادة وملكة. وبرئ من العجمة المتفشية بين شباب العصر وفتيانه.
أما السبيل إلى هذا الحلم الجميل، فتحقيقها ميسور غير مستحيل.
إننا إذا رقابنا كلام الطفل وهو في مستهل طفولته، رأيناه يلجأ - كما قلت في بعض المناسبات منذ عشرين عاماً - إلى تكرار الجمل إذا قص علينا خبراً، كأنما يتثبت من معانيها في ألفاظها المكررة. فلماذا لا نكتب له وهو في هذه السن محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ لتثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً؟ ولماذا لا نكرر له الجمل برشاقة ليسهل عليه قراءتها! ذلك أجدر بنا وأليق فإن لكل مقام مقالاً.
ومن الحقائق المعروفة أن الطفل - في هذه المرحلة - ملول يتهيب الكتاب، فلننزع من نفسه هذا الملل، ولنحبب إليه الكتاب بكل وسيلة، ولنبسط له الأسلوب تبسيطاً مكثرين من الصور الجذابة الشائقة التي تسترعي انتباهه، لنشعره أن الكتاب تحفة تهدي إليه إهداء، وليس واجباً يكلفه تكليفاً. فإن الطفل - إذا ساء ظنه بالكتاب - صعب اجتذابه إليه بعد هذا.
وقد وفق أكثر من تصدوا لتأليف كتب الأطفال توفيقاً عجيباً في تبغيض القراءة إلى نفوسهم وتنفيرهم من المطالعة، فأصبحوا يمقتون الكتاب أشد المقت، ويهربون من قراءته، لأن المؤلفين لم يراعوا سن الطفل وميوله ورغباته. ولم ينزلوا أو هم - على الحقيقة - عجزوا عن النزول إلى مستواه، ومخاطبته باللغة التي يفهمها وترتاح إليها نفسه. ومن الإنصاف أن نقرر - بصراحة - أنهم لم يضعوا كتبهم على نسق خاص أو منهج بعينه، وأنهم في تأليفهم لم يتشبعوا بفكرة فنية تنتظم الكتاب وتؤلف بين أجزائه. لأنهم يقنعون بتصيد موضوعات الكتاب - كيفما اتفق لهم أن يتصيدوها - فيخرج الكتاب خليطاً مضطرباً لا تؤلف بين أجزائه فكرة بعينها ولا يتناسب أسلوبه مع مدارك الأطفال.
إن الطفل ميال بطبعه - إلى الحكايات والقصص، وهو - بغريزته - مفتون برؤية الصور الجذابة فلنختر له منها ما يناسب سنه، ويتفق وميوله ورغباته وتفكيره. أما الفكرة التي انتظمت مكتبة الأطفال فهي (التكرار) يكثر في أولها ثم يقل شيئاً فشيئاً - كلما تقدم الطفل في القراءة حتى يصل إلى قراءة الأسلوب الموجز الذي لا تكرار فيه بلا مشقة ولا إعنات.
وقد تدرجت بالطفل في هذه المكتبة حتى يكون آخر جزء من كل مجموعة ممهداً لقراءة أول جزء من أجزاء المجموعة الأخرى. فإذا أتم هذه المكتبة أسلمته إلى مكتبة الشباب، وكانت له جسراً يسهل العبور إلى ما تحويه من كتب الأدب ودواوين العرب في سهولة ويسر.
وإنما عمدت في الأجزاء الأولى من مكتبة الأطفال إلى التكرار عمداً بعد أن أقنعتني التجارب العملية والاختبارات الشخصية أنه أصلح أسلوب يلائم الطفل الناشئ ويشجعه على القراءة. ولا غرو في ذلك فإن الطفل الناشئ لا يقرأ الكلمة إلا بجهد كبير. ولا يتم السطر إلا بشق النفس. فلنقتصد جهدنا في استعمال الألفاظ الجديدة. ولنؤلف من الألفاظ القليلة التي يقرؤها الكبير في بضعة أسطر - عدة صفحات كاملة لندخل في روعه أن القراءة ليست صعبة كما يتوهم، وليست شاقة مضنية، كما ألفها في الكتب الأخرى، بل هي سهلة ميسورة، وهي - إلى سهولتها ويسرها - ممتعة شائقة، تملأ نفسه بهجة وانشراحاً، وثمة يشعر الطفل بثقة في نفسه إذ يرى أنه يقرأ صفحة كاملة بجهد يسير، فهو لن يتم قراءة السطر الأول حتى يسهل عليه قراءة السطر الثاني والثالث والرابع وهكذا، لأن الألفاظ لا تكاد تتغير في الجمل إلا بمقدار يسير.
