الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 738/حجة تاريخية

مجلة الرسالة/العدد 738/حجة تاريخية

بتاريخ: 25 - 08 - 1947

3 - حجة تاريخية

للدكتور جواد علي

وبعد سقوط القدس على أيدي البابليين عام 586 قبل الميلاد سبى (نبوخذ نصر) العبرانيين وأخذهم معه إلى العراق إلى أرض بابل وتعرف هذه الحادثة في التأريخ العبراني باسم (السبي) وقد استولى (نبوخذ نصر) أربع مرات على القدس، المرة الأولى في أيام الملك (يهوياقيم) سنة 602 قبل الميلاد وكان هذا الملك ملك (يهوذا) وهو ابن (بوشيا) وأخو (يهوآحاز) الذي خلفه في الملك وكان اسمه (الياقيم) فغيره فرعون (نخو) إلى يهوياقيم عندما أجلسه على الكرسي وكان تحت الجزية لفرعون أربع سنين.

ثم سارت عليه جيوش ملك بابل نبوخذ نصر فاستعبده ثلاث سنين (ثم عاد فتمرد عليه فأرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الآراميين وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون وأرسلهم على يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الأنبياء.

ثم ما لبث أن أخذه نبوخذ نصر وقيده بسلاسل من نحاس ليرسله إلى بابل ثم تولى ابنه (يهويا كين) مكانه وفي أيامه تقدمت جيوش (نبوخذ نصر) للمرة الثالثة ودخلت القدس وأخذ الملك وأمه وعبيده وخصيانه وأكثر اليهود أسرى إلى بابل ومعه ما كان عنده من خزائن وما كان في الهيكل من أموال وقد فسرت التوراة ذلك لأنه عمل الشر وعصى أوامر ربه وسار على خطة أبيه وعين نبوخذ نصر (منيا) عم (يهويا كين) بدلاً منه وسماه (صدقيا).

وفي أيام هذا الملك كذلك تقدم نبوخذ نصر هو وجيشه وحاصروا القدس ثم قبضوا على الملك وأخذوه أسيراً إلى بابل وقيدوه بسلسلتين ثم أحرقت القدس والهيكل في السنة التاسعة عشر من حكم (نبوخذ نصر) وأخذ ما كان قد تبقى أسرى إلى بابل.

وعين البابليون (جدليا بن أخيقام بن شافان) على من تبقى من اليهود وقد جاء هذا الملك نداءاً إلى البقية الباقية من اليهود وناشدهم فيه بوجوب الإخلاص لملك الكلدانيين وامتثال أمره، ولما قتل خافه كل من في المملكة فهرب كل اليهود إلى مصر حيث فضلوا البقاء هناك.

ولما قضى الفرس على مملكة البابليين دخل اليهود في حكمهم وأصبحوا لهم أتباعاً. وغد فلسطين جزءاً من مملكتهم والواقع وكما تحدثنا التوراة أن العبرانيين كانوا ضد أي نوع من أنواع الحكم وأنهم لم يرتضوا أن يكونوا لهم مملكة لأن صفة البداوة كانت هي الصفة الغالبة عليهم، وأنهم حتى في أيام مملكة شاوؤل وداود وسليمان وهي المملكة التي يتغنى بها الصهيونيون لم يكونوا ينظرون إليها نظرة ارتياح وأن عهدهم لم يكن يخلو من اضطراب وثورات ولذلك كانوا عرضة للخضوع إلى الحكم الأجنبي.

ولذلك لم يكن ملوك إسرائيل أو يهوذا في الحقيقة سوى رؤساء قبائل أو أمراء مقاطعتين صغيرتين تابعتين لحكم الأجانب فحكمهم المصريون وأصبح ملوك المملكتين الصغيرتين (مملكة إسرائيل) و (مملكة يهوذا) يعينون تعييناً حتى أنهم كانوا يتركون أسمائهم ويتناولون أسماءاً جديدة يغدقها عليهم فراعنة مصر. ثم ملوك الكلدانيين فيما بعد وبعد انقراض دولتهم بسقوط (القدس) أصبحوا تحت حكم الدول الأجنبية تماماً. ولم يجد المفكرون من ذلك غضاضة كما نقرأ في الكتب العبرانية.

ومما يجدر ذكره هو أن العبرانيين لم يكونوا في يوم من الأيام راضين عن ملوكهم وإذا قرأنا التوراة نرى أن الملوك كانوا عرضة لنقمة رؤساء الشعب والكتاب البارزين وأن الأنبياء كانوا يتنبئون دائماً بحلول غضب الله على هؤلاء الملوك، ولم يظهروا كراهية للملوك الفاتحين وهذا ما يفند رأي الصهيونية في الدولة اليهودية القديمة.

