مجلة الرسالة/العدد 70/في الأدب الدرامي
→ من أدب الحزن | مجلة الرسالة - العدد 70 في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
فقيد الأدب التونسي ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1934 |
الرواية المسرحية
في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
المأساة العصرية أو الدرامية
كانت كلمة الدرام تطلق على جميع الأنواع التمثيلية، حتى خصصها المحدثون بنوع جديد عرفه قاموس المجمع العلمي الفرنسي بأنه (قطعة مسرحية نثرية أو نظمية تخلط المأساة بالملهاة، وتبرز الموضوع الجدي في المعرض الفكه، وتقبل كل نمط من الأشخاص والأخلاق واللهجات). وتكميلاً لهذا التعريف نضيف إليه كلمة قالها (هجل) وهي: (إنها نوع وسط غير مستقر، يعني بدقائق الحياة الداخلية ومشاكلها، وصور الحياة الخارجية ومناظرتها، وتتميز من المأساة الاتباعية البسيطة الساذجة بكثرة أشخاصها، وغرابة حوادثها، وتعدد مفاجآتها، وتعقيد العمل فيها إلى حد الارتباك والغموض). أما أرباب المذهب الابتداعي ومن قبلهم شكسبير فلم يكتفوا بتأليفها وتمثيلها، وإنما وضعوا لها القواعد وشرعوا لها المناهج، وقالوا إن الدرامة صورة صادقة مؤثرة للحقيقة بل هي الحياة نفسها: هي الهوى يعمل ويتكلم ويحكم ويفكر بصوت جهير أمام الجمهور السامع
إن المأساة لم ترد أن تتنزل عن أفق الأبطال والسراة والملوك، والملهاة قصرت نفسها على وصف عيوب الأوساط، أما الدرامة فهي أتم واعم واصح، لم تفضل فريقاً على فريق، ولم تؤثر طبقة على طبقة، فهي تسوى بين الملوك والسوقة، وتمزج البسمات بالعبرات، وتستمد التاريخ والقصص والحكايات والخرافات، لا تستثنى شيئاً ولا تحتقر شخصاً، ولا تحصر نفسها في ضيق القواعد والتقاليد، فموضوعها الإنسانية بأسرها. أما اليوم فقد اختلفت على هذا النوع الأسماء والتعاريف لتشعب مناحيه، وتعدد مذاهبه، واتساع مجاله، واختلاف أطواره. فكان يسمى أولاً: الرواية الجدية الهزلية - ثم المأساة الحضرية ثم المأساة الشعبية ثم الملهاة الجدية وهم يطلقون عليها الآن اسم الدرامة الحديثة، أو الدرامة فقط. ولا نجد ابلغ في الكشف عن حقيقة الدرامة مما كتبه عنها زعيمها وابن بجدتها فكتور هوجو في مقدمة (كرومويل) نستعين بتلخيصه لك على شرح هذا النوع الطريف الذي يعدونه الآن افضل الأنواع واكمل الأشكال للتمثيل فوق المسرح الحديث؛ لأنه باختياره الأشخاص من كل الطبقات، وتفضيله التأثير في الحواس على تحليل الشهوات كان اكثر أنواع المأساة ملاءمة للذوق الديمقراطي الغالب اليوم. قال هوجو ما محصله: النظارة أصناف ثلاثة: النساء والخاصة والعامة؛ فالعامة يطلبون من الرواية العمل أو الحادث، والخاصة يطلبون منها الخلق أو الدرس، والنساء يطلبن منها الشهوة والهوى. لأن العوام يبتغون من المسرح التهيج، والخواص يبتغون منه التفكر، والنساء يبتغين منه التأثر؛ وغرض هؤلاء جميعاً اللذة: فالعامة تريد لذة النظر، والخاصة تريد لذة العقل والمرأة تريد لذة القلب. ولكل منهم الحق فيما يبتغي ويريد ومن ثم كانت روايات هوجو ثلاثة أنواع مختلفة: أحدها عامي سوقي، والآخران شريفان رفيعان، وفي ثلاثتها حاجة المسرح وكفاية الناس. فللعوام المأساة العامية (الميلودرام) التي تصف لهم الفظائع، وللخواص الملهاة التي تصور لهم الأخلاق، وللنساء المأساة التي تحلل لهن الأهواء. وربما تدخل بعض هذه الأنواع في بعض، فقد يوجد في السوقة من يتذوق