وقد جعلت نصب عيني قصة الرجل الذي كان يحمل الثور صاعداً به درج سلم وهابطاً به دركه، دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب والجهد. فلما سئل في هذا قال: لقد تعودت حمل الثور منذ ولادته كل صباح وما زلت أكبر ويكبر الثور معي ويزداد نمواً كل يوم زيادة قليلة مضطردة، حتى اكتمل نماؤنا. ولم أسعر أن وزن الثور قد زاد يوماً عما كان في سابقه ولم أحس له ثقلاً إلى اليوم.
كانت هذه القصة نواة صالحة لمكتبة الأطفال. فبدأتها بتسلية الطفل متدرجاً به تدرجاً بطيئاً لا يكاد يشعر به ولا يحس له أثراً، مستعيناً على هذا الغرض بالصور الملونة الجذابة والشكل الكامل والألفاظ السهلة. حتى إذا اطمأن الطفل إلى الأسلوب السهل، وامتلأت نفسه ثقة بقدرته على القراءة، انتقلت به إلى المرحلة التالية، فمزجت له التسلية بالفائدة ثم لا أزال أنتقل به خطوة بعد خطوة حتى يرى في فنون المعرفة وحدها ممتعة وتسلية، لا يعدلها شيء من فنون المتع وضروب التسلية. ولم أقصر في تحبيب الفصحى إليه وتعويده النطق بالصحيح من الألفاظ، وتدريبه على الأخذ بالصحيح من الآراء، فإن الخطأ اللفظي كالخطأ المعنوي إذا انطبع أحدهما أو كلاهما في ذهن الطفل منذ القراءة الأولى صعب اقتلاعه، في قابل أيامه. ولا معدي لنا عن ترغيبه - بكل ما نملك من الوسائل - في الأسلوب الرائع والمثل الصالح جميعاً. فلا نتسمح قط في عبارة واحدة تقلل من شأن لغته، أو تصغر من جلال القيم الأخلاقية.
إن تحبيب الكتاب وتخير الأسلوب الصالح والفضائل في نفس الطفل، هي الأهداف الثلاثة التي ترمي إليها مكتبة الأطفال ولابد من اجتماعها لبلوغ الغاية المرجوة، كما اجتمعت هدايا الأمراء الثلاثة لشفاء الأميرة. فإذا نقص واحد منها تهدم البنيان كله، وذهبت جهودنا على غير طائل. وهذه هي الحوافز التي دفعتني إلى تأليفها.
وقد سألتني بعض المجلات كيف أؤلف مكتبة الأطفال، وكيف أتدرج فيها من السهل إلى الصعب فقلت لسائلي: إن إحساس الطفولة عندي كامن مذخور، فأنا أستحضره في كل لحظة، ولدي من وسائل الاختبار والتطبيق لكل ما أكتبه في هذه الناحية أولادي وهم ذوو أسنان مختلفة وقد استطعت بفضلهم على توالي السنين أن أندرج في هذه القصص من السنة الأولى الابتدائية إلى السنة الرابعة الثانوية.
وقد كنت أروي القصة للصغير منهم - حين أؤلف لصغار الأطفال - فإذا انتهيت من روايتها سألته أن يقصها عليّ، ثم دونت ما علق بذهنه منها واسترعى انتباهه من حوادثها. فأثبته وأغفلت منها ما أغفله. ثم سألته أن يقرأها أمامي بعد كتابتها، لأتبين مدى ما ظفرت به من نجاح أو إخفاق. فإذا سألني عن معنى كلمة مما يدق عليه فهمه فسرتها له. فإذا صعب عليه التفسير، استبدلت به كلمة أخرى أسهل وأيسر، ثم أثبت التفسير الأخير الذي استقر فهمه عليه.
هذا هو المنهج الذي أخذت به نفسي في تأليف مكتبة الأطفال فإن وفقت في هذه الخطوة - وأرجو أن أكون - فقد أديت بعض ما يجب أداؤه لهذا الجيل الناشئ الذي نعلق عليه أكبر الآمال.
ولا أكتم أنني طالما عجبت في مستهل نشأتي كيف تنكبت كتب المطالعة العربية سبيل الكتب الأجنبية التي وفق الكثيرون من مؤلفيها إلى تحبيب لغتهم إلى نفوس الأطفال بقدر ما وفق مؤلفونا إلى تبغيض القراءة العربية إلى نفوس الناشئة.
وطالما شكوت بعض أترابي من الطلبة ونحن بالسنة الأولى الابتدائية متبرماً بما في أيدينا من كتب المطالعة العربية مقابلاً بينها وبين الكتب الأجنبية الجذابة الفاتنة. وطالما أجابني صاحبي مستهزئا ساخراً: (وما بالك لا تؤلف خيراً من هذه الكتب؟) وطالما أجبته واثقاً: ذلك عهد عليّ أوفي به إن شاء الله متى كبرت سني، وبلغت مبلغ الرجال)
ولعلي بما ألفت من أجزاء مكتبة الأطفال - خلال هذه السنين العشرين، وقد وفيت بهذا النذر، وحققت منه بعض ما أريد.
كامل الكيلاني