ويلاحظ أيضاً أن العبرانيين القدامى قد استعانوا بالعرب وبغيرهم في الدفاع عن أرض فلسطين فلما حاصر الملك (سنحريب) مدينة القدس في أيام (حزقيا) لم يتمكن اليهود من حماية أنفسهم تجاه الآشوريين فاستعانوا بالعرب وطلبوا منهم المساعدة لخلاص القدس وقد سجل سنحريب في أخبار حملته لسنة 701 قبل الميلاد. وكان اسم الأمير العربي الذي لبى نداء الوطن فدافع عن اليهود وقاوم الآشوريين مقاومة عنيفة أزعجت الملك (سنحريب) هو الملك العربي (مصتري) وملك آخر عربي كذلك هو ملك مقاطعة (ملوخا) وبفضل هذه المساعدة الثمينة تمكن العبرانيين من الوقوف أمام الآشوريين.

وقد دافع العرب مراراً كثيرة عن أرض فلسطين في أيام الآشوريين والبابليين واليونان والرومان وقد تكبدوا من جراء ذلك خسائر فادحة ومما يذكر هو أن اليهود كانوا بالنظر إلى عدم استطاعتهم الوقوف أمام الأجانب قد اضطروا إلى الاتفاق مع الإمارات العربية لاستئجار جيوش عربية لتتولى الدفاع عما تبقى من الأراضي في أيدي العبرانيين. ولم يبق بالطبع بعد السبي في فلسطين جاليات كبيرة من اليهود، بل أصبح اليهود أقلية خاضعة لحكم الأكثرية تسكن في أماكن معينة تحت حماية الفرس فاليونان فالرومان ثم البيزنطيين.

ولما احتل البابليون في عهد ملكهم نبوخذ نصر القدس كان العرب في ذلك العهد يمتلكون أكثر أراضي فلسطين مثل أرض موآب وأدوم وفلسطين الجنوبية وكانت عزيمة العبرانيين خائرة والنبي (أرميا) يحذر الناس من المقاومة ويطلب منهم الاستسلام وكانت نتيجة ذلك تخريب بيت المقدس والهيكل وأخذ اليهود أسرى إلى بابل، ومنذ ذلك العهد فقد اليهود عملياً كل كيان لهم في فلسطين.

أما العرب فقد دافعوا دفاعاً مجيداً أزعج نبوخذ نصر وجعله يقرر الزحف على البادية والحجاز بإشارة من أرميا وكانت المعارك شديدة بين الطرفين.

وقد تولى العرب منذ هذا العهد حتى الآن أمر الدفاع عن أرض فلسطين فكافحوا الحكم الروماني وحاربوا البيزنطيين ولما قامت جموع العرب في الحجاز تحت راية الإسلام تحرر البلاد العربية اشتركت القبائل العربية وأكثرها من كلب ولخم وجذام ومن استعرب من سكان فلسطين مع المسلمين في مقاتلة البيزنطيين إخوانهم في الدين، لأنهم كانوا يشعرون بشعور قومي وبشعور الرابطة التي كانت تربطهم بشبه جزيرة العرب وتقدمت الجيوش الإسلامية في أراضي سورية وتمكنت من طرد الروم. وفي ذلك دليل كاف في دحض حجج الصهيونيين.

وقد كان المسلمون والنصارى سكنة فلسطين يحاربون سوية جيوش الصليبيين الذين حاولوا باسم الدين احتلال فلسطين ولم يشترك أي يهودي في مقاومة هؤلاء الغزاة وقد اشترك العرب مسلمون ونصارى في مكافحة العثمانيين وتحرير فلسطين من حكمهم وفي النهضة العربية فأي حجة تاريخية يتذرع بها الصهيونيون إذا في حقهم التاريخي القديم في فلسطين وهم لم يقاتلوا في سبيل الأرض المقدسة ولم يحاولوا الوقوف أمام الآشوريين والبابليين والرومان عندما كانوا يدخلون القدس ويخربون الهيكل وبيت داود.