الجمال ويتطلب الكمال ويغرق في التخيل، وفي السراة من يطلب غير الأدب لطف الشعور، وفي النساء من تبتغي مع التأثر رياضة الذهن. فغرض الدرامة إذن هو تصوير الأخلاق بخلق الأشخاص وتمثيلهم على المسرح تبعاً لشروط الأشخاص لبيان أخلاقهم وتوضيحها، واستخراج الحياة الإنسانية من هذه الأخلاق والأهواء التي تتصادم وتتلاحم، فتنتج الوقائع الكبيرة والصغيرة، والحوادث المحزنة والمضحكة، التي تنطوي على لذة القلب يسميها الناس منفعة، وعلى عظة للعقل يسميها الحكماء حسن خلق. فبان من ذلك أن الدراسة تأخذ من المأساة تحليل الأهواء والشهوات، ومن الملهاة تصوير الأخلاق والعادات. فهي الشكل الثالث من أشكال الصناعة الأدبية، وهو أكبرها وأعمها، لأنه يشمل الشكلين الأولين فيمزجهما ويشرحهما. ولو لم يوجد شكسبير بين كورني وموليير فمد يسراه إلى الأول ويمناه إلى الثاني، لبقي كل منهما بعيداً عن الآخر فبوجوده التقت الملهاة بالمأساة التقاء الموجب بالسالب في الكهرباء، فحدث من التقائهما شرارة هي الدرامة
ثم مضى هوجو بعد ذلك في بيان حقيقة الدرامة من جهة الفلسفة التاريخية نحيلك عليه إذا شئت، ونكتفي نحن هنا بما أجملناه من كلامه
فالدرامة إذن كل نوع، وترتضى كل شكل، مادامت تضمن التأثير في المشاعر والخواطر والقلوب، وهي تسلك لهذه الغاية اسهل الطرق واقرب السبل. فلها في الطفولة المعذبة، والشيخوخة العاجزة، والزمانة المعدمة، والكرم في الأملاق والقحط واليأس، مواقف قوية التأثير شديدة الروعة؛ وفي المستشفيات والسجون والأحياء الفقيرة العاملة مسارح للرعب والرحمة، لها من البيان والتأثير ما يغنى المؤلف الذي يعرضها للأنظار والأفكار عن تكلف الأداء وتجشم البلاغة
إن المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية، لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك ومخاطر الأبطال وحوادث القصور، ولكنها تؤثر فينا كل التأثير لاتصالها بنا واقترابها منا؛ وإذا كان افضل الأنواع أمتعها للجمهور، واشدها أثراً في الكثرة، فان الدرامة تفوق المأساة بهذه المزية، وتفضل الأنواع جميعاً بقوة الجاذبية، وإذن يكون كورني وراسين وفولتير قد جهلوا فن التأثير، وسهروا الليالي الطوال في البحث عنه في الطبقات العليا، والحوادث الكبرى، وهو منهم على طرف الثمام لو نظروا في الطبقة الدنيا وفكروا في الحياة العامة، ولو كان هؤلاء حقيقة قد جهلوا قوة الدرامة وسهولتها فما بال الإغريق واللاتين لم يتوسلوا بهذه الوسائل القريبة إلى التأثير والجاذبية؟ وما بال شكسبير وهو أمام الروائيين غير مدافع لم يختر موضوعاته من حياة الشعب، وفضل جرائم الملوك ونكباتهم على جرائم السوقة ونكبات العامة؟ الحق إن الإغريق كانوا يعلمون علم اليقين إن في الناس من كبابه الجد فألقاه في مراغة الذل والبؤس فأعسر بعد اليسر، وهان بعد العز، ولكنهم كانوا يجهلون أو ينسون أن الملوك هم أيضاً غرض لسهام القدر، وأن المرء مهما عظم قدره لا يعظم على النوائب ولا يكبر على الإحداث، وأن خطوب الدهر لا تخص بفتكها طبقة، دون طبقة فاستفادوا من المسرح هذا الدرس النافع والعظة البالغة، كذلك كانوا يعلمون أن في الناس المأفون والشهوان والخبيث والمجرم، ولكنهم كانوا يجهلون أن الملوك أيضاً فيهم الأفن والشهوة والخبث والأجرام، وان نتائجها فيهم افظع وافجع منها في السوقة، فاستنتجوا من المسرح أن الشعب مأخوذ بجرائر الملوك، فأخذوهم بالحزم وحسن السياسة، بله