وقد ادعى الصهيونيون بأن العبرانيين كانوا يحنون دائماً إلى العودة إلى (أرض إسرائيل) وأنهم ما فتئوا يتذكرون أرض الأجداد والآباء وأنهم يريدون إحياء ثقافتهم في تلك الأرض الموعودة ولكن التوراة والتواريخ تكذب أقوالهم هذه أيضاً، فإن العبرانيين الذين كانوا البابليون قد أخذوهم أسرى إلى بابل ثم سمح الفرس لهم بالعودة إلى أرض فلسطين بعد انقراض حكومة بابل، في أيام (كورش) فضلوا الإقامة في أرض العراق على الذهاب إلى (أرز إسرائيل) ولم يلبّ نداء زعماء اليهود وأنبيائهم غير القليل، لأنهم وجدوا أنفسهم في أرض طيبة وفي موطن ملائم وقد بقوا في العراق حتى الآن وقد تولى بعضهم مناصب عالية في الحكومة، كما أن اليهود الذين هاجروا إلى مصر فراراً من حكم نبوخذ نصر فضلوا البقاء في مصر على الذهاب إلى فلسطين وفي ذلك دليل على عدم صحة أقوال الصهاينة في وجود الحس السياسي والوطن القومي عند العبرانيين.

وأما النداء الذي وجهه الملك (كورش) إلى رؤساء إسرائيل والنداء الذي وجهه الأنبياء فإنه لم يكن ذا طابع سياسي بل كان يحمل الطابع الديني المعهود فاليهود الذين ذهبوا لبناء (الهيكل) والذين ساعدهم (كورش) بتقديم كل المساعدات اللازمة والذي أمر بإعادة ما كان قد أخذه (نبوخذ نصر) من ذهب وفضة من خزائن الهيكل لم يحاولوا تكوين مملكة سياسية بل ذهبوا لبناء (بيت الرب إله إسرائيل) ولذلك كانت الحكومة التي كونها العبرانيون في القدس حكومة دينية تحت حكم الفرس ومما يذكر أن (عزرا) الذي فوضه الملك (ارتحشتا) أمر قيادة رجال السبي وإعادة بناء الهيكل اتخذ كل وسائل القوة لإجبار اليهود على العمل بشرائع الرب وعلى العبادة والتوبة وقد كان من نتيجة ذلك اعتناق جماعة من الفلسطينيين ديانة العبرانيين.

ومع ذلك فإن الأرض التي نزل بها اليهود بعد السبي كانت صغيرة جداً أصغر من أرض (مملكة يهوذا) الصغيرة ذاتها مركزها القدس وتمتد في الشمال إلى حدود (الرملة) وإلى (حبرون) في الجنوب. وإلى حدود الأردن في الشرق والسهول في الغرب.

وكانت منطقة (السامرة) التي لا تبعد إلا قليلاً عن مدينة (نابلس) مأهولة بسكان من العراق كان الآشوريون قد نقلوهم إلى هذا المكان ومن السامريين الذين لم يعترفوا بزعامة رجال الكهنوت في القدس واختلفوا عنهم. ثم أصبحوا من أشد الناس خصومة لهم، فقاوموهم وحاربوهم مع أنهم من أصل عبراني وهذا ما يدل على أن اليهود لم يكونوا على رأي واحد حتى في إحياء الهيكل وإعادة الدولة اليهودية بشكل جديد سماه (المستر لويد جورج) والتقرير الذي وضعته اللجنة الملكية التي أرسلت في عام 1936 للتحقيق في حوادث فلسطين (بأول وطن قوص لليهود)

ومما يذكر أن اليهود الذين عادوا من السبي ما كادوا يشرعون ببناء السور والهيكل وتحصين القدس حتى ثار سكان فلسطين عليهم وهم الأكثرية فأعلنوا الحرب واشترك في ذلك (سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون) وجشم العربي وبقية شعوب فلسطين.

بني السور وتحصن العبرانيون في القدس وتكون مجتمع يهودي صغير في هذه البقعة بجهود (عزرا ونحميا) وقد أمر (هذان الزعيمان بأن تكون القدس مستعمرة يهودية بكل معنى الكلمة تتكلم اللغة العبرية وتحترم (الشباث) (السبت) وتحتفظ بقوانين العنصرية فأمر العبرانيين الذين تزوجوا بزوجات أجنبيات من الوطنيات بطلاقهن على الطريقة التي اتبعت فيما بعد وبعد ألفي سنة في قوانين (نورنبرك).

لم يستطع هذا (الوطن القومي) الذي خلقه (عزرا) و (نحميا) ولك تتمكن القوانين الصارمة التي فرضاها على العبرانيين من خلق ذلك الوطن فظل صوت اليهود خافتاً لم يرتفع في فلسطين على الرغم من المساعدات القيمة التي قدمها لهم (ملوك الفرس) الذين تجاهلوا رغبات الأكثرية من الوطنيين ولم يبذل العبرانيون أنفسهم لخلق ذلك الوطن لأنهم لم يفكروا تفكيراً سياسياً بل كانت كل جهودهم متوجهة نحو الاحتفاظ بديانة إله إسرائيل، ما خلا فترات قام بها بعض الزعماء بالدعاية إلى العنصرية لم تلاق غير رواج مؤقت.

جواد علي