ما كان عليه الناس في الأزمان الخالية من تنزيه الملكية، وتقديس البطولة، وازدراء الشعب. فلما ابتذلت أفنية الملوك، وعلت كلمة الشعوب، وغلب نظام الديمقراطية، احتقر الناس مصائب الخاصة، ورأوا أن الأهواء والأرزاء تنصب فخاخها لكل الناس، وان الواقع فيها من أي طبقة ومن أي بيئة يصح أن يكون عبرة ونكالاً لغيره. حينئذ اخذ الكتاب يدرسون العامة، ويعلمون الجمهور بتحليل نفسه وتعليل جرمه، ويثقفون خلقه بتصوير نقصه ووصف عيبه، فيحاربون العيب بالخوف من السخر والخشية من الخجل، والجريمة بالفزع من وخز الضمير الذي يصحبها والقصاص الذي يعقبها، والهوى بوصف ما يجره من الآلام والمخاطر والمصائب، ووجدوا الحال تقتضي نوعا جديدا من الرواية يلائم حال الاجتماع ونظام الحكومة ورقي الفكر، فكانت الدرامة وليدة هذا الانقلاب وسداد هذا العوز
على أن التأثير والجاذبية لم يكونا يوماً ما من أغراض المسرح في الأمم المثقفة المستنيرة، وإنما كان التمثيل عندهم كالخطابة، يجذب ليهذب ويعلم، ويؤثر ليقرر ويفهم. وما التأثير إلا وسيلة من وسائله لا غاية من غاياته. فالدرامة التي لا تعلم ولا تهذب تكون من المأساة بمثابة المهزلة من الملهاة. ولا شك إن المهزلة تضحك الجمهور اكثر مما تضحكه ترتوف والمستوحش، والدرامة التي من هذا النوع تبكيه اكثر مما تبكيه (سنا) و (اتالي)، ولكنه إذا ظل مائة سنة يضحك ويبكي لهذه المناظر، فأية فائدة يستفيدها، واية فكرة يكتسبها ويستزيدها؟
فالدرامة القوية هي ما وضعت في قلب الرجل علل حوادثه وبواعث عمله، فتجعله شقياً بزلته، مشفياً على الخطر بغفلته؛ وهي لذلك تطلب مؤلفاً يكون ثاقب الفكر صادق النظر قوي الملاحظة خصب المخيلة عميق الإحساس بليغ الأسلوب جيد الاختيار؛ وموضوعاً يجمع بين التأثير والإفادة وبين الابتذال والصيانة وبين الغرابة والسذاجة، فلا يكون عقيماً ولا سقيماً ولا سوقياً ولا شعرياً ولا متكلفاً؛ وعملاً يكون سيره نشيط الحركة موزون التدرج محكم التعقيد بارع الحل؛ وعادات حضرية أو شعبية تكون مع موافقتها للحق غير ساقطة ولا جافية؛ ولهجة بسيطة تلائم الأشياء والأشخاص، فتكون صحيحة سهلة نقية ذكية شاعرة لا تعلو على الموضوع، ولا تسفل إلى درك التعمل والركاكة. وتلك مطالب أعيت أولى القرائح الكليلة، فانصرفوا إلى الجانب الأسهل منها، واخذوا يلتمسون التأثير في الجمهور بعرض الحوادث المنتزعة من الحياة العامة لتغنيهم بفظاعتها عن إجادة الكتابة وإجالة الفكر، ويبنون هذا الرأي السخيف على قاعدتين خاطئتين: أولاهما أن كل جذاب من القول والفعل صالح للمسرح، وأخراهما أن كل ما أشبه الطبيعة جميل، وكل تقليد صادق لها حسن. لا أنكر إن لا شئ يلوع القلب ويمزق الحشا مثل أن ترى بيتاً متهدماً تسكنه امرأة كريمة عدا عليها الفقر ومسها الضر وجاز بها الدهر حد اليأس والفاقة؛ وأنا زعيم لك بأنك تغرق الناس بالدمع، وتضرم الأنفاس بالحزن، إذا عرضت على العيون منظر هؤلاء الأطفال يتضاغون من الجوع ويطلبون إلى أبيهم المسكين كسرة من الخبز وهو لا يستطيع، ومثلث دموع تلك الأم ترى رضيعها يلفظ أنفاسه في حجرها من السغب وهي لا تملك له حياة ولا نفعاً، ولكن ارني ذلك الشعب الغليظ الكبد الذي يلهيه ويسليه مثل هذه المناظر؟ وأية فائدة تجدها في هذا المصاب الأليم العقيم الذي فجع هذه الأسرة وهي لم ترتكب خطأ ولم تقترف اثماً؟ آلمني، ولكن لتعلمني كيف احتاط لنفسي من الوقوع في مثل هذا الضرر والذي اشهده. مثل لي أسرة بائسة أوقعها بين مخالب البؤس والفاقة عيب أصيل في نفسها، وهوى دخيل في قلبها، فان الألم الذي يتالني من رؤية هذا المنظر يعوضني منه ذلك الدرس الذي أستفيده من شهود ما يجره الهوى التحكم والعيب المتأصل من الأذى والمضرة: استفيد ان الإنسان حر في اتقاء مثل هذا المصاب، وان أسبابه من العيب والهوى والغفلة والضعف لم تكن أدواء لازمة ولا محتومة، أما الحرق والغرق والزلزال والوباء وكل ما يصيب المرء من غير كسبه ولا اختياره فلا استفيد من رؤيته غير الألم العقيم والهم الخالص
ان فضل الكاتب وجمال المسرح هما في عرضهما ما نود ان نكونه لا ما نحب أن نتأثر به. ومهما يكن الشيء العامي المبتذل مؤثراً فلا بد ان يكون على المسرح أسمى وأروع مما أستطيع أن أراه واسمعه من شباك بيتي، فان بين الأشياء المؤثرة كذلك تفاوتاً وتفاضلاً وتخيراً. وليس في الحياة موضوع يصح ان يكون روائياً بنفسه إذا قلدته على علاته ونقلته بجميع صفاته؛ فقد تجد فيه من الطول والفضول والنقص والسخف ما يخجلك إذا حكيته، ويأفنك إذا مثلته ان مهارة الكاتب القصصي في ان يجعل الموضوع طريفاً لذيذاً ومهارة الكاتب الروائي في ان يبسطه ويزخرفه فيحذف منه البارد الغث ويضيف إليه ما يزيد في تأثيره وحدته وجدته وطرافته بحيث يكون شبه الحقيقة وهيئتها لا صورتها ولا نسختها والحال في الأعمال مثل الحال في الأقوال: فان الكاتب الذي يكتب كما يتكلم ليس بكاتب. إذ كل لغة من لغات الناس فيها الشريف الحر والرقيق الأنيق، كما إن فيها السوقي والحوشي والفج. والذوق وحده هو الذي يصفي العبارة من اللغو، وينقى الأسلوب من الغثاثة، كما يعزل الغربال الزوان والحصا من الحب الصحيح. ذلك ما نعقله ونقبله؛ أما نقل ما ترى وحكاية ما تسمع بما فيه من سماجة وفضول واقتضاب، على انه صورة الطبيعة ورسم الحقيقة، فتلك حجة يلجأ إليها الأدعياء ليدرأوا عن أنفسهم معرة الضعف في الاختيار والعىّ عن الابتكار والعجز عن التجديد والتوليد
بعد ما تقدم نستطيع ان نجمل القول في المأساة العصرية بذكر الفروق بينها وبين المأساة القديمة فنقول: إن الدرامة تجمع بين الجد والهزل والسرور والحزن والاحتشام والتبسط والضعة والرفعة، وتختار أشخاصها من كل طبقة وبيئة، وتقتبس موضوعها من حياة العامة او العصور الوسيطة أو العصر الحديث. أما المأساة فكلما علمت تزدري الموضوعات القومية والعصرية، وتختار موضوعاتها من الأساطير أو من التاريخ القديم، وتعنى على الخصوص بالعالم الداخلي من الإنسان، فتبحث عن أخلاقه وعواطفه واهوائه، فهي تضع على المسرح نفوساً بدل ان تضع اشخاصاً، ولا تعنى مطلقا بالرياش المسرحي ولا باللون المحلى، وتقصد كل القصد في تعقيد العمل الروائي؛ ولكن الدرامة لا تحفل إلا بالعالم الخارجي من المرء، والجزء المادي من المسرح، وتبالغ في رعاية الرياش والزخرف، وترجع التأثير في الحواس على التأثير في الذهن، وتحرص على أن تظهر الأشخاص في لباس الزمن الذي عاشوا فيه وتسمهم بعادات بنيه، وتؤثر تعقيد العمل وتحرج المواقف على وصف الأهواء وتصوير العواطف. ثم إن المأساة تخضع لقانون الوحدات الثلاث ولا تجيز نجوى النفس. ولذلك خلقت الأنجياء ليسارهم الأشخاص بما يفكرون؛ ولكن الدرامة تحلنت من سلطان الوحدات الثلاث فلم تبق إلا وحدة العمل، وأسرفت في إيراد النجوى على السنة الأشخاص الأصليين فياضة بالأسلوب الوجداني فقضت بذلك على الانجياء
يتبع
الزيات